قف على ناصية الحلم وقاتل
جمال الجمل
(1)
"يناضل الحالمون من أجل هدف ما، وعندما يتحقق يكتشفون أنه ليس الهدف الذي ناضلوا من أجله، فيخضع الضعيف منهم للواقع، ويواصل الحالمون الحقيقيون بحثهم عن الهدف في دروب أخرى، وتستمر مسيرة الصراع بين واقع لا نرضاه وأحلام لا تتحقق..".
ندعو إلى الحوار الوطني وفتح المجال العام، وعندما يأتي الحوار نكتشف أنه "لا حوار ولا حاجة"، ندعو إلى الاصطفاف والعمل المشترك، وعندما يتحقق نكتشف أنها تحالفات وعصابات ألتراس وجماعات انتفاع للاستهلاك المرحلي، فلا تمرد حركة شبابية، ولا جبهة الانقاذ تيار وطني أو مدني أو حتى تحالف ناضج لقوة المعارضة..
هكذا تحولت 30 يونيو من "ثورة ضد سلطة" إلى "ثورة من أجل سلطة بديلة"، وبعد انقضاء مرحلة الخداع يكتشف الحالمون أنهم سلموا اللص مفاتيح البيت بأيديهم.
(2)
الفقرة الأولى بين القوسين كتبها الشاعر والفنان الإنجليزي وليام موريس، ضمن دفاعه عن "اليوتوبيا". لم يكتب موريس هذا الكلام بالحرف، لكنني أحفظ المعنى وأردت توضيحه بالعربية دون التزام صارم بالترجمة. أحببت موريس وتجربته الفكرية والفنية لأنه ظل متمسكا بأحلامه ومدافعا عنها حتى وهو يخسر في الواقع، فقد كان ثريا من عائلة عريقة وأنفق ثروته لتطوير الحرف إلى فنون، وأنجز ثورة فنية في التصميمات المعمارية وفنون النسيج وأسس جماعة ثقافية شغلت النخبة في عصره، لكن كبيعة الاستهلاك وسلوك الزبائن سحب الأحلام باتجاه السوق وسرق منها روحها، ومات موريس متعثرا من دون أن يخسر حلمه، لكنه ترك وراءه حالة من الجدل تشكك في اليوتوبيا والأحلام الطوباوية، وتعتبرها مجرد أوهام أو خيال يفضي إلى الخسارة.
هكذا تحولت 30 يونيو من "ثورة ضد سلطة" إلى "ثورة من أجل سلطة بديلة"، وبعد انقضاء مرحلة الخداع يكتشف الحالمون أنهم سلموا اللص مفاتيح البيت بأيديهم
(3)
أتذكر العم كامل زهيري وهو يسخر من فئة المثقفين المطبعين مع إسرائيل بحجة التعامل مع الواقع ضد الخطاب "الحنجوري" العربي الذي يتحدث عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بينما الواقع يؤكد خسارتهم في أي معركة ضد إسرائيل. وكان زهيري يسميهم "الوقوعيون" وليس "الواقعيون"، معتبرا أن هناك قضايا تحتاج إلى التفكير بالأمل حتى لا يتحول الإنسان إلى "آلة انتهازية" تعمل لصالح أي قوة تحركها..
"سيقولون:
ها أنت تطلب ثأراً يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة"
أعود كثيرا إلى هذا المقطع من أشعار أمل دنقل، وأفكر في حجة الواقعيين الذين يقبلون التعامل مع الأعداء أو الانقلاب على المواقف لأن الظروف صعبة، فإذا كنا لا نستطيع تحقيق ما نريد، فلنفعل ما يريدون!
لكن دنقل يضيف أبياتا تزيد الحيرة عندما يصور لنا أن هؤلاء "الوقوعيين" يتصرفون بالحيلة من دون تنازل تام، إذ يقول مراهنا على المستقبل:
"إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغداً..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل"
ويعود ليغلق المقطع ويسد الباب أمام الوقوعيين فيقول:
"لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة"
الترجمة السياسية لهذا الكلام في الظرف الحالي:
هل نقبل الحوار كحيلة، أم نرفض الحوار من حيث المبدأ، أم نقبل مبدأ الحوار ونرفض الخداع والتزييف الذي يسمي ما يحدث حواراً؟
(4)
أذكر أنني فسرت اختلاط المواقف في زمن ظهور مفهوم الفوضى الخلاقة وتعبير الشرق الأوسط الجديد، وقلت: "أكاد أشك في نفسي لأنني أقول أحيانا ما يقوله الأعداء.. كوندوليزا رايس ترغب في شرق أوسط جديد وأنا أيضا أحلم بشرق أوسط جديد، وكنت أغني مع مارسيل خليفة مقطعا من قصيدة "الجسر" لخليل حاوي رحمة الله عليه، يقول فيه:
"يَعْبرون الجسرَ في الصبحِ خِفافاً
أضلعي امتدّتْ لهم جسراً وطيدْ
من كهوفِ الشرقِ
من مستنقعِ الشرق
إلى الشرقِ الجديدْ"
نحن لا نريد الشرق الحالي، وعندما نخطو إلى شرق جديد، سنكتشف أنه ليس ما نريد، بل ما تريده القوة الطاغية التي تفسد قديمنا وجديدنا..
القصة إذن أننا لا نملك القدرة على تحويل الحلم إلى واقع، لا نملك قوة تحويل اليوتوبيا إلى حقائق واقعية، لذلك تخدعنا العناوين الكاذبة ونشتري البضاعة المغشوشة، نشتريها باعتبارها ثورة فإذا هي انقلاب، نشتريها باعتبارها حوارا وانفراجة ديموقراطية، فإذا بها حيلة لتحميل المعارضة جثة الأزمة، واستهلاك الوقت، وإلهاء الغاضبين عن تمرير تحولات خطيرة تضر بمستقبل البلاد والعباد.
(5)
انشغالي بتجربة وليام موريس هداني إلى دراسة قيمة أنجزتها أستاذة علم الاجتماع بجامعة بريستول "رث ليفيتاس"، وهي متخصصة في دراسة الطوباوية وأعمال المفكرين الطوباويين، ووجدت في الدراسة إجابات كثيرة لأسئلة تحيرني. بالطبع لا توجد إجابات نهائية في موضوع مثل هذا يناقش العلاقة بين الحلم والواقع، لكن ليفيتاس في دراستها لأعمال موريس أوضحت أن اليوتوبيا عنده لها وظيفة تحويلية ووظيفة تحررية، فاليوتوبيا تسهل علينا انتقاد الحاضر (باعتباره وضيعا ومتخلفا وغير كاف للحالمين بحياة أفضل). وهذا الإحساس بقصور وتخلف الحاضر يعطينا دفعة للتغيير والتحول من حال إلى حال، وفي الوقت نفسه لا بد للحلم الواعي من أن يقدم بدائل للنظام السائد، ويضع تصورات تسهل على الناس رؤية المستقبل من خلال الحلم.
لا نملك القدرة على تحويل الحلم إلى واقع، لا نملك قوة تحويل اليوتوبيا إلى حقائق واقعية، لذلك تخدعنا العناوين الكاذبة ونشتري البضاعة المغشوشة، نشتريها باعتبارها ثورة فإذا هي انقلاب، نشتريها باعتبارها حوارا وانفراجة ديموقراطية، فإذا بها حيلة لتحميل المعارضة جثة الأزمة، واستهلاك الوقت، وإلهاء الغاضبين عن تمرير تحولات خطيرة تضر بمستقبل البلاد
وهاتان العمليتان (التغيير والتحرر) تخلقان الرغبة في ضرورة إيجاد طريقة أفضل للعيش، فالحلم لا يتحقق بالرغبة وحدها، لكن بالبحث في ركام الواقع المتخلف عن عوامل وأدوات تجعل الحلم قابلا للتحول إلى واقع، ثم نستنتج من الواقع الجديد أحلاما أبعد منه. وهكذا تستمر عملية التطور بالحلم من خلال فاعلية ثورية متكاملة، بمعنى أنها "حالمة لكن غير وهمية"، لأنها تستند على الواقع كحجر نقف عليه لنقفز إلى أعلى، ولا نحمله كصخرة سيزيف في دورات عبثية لا تفضي إلى جديد..
وتقول ليفيتاس إن فرصة تحول اليوتوبيا إلى واقع تحتاج إلى صناعة الرغبة في مستقبل أفضل، لكنها لا تكتفي بالرغبة، لا بد أن يصحبها الأمل ثم الإرادة، وهنا تتوفر الإمكانية لتغيير الظروف التاريخية وإنجاز عملية التحول أو التغيير، وهكذا تصبح الخطوات السليمة لليوتوبيا حسب دراسة ليفيتاس لتجربة وليام موريس: "حلم - رغبة - أمل – ثورة".
أما إذا توقفنا عند حدود الحلم والرغبة والأمل فإننا لن نستطيع إنجاز الثورة والتحول، وسنظل عند مرحلة "الرؤية".
وأعتقد أننا في مصر ومعظم القطار العربية لم نصل حتى إلى مرحلة "امتلاك رؤية مشتركة للمستقبل"، فقط لدينا أحلام ورغبات لا يدعمها فكر يفضي بنا إلى نقاش حر حقيقي يبني الرؤية، ولا تدعمها إرادة علمية تهيئ لنا مرحلة إنجاز ثورة تقدمية تنقل الحياة لمستوى أفضل.
أعرف أن معطيات الواقع الرديء الذي نعيشه لا يمكن أن تعطينا محصلة جيدة في أي اتجاه، وهنا تأتي أهمية التفكير بالأمل واستحضار إرادة التفاؤل، باعتبارها حبل إنقاذ لن نجده معنا في الحفرة، لكنه معلق في سماء المستقبل
(6)
أكتب هذا وفي ذهني تنظيرات ميشيل فوكو عن التفاؤل بالإرادة، فأنا أعرف أن معطيات الواقع الرديء الذي نعيشه لا يمكن أن تعطينا محصلة جيدة في أي اتجاه، وهنا تأتي أهمية التفكير بالأمل واستحضار إرادة التفاؤل، باعتبارها حبل إنقاذ لن نجده معنا في الحفرة، لكنه معلق في سماء المستقبل، ولن يراه إلا الجديرون والجادون في مهمة الخلاص من المأزق..
هذا في رأيي هو الحل في التعامل مع سياسة "حق يراد به باطل"، التي تتبعها الأنظمة العربية مع شعوبها، ونحن لا نريد أن نكفر بالحريات ومبادئ العمل الإنساني المتحضر لمجرد أن الأنظمة لوثت جوهر المفردات الصحيحة في أصلها، لا بد من تطهير الحرية من قاذورات الفوضى والإرهاب، ولا بد من تبرئة الحوار من تهمة النوم مع السلطات والرضا بأدوار السفرجية والكومبارس، حيث تمسك السلطة بالجرس وتستدعي السفرجي وقت الحاجة فقط، في حين يتوهم هو أنه مهم وشريك في الحفلة.
ولا أنسى قبل الختام أن أهنئكم بعيد الضحى المبارك، أعاده الله على كل المؤمنين الطيبين بالخير والعز والنصر.
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق