العيد .. وبواعث التجديد
ا هو العيد، يأتي من جديد، ها هو – برغم الآلام والنوائب الجسام – يُقْبِلُ باسما؛ فينفث في المكان والزمان أثيرًا ساحرًا طاهرًا، ويطلق في هذا الأثير العبقري أطيافًا سابحة في لججه الرحيبة؛ ما أحوجنا إلى استنشاق هذا الأثير الطهور، وإلى الاحتفاء بهذه الأطياف، والإصغاء إلى ما توحيه من معان وقِيَم، وليس غريبًا – مادام التاريخ مليئًا بالذكريات – أن تتزاحم الأطياف، وأن تتسابق في قرع الأسماع، وخطف الأبصار، وغزو القلوب، وإننا في هذا الجو الذي يُملي على الدنيا قانونه، لا نملك إلا الاستسلام للأحكام والإصغاء للإملاء.
الخليل وإسماعيل
هذا طيف الخليل، عائدٌ إلى الشام بعد أن خَلَّفَ وراء ظهره فلذة كبده، بين فَكَّي ذلك الوادي، القابعِ في قاعِ صحراءَ غارقةٍ في الصمت، ها هو بعد أن مضى ساعة يقف وكأنما تجاذبته قوتان: قوة تشده بعاطفة الأبوة، وقوة تدفعه للمضي في الوجهة التي أمره اللَّـه بها، انظروا إليه وهو يلتمس العون على تكلفة الطريق الباهظة على النفس والأهل: {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وإذا كانت الإنسانية قد اختزلت في بيت إبراهيم عليه السلام؛ حيث إنه البيت الوحيد الذي لم يقتلعه طوفان الجاهلية آنذاك؛ فإنه بالإمكان أن نقول إن الإنسانية قد تعذبت كثيرًا من أجل أن تسكن البذرة الطيبة في التربة المباركة؛ إن إبراهيم عليه السلام لم يأت إلى هذا المكان إلا لمهمة واحدة محددة، هي غرس البذرة الطيبة “إسماعيل” في التربة المباركة “مكة”، ولم تكن تلك التجربة الفذة إلا ستارًا لقدرة اللَّـه وحكمته، الذي شاء أن يخرج إلى الإنسانية خير أمة وخير نبي من أطهر بقعة وأكرم نطفة.
وإذا كان غرس “البذرة الأولى” للأمة الإسلامية قد استلزم من الإنسانية هذه المعاناة؛ فإن وضع اللبنات الأولى للدين الإسلامي قد استلزم من الإنسانية معاناة أشد، فها هو يأتي ثانية، لا ليترك ولده فريسة الوحشة، وإنما ليسلمه بحد شفرته إلى حتفه، وكما كانت الأولى بوحي كانت هذه أيضا بوحي، ولم يكن أمامه إلا الْمُضِيّ، ومضى إلى منى، ومضى على أثره الغلام، لا يلوي على شيء، ولا يرى الجرح النازف في قلب أبيه.
وما لبثا أن وصلا إلى الساحة التي شهدت المعجزة، وقف الشيخ، ووقف أمامه الغلام، وبلا أدنى تلعثم يتلو الأب على ابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، وكانت المفاجأة التي فَجَّرَتْ صبحَ الإسلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، عندئذ كان حجر الأساس لدين الإسلام قد أُرسى على نفس التربة التي وُضِعَت فيها البذرة الأولى للأمة الإسلامية.
أرأيت إلى أيّ مَدَىً تذهبُ جذورُ دَوْحَتِنا؟! فَلِمَ النكوص؟! وفَيمَ اليأس والقنوط؟! لَكَمْ تعرضت أمتنا للاجتياح وحملات الإبادة؛ فلم تذهب ولم تَمُتْ! ولو كانت تَفْنَى أو تموت لكان ذلك يوم أن اجتاحها المغول من الشرق والصليبيون من الغرب؛ فالتقت سيول الدماء على أمر قَدْ قُدِر، فلننطلق من هذه إلى غَدٍ تَرْسُمُ ملامِحَهُ عزائمُنا وسواعدُنا، ولنكن على يقين وحسن ظنّ بالله تعالى.
اللمسات الأخيرة
ويسبح طيف إبراهيم وإسماعيل في الأفق البعيد؛ ليتبدى لنا طيف إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وهو على ظهر القصواء يخطب في الأمة الإسلامية من عرفات، والتاريخ يذيع ويبلغ: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .. (فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) .. (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)، إن هذه الكلمات تمثل اللمسات الأخيرة للدوائر الثلاثة: الأسرة، والمجتمع، والدولة، فالأسرة لا صلاح لها إلا بقيام العلاقة بين قطبيها على العدل، والمجتمع لا صلاح له إلا بأن تُصان حرمة الأموال والدماء والأعراض، والدولة لا صلاح لها ولا رشاد إلا بأن تكون مرجعيتها: الكتاب والسنة.
المشهد المهيب
ولم يلبث هذا الطيف أن اتبع أثر ما قبله صاعدا إلى الأفق البعيد؛ لتظهر لنا صورة الحجيج، وهم يقفون بعرفات، ويرمون الجمرات، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الجبلين الكريمين: الصفا والمروة، إن هذه الشعائر لتنطوي على دروس لا يسع الأمة إلا أن تتملاها، وإلا كان حجها رسوما وطقوسا يغلب عليها الشكل وينضب فيها المضمون، فانظر إلى المشهد المهيب في عرفه، وانظر إلى وفد الله حول بيت الله!
إن الوقوف بعرفات يحقق معنى “الامتثال”، الذي لا يتم إلا بأن تقف الأمة حيث أوقفها اللَّـه؛ لئلا تتجاوز – في غمرة الانطلاق – حدود اللَّـه، وإن السعي بين الصفا والمروة يكرس في الأمة الإسلامية معنى التأسي والاقتداء، وإن رمي الحجرات الذي تتدافع فيه الأمة ويزحم بعضها بعضًا، ليس إلا حركة ظاهرة بارزة تجسد حركة النفس وهي ترفض الباطل وتهدم الفساد، وتكفر بالطغيان كله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا}.
أما طواف الأمة بالبيت العتيق، فهو محاكاة لكل مجموعة متماسكة في هذا الكون، فدوران المسلمين حول الكعبة في ذات الاتجاه الذي تدور فيه الأجرام كلها من الذرة إلى المجرة؛ يرمز إلى التماسك الضروري الذي لا يتحقق إلا بأمرين: الاجتماع والاتباع؛ يحققهما دورانٌ في اتجاه واحد مشدودًا إلى قطب واحد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
الوعد الحقّ
بهذه المعاني ندرك أن فضل اللَّـه علينا عظيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، نفرح بفضل الله ونكبر، ونحن نستشرف فرحا آخر وتكبيرا آخر: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ)؛ فأبشروا وبَشّروا، وتعاونوا واتحدوا، واعملوا ولا تهملوا، وإياكم واليأس فإنّ اليأس ضد اليقين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق