دلني على عمل يدخلني الجنة
لقد وصف الله سبحانه وتعالى والرسول صلى الله عليه وسلم الجنة وصفاً دقيقاً محكماً للصحابة رضوان الله عليهم حتى كأنهم يرونها، فاشتاقت نفوسهم إليها، فأكثروا من السؤال عن كيفية الوصول إليها، فأرشدهم الله ورسوله إليها بالعبادة لله وحده وعدم الإشراك به، وأن يفعلوا الفرائض ويجتنبوا المحرمات، وأن يبتعدوا عن الفتن ما ظهر منها وما بطن.
حرص الصحابة وهمتهم العالية
سأل الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع﴾ِ حتى بلغ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كفّ عليك هذا، قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟1“.
وفي رواية الإمام أحمد أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أريد أن أسألك عن كلمة أمرضتني وأحرقتني، قال: سل عما بدا لك، قال: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، تلك كانت اهتمامات كبار الصحابة وصغارهم رضوان الله عليهم.
وصف الله ورسوله للجنة والنار
لقد وصف الله سبحانه وتعالى ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الجنة حتى كأنهم يرونها، ووصفت النار حتى كأنهم يشاهدونها، فوصفت الجنة بنعيمها، وما فيها من خير عظيم لم تسمعه أذن قبل ذلك، ولم يشاهده الناس في واقع حياتهم الدنيا، ولا يمكن أن يشاهدوا شيئاً قريباً منه، ووصفت النار بعذابها، وما يتجرع أهلها من آلام وأوجاع وشقاء دهوراً لا تنتهي وأزمنة لا تنقضي (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:24 – 25]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
ويقول في الجنة: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [الإنسان:12 – 22].
الطريق إلى الجنة يبدأ من الدنيا
كانت اهتمامات الصحابة ترمي إلى هذا الأمر العظيم، إلى أن يدخلوا الجنة وينجوا من النار (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]، (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون:1]، ثم ذكر الله بعد الفلاح (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون:10 – 11].
يقول معاذ بن جبل: (يا رسول الله! دلني على عمل -أي: أخبرني- عن عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)، إذا ما حصل الإنسان على الجنة ونجا من النار في ذلك اليوم العظيم، فوالله إنه الفلاح الكبير، والفوز العظيم، والنجاة العظمى، والربح الجزيل، وإذا ما وقع العبد في النار كان ذلك هو الخسران الأكبر، أولئك (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر:15]، أفلا يستحق ذلك أن ينحل له البدن، وأن تمرض له النفس، وأن يحترق صاحبه ليعرف الطريق، وليعرف السبيل؟! فسبيل الجنة يبدأ من هنا، والفوز والنجاة من النار يبدأان من الدنيا، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرع في الدنيا خيراً، تلق في الآخرة خيراً، وازرع في الدنيا شراً، تلق في الآخرة شراً، فما تعمله هنا يحدد المسار هناك.
الأعمال سببا في دخول الجنة وليست عوضا
قال: دلني على عمل أقوم به في حياتي الدنيا، ويكون سبباً في دخولي الجنة، فهو سبب وليس عوضاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يُدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)2، فالعمل القليل المتواضع ليس ثمناً للجنة؛ لأن الجنة سلعة عظيمة غالية، وحتى عمل محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ثمناً لدخول الجنة، ولكن يدخل النبي والناس الجنة برحمة الله سبحانه وتعالى الذي جعل هذه الأعمال القليلة المتواضعة سبباً لدخول جنة الله العظيمة.
الفوز بالجنة والنجاة من النار محور حياة المسلم الذي يطوف ويدور حوله
(دلني على عمل يدخلني الجنة)، وهذا هو محور حياة المسلم الذي يطوف ويدور حوله، فينبغي له أن يكون تفكيره منصباً في: كيف يدخل الجنة؟ وكيف يصل إلى الدار الآخرة؟ وكيف يتجنب وعورة الطريق؟ وكيف يقتحم العقبات حتى يصل إلى جنة الله؟ إذاً: فلا ينبغي أن نيئس من هذا، ولا أن نخجل من هذا، ونلح دائماً في السؤال عليه، ولقد أخطأ قوم الطريق عندما قالوا: نحن لا نعبد الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فأضلوا عباد الله، وأصبح عوام الناس لا يدرون كيف يقودون أنفسهم إلى الله؟ لأنهم تركوا السبيل الذي دل الله سبحانه وتعالى عليه.
لذا قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ)3 أي: هذه الأدعية الكثيرة التي ترددها ويرددها معاذ لا أعرفها، (وإنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن)، فهذا هو المحور الذي نطوف حوله، فنحن نريد الجنة، والنجاة من النار، وكذلك المؤمن في قوله وعمله، وفي حركته وسكونه، ينبغي له أن يطلب الجنة، فكل خير هو موجود في الجنة، وكل شر فهو في النار، والجنة رحمة الله، مَنْ دخلها نال كل خير، ومن جملة ذلك أنه يرى رب العزة سبحانه وتعالى، فينظر المؤمنون إلى ربهم، وذاك من النعيم الذي أعطاه الله لعباده الذين يدخلون الجنة، ومن الشقاء أن يحرم أهل النار من ذلك.
السبيل إلى الجنة
بين الرسول صلى الله عليه وسلم السبيل لأكثر من صحابي، والقرآن بينه في مواضع كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عنه أكثر من مرة، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يلوم السائلين على كثرة تردادهم لهذا السؤال؛ لأنه أمر عظيم.
أولا: عبادة الله وحده وعدم الإشراك به
قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء:36]، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه البناء في الحياة الدنيا، وهو: أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً؛ ولأجل ذلك خلقك الله، فقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56 – 58]، فهو سبحانه لا يريد منك شراباً، ولا يريد منك طعاماً، فالله سبحانه وتعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، وإنما خلقك لتتخذه إلهاً، ولكي يخضع وجهك وقلبك له، وتسلم أمرك له، وتعترف له بالألوهية، وتعترف له بالربوبية، وهذا معنى قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: نشهد يا رب! أنك إلهنا ومعبودنا، فنعبدك وحدك ولا نعبد غيرك، ونكفر بالآلهة والمعبودات والطواغيت التي تنتشر في أرجاء الأرض، ولا نؤمن إلا بإله واحد هو إلهنا وربنا ومعبودنا؛ ولأجل هذا أرسل الله رسله، وأنزل كتبه، وكل رسول يدعو قومه إلى هذه الحقيقة ويبينها ويفصلها، ويصبر على ذلك سنوات طويلة، قد تستمر عشرات السنين، وبعض الرسل بقي مئات السنين وهو يدعو قومه إلى هذه الحقيقة: أن يعبد الناس ربهم وحده لا شريك له، وأن يخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى، وأن تكون صلاتهم ودعاؤهم وحجهم لله، وأن تكون استغاثتهم واستعانتهم بالله سبحانه وتعالى وحده، وأن يكون التوكل على الله عز وجل، وألا تخضع هذه الوجوه إلا لربها، وأن تتوجه القلوب إلى خالقها ومعبودها سبحانه وتعالى، وأن يكون التحاكم إلى شريعة الله، وأن تكون الدينونة لله سبحانه وتعالى، وأن يقوم البشر أنفسهم بكتاب الله وبمنهج الله وبدين الله، وأن يُعبد الله ولا يشرك به.
التوحيد شرط لصحة الأعمال وقبولها عند الله عز وجل
وهذا هو الأساس الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، وإن جئنا إلى الله بأعمال خيرة بنيت على غير أساس التوحيد والإخلاص لله فإنها أعمال مرفوضة.
وقد ضرب الله مثلاً في سورة النور لأقوام يظنون أن لهم مكانة عند الله، ولكنهم أقاموا أعمالهم الخيرة على كفر وشرك، فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور:39]، فالعطشان في الصحراء يرى السراب يلوح من بعيد، فيظنه ماء، فإذا ما اقترب منه لم يجده شيئاً، وكذلك هو حال أقوام يظنون أن لهم عند الله مكانة، وأنهم قدموا أعمالاً خيرة، ولكنها على غير أساس التوحيد، وعلى غير أساس الإخلاص، ثم عندما يأتون إلى الله يوم القيامة لا يجدون شيئاً، وتكون أعمالهم (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) [النور:39].
إفراد الله بالعبادة وترك الشرك أول الفرائض وأوجبها
إذاً: فالأساس الأول هو: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ولا تشرك بإلهك وربك ومعبودك وخالقك شيئاً، فتتخذه إلهاً تتوجه إليه، وتريد رضوانه وحده، ولا تتخذ معه نداً، ولا تتخذ معه شريكاً، وإنما عبادتك كلها لله سبحانه وتعالى.
فالله معبودنا؛ لأنه ربنا وخالقنا سبحانه وتعالى، وهو المستحق للعبادة، وهو المستحق للتأليه جل وعلا.
ومن لم يأت بهذا الأصل فليس له عند الله يوم القيامة نصيب، فالذين كفروا لا يدخلون الجنة أبداً، والمشركون لا يلجون الجنة أبداً، فهم مخلدون في نار جهنم، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءْ) [النساء:48]، فالشرك لا يغفره الله سبحانه وتعالى، وغير الشرك قد يغفر، فقد يفعل الإنسان معاصي وذنوب، فقد يعذبه الله عليها وقد يغفرها له، ولكن الشرك لا يمكن أن يغفر أبداً، (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48]، فهذا هو الأساس الأول، وهو التوحيد، والإخلاص، والعبودية لله عز وجل، وهو أساس العمل الذي يدخل الجنة، ومن لم يأت بهذا الأساس فليس له مطمع في أن يلج الجنة ويدخلها، وفي أن يصل إلى الدار الطيبة الصالحة.
وقد حرم الله الجنة وطعامها وشرابها ونعيمها على الكافرين.
ينادي أهل النار: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50]، ليس هناك نصيب في جنة الله للذين أشركوا وكفروا، وليس لهم مطمع في النعيم الذي أعده الله لعباده الموحدين، ولعباده المخلصين.
ثانيا: أداء الفرائض واجتناب المحرمات
السبيل الثاني: أن تقوم بالفرائض التي فرضها الله عليك، وأن تنتهي عن المحارم التي حرمها الله، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أصول الفرائض فقال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وفي بعض الأحاديث قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها)4 أو كما قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فهناك فرائض لا بد من أدائها، وهي الحد الأدنى الذي ينجو صاحبه من النار بدون عذاب، وكذلك اجتناب المحارم حد أدنى، وصاحبه يسمى مقتصداً في دين الله، قال الله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) [فاطر:32] أي: يفعل الذنوب والمعاصي، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر:32] أي: موحد مخلص يأتي بالفرائض، ويجتنب النواهي، ولا يكثر من النوافل، (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) [فاطر:32] أي: يؤدي الفرائض ثم يكثر من النوافل.
وفي حديث الأعرابي عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن التوحيد، وسأله عن الصلاة والصوم والزكاة والحج، ثم قال: (لا أزيد على هذا، فقال: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق)، فالمحافظة على الفرائض واجتناب النواهي هو الحد الأدنى الذي يدخل به المسلم الجنة من غير عذاب، وهذا هو المقتصد.
المسارعة في الخيرات
وأما إذا أراد أن يتوسع في الخير فذلك له مجال آخر، وهو مجال النوافل ومجال الطاعات، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في هذا الحديث: (ألا أدلك على أبواب الخير؟)، إذا أردت أن تزداد خيراً، وأن تزداد منزلة عند الله، وأن تزداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة)، أي: أكثر من الصوم، فإنه جُنة في الدنيا يقي صاحبه من المعاصي والذنوب والآثام، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فمن الحكمة من تشريعه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فهو جنة يقيك من الذنوب والمعاصي، ويوم القيامة جُنة من النار ووقاية منها.
ثم قال: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)، أي: الذي يؤدي الزكاة ويكثر من الصدقة، ويكون كريماً ومنفقاً ومتصدقاً فإن هذه الصدقات تطفئ الخطايا، فالخطايا نار تشتعل تأكل صاحبها وتفسد قلبه وروحه، وتجلب غضب الله سبحانه وتعالى عليه، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يُصب الماء على النار فتنطفئ النار وينطفئ الجمر، وكذلك فعل الصدقات بالخطايا والذنوب.
قال: (وصلاة الرجل في جوف الليل)، ثم قرأ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:16 – 17]، فإذا أدى المسلم الفرائض، ثم صلى في جوف الليل -أي: في وسطه أو في آخره كما جاء في بعض الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم- ركعات يؤديها تقرباً إلى الله والناس نيام، ويرجو بها ثواب الله، ويطمع في رحمته، ويخاف غضبه وعقابه؛ فإن هذا الفعل من أعظم القربات التي تقرب العبد من ربه سبحانه وتعالى.
فهذه بعض التوجيهات من الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلم إذا أراد أن يتوسع في أبواب الخير، أن يعلو عن درجة المقتصدين؛ ليكون في منزلة السابقين الذين يرفع الله مكانتهم ويعلي مقامهم.
ثالثا: أخذ الإسلام بشموليته
ورد في بعض الأحاديث أن بشيراً -وهو رجل من الصحابة- سأل عن طريق الجنة، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، فقال: (يا رسول الله! أما الصدقة والجهاد فلا طاقة لي بها -أي: لا أستطيع الصدقة فالمال حبيب إلى نفسي، ونفسي لا أفرط فيها- فحرك الرسول صلى الله عليه وسلم يده، وقال: لا صدقة ولا جهاد؟! فبم تدخل الجنة؟ قال: فبايعته على هذه الأمور وعلى الصدقة والجهاد)5.
فبعض الناس يجود بالصلاة والصيام والدعاء وفعل الخيرات، ولكنه شحيح بالمال، وفي مجال الجهاد شحيح بنفسه، فكيف يدخل الجنة من أعظم الأبواب؟! ولذلك في بقية الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشبه هذا الدين بالجمل، فرأسه الإسلام وإذا ملكت رأس البعير ملكته، ولو شددته من رجله أو من ذيله لا ينجر إليك، لكن إذا ما أمسكه الطفل برأسه سار وراءه، وكذلك الإنسان إذا استسلم لربه وخضع له، وعمل بشريعة الله كلها، وعموده الفقري الصلاة، فإذا انكسر العمود الفقري لا يتحرك البعير، وأعلى شيء في البعير سنامه، وذروة سنام هذا الدين الجهاد، فالذين يبلغون القمة هم المجاهدون في سبيل الله.
والجهاد هو الذي يحمي للمسلمين دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وهو الذي يمهد السبيل لانتشار دعوة الإسلام في أقطار الأرض، وهو الذي يصد الباطل والطغيان، وهو الذي يرعب أعداء الله، وللجهاد قيمة كبيرة في حياة المسلمين.
رابعا: كف اللسان عن الحرام
يجب أن تعلم أن كلامك من عملك، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً.
فالإنسان على خطر من هذا اللسان، وأنه من الواجب عليه أن يصونه ،ويحفظه ، ويجتهد في ذلك ، لعله يسلم من شره ، لأن اللسان سريع الحركة، إما بالخير ، وإما بالشر، فالواجب التثبت في أمره ، والحذر من انفلاته، فأنت ما دمت ساكتا فأنت على سلامة، وإذا تكلمت فإما لك ، وإما عليك.
يقول ابن القيم رحمه الله: وأما اللفظات ؛ فحفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة ؛ بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه ، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر: هل فيها ربح أو فائدة أم لا؟ فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها ، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها فلا يضيعها بهذه؟6.
الهوامش
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري (6464)، ومسلم (2818).
(3) صحيح أبي داود (792).
(4) حديث حسن، رواه الدَّارقُطْني وَغَيْره.
(5) رواه الحاكم في المستدرك (2421).
(6) الداء والدواء (156).
المصدر
المكتبة الشاملة: محاضرة بعنوان: “نظرات حول العقيدة” للشيخ عمر سليمان الأشقر رحمه الله بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
أثر العمل الصالح في دخول الجنة والنجاة من النار
موانع الانتفاع بالعمل يوم القيامة
الدنيا والآخرة طريق واحد وحسبة واحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق