الحجاب فريضة محكمة
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لا يعنيني في هذه المعالجة أن أدخل في التفاصيل المتعلقة بفريضة الحجاب، والتي قد يقع فيها الاختلاف بين العلماء؛ ما بين مضيق وموسع، وما بين مُتَتَرِّسٍ بالاحتياط وسد الذرائع وآخر مُبْتَغ لأسباب التيسير والترخص، ولا يعنيني كذلك الاستطراد مع الفروع المستغرقة في ذكر الشروط واستقصاء الأحكام، وإنما يعنيني فقط تثبيت المحكم، الذي يوشك أن يتصدع وينهار تحت مطارق الشبهات والشهوات، وصواعق الاختلافات المفتعلة والفتاوى المرتجلة.
والمحكم هو (الحجاب) سواء قُصد به سَتْرُ جميع جسد المرأة عدا الوجه والكفين، أو قصد به تغطية الوجه والكفين مع جميع أعضاء بدنها، وسواء دخل في شروطه ما أدخله المتشددون فيه أو خرج من شروطه ما أخرجه المتساهلون فيه، الحجاب كشعيرة وفريضة إسلامية محكمة، الحجاب كمظهر من مظاهر المجتمع المسلم وسلوك من سلوكيات المرأة المسلمة؛ أرسخ وأشمخ من الجبال، هذا فقط هو الذي يعنيني وهو الذي أُعْنَى به هنا.
ولنبدأ بتقرير هذه القاعدة التي تُعَدُّ نبراساً ومقياساً في تمييز الثوابت والمحكمات، فهل يماري أحد في أنَّ القرآن الكريم إذا تناول أمراً بالتفصيل؛ فإنَّ هذا الأمر يكون في أصله محكماً وإن اخْتُلِفَ في الفروع والتفاصيل ؟ فكثير من أمور الإسلام الثابتة الراسية – سواء منها ما كان خبراً واجب التصديق أو أمراً واجب الانقياد – ينضبط الموقف منها باتباع هذه القاعدة، فمن هذا القبيل: وجوب الجهاد، وتحريم الربا، والمحرمات من النساء، بل ووجوب الزكاة والصيام والحج، ومن هذا القبيل كذلك: (الحجاب).
حجاب المرأة كفريضة شرعية محكمة وشعيرة إسلامية ظاهرة ثابت ومحكم بنصوص الكتاب العزيز، وهاكم الآيات، التي مهما اختلفنا في تأويلها اختلافاً يؤثر في التفريع والتفصيل؛ لا يمكن أن نختلف في المعني الكليّ والمحكم العام الذي يستفاد منها، وهو وجوب الحجاب وكونه أحد محكمات هذا الدين، يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور 31)
ففي هذه الآية الكريمة – بعد أن أمر الله النساء المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج – وجه إليهنَّ أمراً ونهياً؛ لينتج عن ذلك حكمان منصوصان لا لبس فيهما ولا إبهام، أمرهن بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ونهاهنّ عن إبداء الزينة إلا لبعولتهن وسائر من استثناهم من محارمهن، عدا ما ظهر منها، وسواء كان المستثنى من هذه الزينة هو زينة الثياب الظاهرة كما روى عن بعض السلف، أو كان المستثنى وجهها وكفيها كما هو مروي عن آخرين، أو كان الخاتم والسوارين – وكل ذلك أورده المفسرون([1]) عن الصحابة والتابعين – فلا يغير من الحقيقة الكلية شيئاً، وهي أنَّ المرأة المسلمة مأمورة بستر زينتها عن غير المحارم، منهية عن إبدائها وإظهارها والسفور والتبرج بها، وهذا محكم لا يضعفه الاختلاف في بعض تفاريعه وتفاصيله.
والخمار في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو الغطاء، والمقصود به بلا خلاف بين علماء الأمة: غطاء الرأس، وقد كانت النساء في ذلك الزمان “إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليها؛ فأمر الله تعالى النساء بأن يضربن بالخمار على الجيوب”([2])؛ لستر ذلك كله.
ومما يُعَضِّد كون ذلك من المحكم أنَّ الآية الكريمة ضمت هذين الحكمين إلى حكمين آخرين، يُعَدَّان من محكمات الشريعة، وهما غض البصر وحفظ الفرج؛ ليتحقق بهذه الأحكام الأربعة مقاصد من مقاصد الشرع غاية في العظمة، وهي حفظ النسل والعرض، وحفظ حرمات الناس، وحماية المجتمع المسلم من الرذيلة، ونشر الفضيلة وتمكينها حياة الخلق، ومن المُعَضِّدات كذلك أن الآية تعرضت بالتفصيل المطوَّل لمن يستثنى من الرجال، وهذا لا شك له أثره في إظهار المسألة على أنها من عظائم الأمور، ومن ذلك أيضاً التأكيد في آخر الآية على مبدأ التحفظ والتحرز والاحتياط في مسألة إبداء الزينة، بالنهي عن ضرب الأرض بالرجلين أثناء المشي؛ لئلا يؤدي إلى إبداء الزينة المخفية وراء أستار اللباس.
ويقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب 59) وكأنَّ هذا التفصيل جاء للرد على المغرضين الذين يبغونها عوجاً؛ بمحاولة حصر مسائل الحجاب في نساء مخصوصة لها وضع مخصوص، فجاء الأمر بالتفصيل هكذا: (لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين)، وأيّاً ما كان المقصود بالإدناء: أهو عقد غطاء الرأس على الجبهة حتى لا ينكشف شعر الرأس، أم هو إسدال هذا الغطاء على الوجه حتى لا ينكشف الوجه نفسه؛ فكل هذا يحتمله اللفظ والسياق، وكل هذا وغيره وارد عن السلف في تفسيرهم للآية([3])، لكن هذا كله من قبيل التفريع الذي لا يضر مهما اختلف فيه العلماء بأصل القضية، وهو وجوب الحجاب وفرضية الاحتشام والتستر.
فكيف يقال بعد هذه الآيات البينات بأنّ الحجاب عادة جاهلية، أو شعيرة موروثة عن الأمم السابقة؟! ولو أنَّ الحجاب ثابت بحديث من أحاديث الآحاد لما ساغ لهم أن يقولوا ذلك؛ لأنَّ الأصل فيما نطق به الشرع أنَّه شرع منبثق عن خطاب الله تعالى لعباده، سواء وافق عادة من عادات المجتمع أو لم يوافقها، فكيف إذا كان ثابتاً بنصوص من القرآن غاية في الصراحة والوضوح، يأمر الله فيها نبيه بأن يقول للمؤمنات ولنسائه وبناته ونساء المؤمنين أجمعين؛ مبلغاً عنه أمره ونهيه لهن ؟!
ولن تجد لمن يبغونها عوجاً بتحريف القول عن مواضعه سنداً ولا ظهيراً، وسيبقون بما ابتدعوا من القول شذاذاً أفَّاقين، لا وزن لأقوالهم ولا قيمة لآرائهم؛ فمهما طفت في الآفاق وترددت بين الصحف والأوراق لن تجد عند أحد من سلف الأمة أو خلفها شطر كلمة تدعم دعاويهم الباطلة، ولاسيما دعوى البعض بأنَّ (ما ظهر منها) يتسع ليشمل شعر المرأة وما يُظهر جمالها وأناقتها؛ بدعوى أنَّه صار من الزينة الظاهرة، فإجماع العلماء سابقاً ولاحقاً منعقد على ما يقضي ببطلان هذا الادعاء؛ فما منهم من أحد ورد عنه في تفسير القدر المستثنى ما يمكن أن يؤيد دعواهم، ومن أحصى أقوال العلماء قاطبة على اختلافها علم أنّ ما اختلفوا فيه كاشف عمّا أجمعوا عليه، وهو كل ما سوى المختلف فيه؛ والاستثناء خلاف الأصل، فلا يزاد فيه إلا بدليل، وهذا مقتضى كونه استثناء، ثم إنَّهم لا يملكون ضمانة يعطونها للناس ويخصفون بها على عوار قولهم إذا ادعى مدع أن ما ظهر منها يشمل كل جسد المرأة عدا العورة المغلظة؛ بزعم أنَّه كله زينة وأنَّ في جميع أجزائه جمال ظاهر !
وهذا الذي جاء به القرآن صريحاً واضحاً بيَّناً أكدته السنة وزادته تقريراً وثباتاً ورسوخاً، فما أكثر الأحاديث التي وردت مؤيدة ومؤكدة، لكنني سأقف سريعا عند خبرين عن عائشة أحدهما في البخاريّ، يحكيان كيف طبق نساء المهاجرين ونساء الأنصار حكم الآية الكريمة، الأول تقول فيه: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] شققن مروطهن فاختمرن بها)([4])، والمروط جمع مِرْط، وَالْمِرْطُ: كِسَاءٌ يُؤْتَزَرُ بِهِ([5])، والثاني تقول فيه: (رحم الله نساءَ الأنصار، لما نزلَت: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ الآية [الأحزاب: 59] شققنَ مروطهنَّ فاعتجرن بها فصلين خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَأَنَّمَا على رؤوسهن الْغرْبَان)([6]).
هذا هو لباس المرأة المسلمة، والذي يسمى في عرف الشرع (الحجاب)، وإن كان الحجاب أيضاً يطلق في عرف الشرع ويراد به شئ آخر، وهو احتجاب المرأة في بيتها عن الرجال الأجانب، وهذا وذاك يطلق عليه في عرف الشرع الحجاب؛ فلا متمسك في هذا لمناور أو مداور؛ فما أظهر هذه الفريضة، وما أجدر المشوشين عليها بالتثريب والتأنيب، بل والتأديب.
([1]) راجع: تفسير الطبري (19/ 155 – 157) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2574 – 2575)
([2]) تفسير القرطبي (12/ 230) تفسير ابن عطية (4/ 178) بتصرف بسيط
([3]) راجع: تفسير الطبري (20/ 324 – 325) وغيره
([4]) صحيح البخاري (6/ 109)
([5]) شرح السنة للبغوي (12/ 14)
([6]) السيوطي في الدر المنثور (6/660)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق