صناعة الفوضى والاستثمار فيها
محمد جلال القصاص
باختصار صنع الثاني (الأمريكان ومن خلفهم) بالأول (الجهاديين ومن تحمس معهم) الفوضى، في العراق والشام واليمن وليبيا والجزائر والصومال، ثم جاءوا خلفهم يعيدون هيكلة المجتمعات من جديد
فريقان متقابلان، يحاول كل واحدٍ منهما إزاحة الآخر. ونظريًا لا يتواجد أحدهما مع الآخر: الحركات الجهادية والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وحين تضع واقع هذين المختلفين المتصارعين أمامك وتتأمل فيه تجد أنهما يلتقيان على أشياء أهمها صناعة الفوضى.. كلاهما يحرص على صناعة الفوضى..كلاهما يبدأ تطبيق قيمه من الخراب!!
خرجت الحركات الجهادية-من رحم الحركات الدعوية الإحيائية، خرجت تتعجل التغيير عن طريق الانقلاب العسكري على الأنظمة السياسية. خُيل إلى الشباب الذين أسسوا هذا النمط من الحركات الإسلامية أن الانقلاب العسكري هو أسرع الطرق لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد. قفزت إليهم الفكرة من الواقع الذي نبتوا فيه، فقد كانت الانقلابات العسكرية كثيرة وفي كل مكان وأحدثت تغيرات جذرية بالفعل، ولكنهم لم يفطنوا إلى أنها كانت أدوات بيد المخالف لتغيير مجتمعاتنا لتتوافق مع (السيد) الجديد للعالم بعد الحرب الثانية، ثم قفزت إليهم فكرة التغيير عن طريق الثورات الشعبية بعد أن تحركت الشعوب في السودان ومصر (بعد هزيمة 1967م) والمغرب وغيرهم تحتج على المستبدين، فحدث جدال داخلي بينهم حول تبني الثورة الشعبية كأداة للوصول للحكم مع أنهم لم يكن لهم حضور جماهيري، ولم تكن الحركات الجماهيرية قد غيرت من قبل أو حركت تغيرًا في الاتجاه الذي تريد، ولكن بعضهم أعجبته الفكرة فتبناها سريعًا ونزل يشارك الطلاب والعمال، وجلهم يومها اشتراكيون، يظن أن مجرد مشاركته هو وأفراد على نفس مبدئه يكفي لتحريك الجماهير تجاه هدفه هو!! وبعد تبني هذه الوسيلة الجديدة دب خلاف فقهي بين طليعة الجهاديين فخطأ-أو كفر- بعضهم بعضًا وتشتتوا على خلفية: يجوز أو لا يجوز.. تشتتوا على فتوى فقهية من شبابٍ مثلهم!!
ثم ظهرت فكرة أخرى هي حرب العصابات قادمة من الصين (ماو) وفيتنام (ضد الفرنسيين وضد الأمريكان) و المغرب العربي (محمد عبد الكريم خطابي ضد الأسبان)، وتبناها أحد الشباب الذين نادوا بالثورة الجماهيرية قبل أيام. جَمَّع عشرًا أو عشرين من أقرانه وما كاد يبدأ حتى انتهى.. قَضَى عليهم أولُ من عرف بهم.
ثم قفزت فكرة العزلة وبناء مجتمع في الخلاء (الصالحية أو جبال أبي قرقاص بالصعيد أو جبل الحلال بسيناء) من (جماعة المؤمنين)، والنمو ومن ثم الزحف على المجتمع (الجاهلي) ومناطحته وقضمه ثم هضمه!!
وبعد أيام تفرقوا وعادوا أدراجهم إلى القرى والحواري مرةً ثانية..
كلها كانت أفكار شباب حدثاء الأسنان.. من وحي الواقع أو من طرف الخيال. وكلها- في اللاوعي- كانت تحاكي الدولة القومية.. ظنوا أن بإمكانهم استخدام أدوات الدولة القومية (الانقلابات العسكرية، الثورة الشعبية، حرب العصابات...). كل فكرة خرجت من رأس شاب حدث السن لم يدرس ولم يتدرب ولم يمارس، وإنما هكذا: يمتلئ حماسة ويجد نفسه بين متحمسين ثم يندفع بمن وافقه!!
وكل التجارب تعثرت.. وكل التجارب فشلت، وكل التجارب لم تتعرض للدراسة النقدية؛ بل وقف على باب كل تجربة من يحرسها من النقد، من يرفع لافتة التضحية والبذل في وجه من يحاول دراسة التجربة والبحث عن أسباب تعثرها وفشلها. مع أن أول ما فعل بعد هزيمة غزوة أحد كان طرح سؤال يبحث عن أسباب الفشل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا} [آل عمران:165]. ومع أن إرادة الخير قد تدفع العقوبة أو تقللها. بل قد يؤجر المرء على الخطأ إن أراد صوابًا وتحرى ثم أخطأ. إلا أن شيئًا من هذا لا يصحح الخطأ. وكلنا يحفظ ويردد قول ابن مسعود-رضي الله عنه-: (كم من مريدٍ للخير لا يبلغه)، ولكن الخطأ يمرر بدعوى إخلاص من أخطؤوا!!
كل التجارب في الموجة الأولى قمعت من الأنظمة، فنَبَتَ في عقل الجهاديين أن البيئةَ الأصلحَ لإقامة الخلافة هي تلك التي بلا نظام سياسي.. تلك التي يسود فيها الفوضى، أو التوحش كما يُعبرون في أدبياتهم. ودعم هذا الفهم أن النماذج الجهادية التي تمددت هي تلك التي اعشوشبت في فوضى سياسية.. حيث لا نظام سياسي، وأن يدًا واحدةً هي التي قلعت شجرتهم في كل مكانٍ هي يد الأنظمة المستبدة، سواءً من ذات الدولة أو من دول الجوار (أثيوبيا وكينيا).
بدأ العقل الجهادي يقفز إلى فكرةٍ جديدة من وحي الواقع لا من بنات التأمل والتدبر والدراسة النقدية، وهي فكرة إدارة الفوضى (التوحش)، وخرجت التنظيرات الجهادية للحديث عن وجوب الوصول إلى (الفوضى/التوحش) كنقطة انطلاق للخلافة المنتظرة، وهنا.. في حب الفوضى والسعي لإحداثها.. التقى المتصارعان!!
النظام الغربي أيضًا يسعى للفوضى في مجتمعات الجنوب (المجتمعات الجديدة التي يحاول إعادة هيكلتها لتوافقه). فالفوضى عنده ضرورة لإعادة (البناء). وذلك أن الأنظمة السياسية كي يتم تغيرها تغيرًا جذريًا لابد من هدم القديم وإعادة البناء، التطوير من الداخل لابد أن يمر بمرحلة تكسير القديم بما يسمى (ثورة) أو بـانقلاب عسكري أو تدخل خارجي مسلح. فالقديم يمسك بيديه في الحكم ولابد من نزعه عنه، أو نزعه منه بقوةٍ ما. وهذا الأمر يحدث فوضى مؤقتة كما حدث بعد الربيع العربي وبعد كل تغيير تقوم به المنظومة العلمانية، فلو وجد نابهون بعددٍ كاف لاستطاعوا الحيلولة دون تمكن الجديد، ولكن القوة قوة أدوات، وعلى رأس الأدوات المعرفة الصحيحة.
كيف التقى المتصارعان في ساحة الفوضى؟!
باختصار صنع الثاني (الأمريكان ومن خلفهم) بالأول (الجهاديين ومن تحمس معهم) الفوضى، في العراق والشام واليمن وليبيا والجزائر والصومال، ثم جاءوا خلفهم يعيدون هيكلة المجتمعات من جديد، وانتهى مشهد الفوضى بتحولات جذرية لصالح الأمريكان ومن خلفهم، فهل يتعظ الإسلاميون؟ هل يخرجون من المشهد ويقفون على سلاسل الفشل التي مروا بها جيلًا بعد جيل ويقولون بقول الأُول: أنى هذا؟، أم يندفعون مرة أخرى لتجربةٍ فاشلة من وحي الواقع.. أو بالأحرى من وحي عدوهم؟!!
الإحساس بالظلم والقهر والغيرة على حرمات الله لا يكفي وحده لتصويب الفعل، وفي تراثنا فصل للصالحين عن المصلحين، فبعض سادتنا من السلف كان يستسقى بوجهه الغمام ويرجى بدعائه مدد الله من فوق سبع سموات ولكنهم لم يكونوا يقبلون حديثه ولا يقدمونه لقيادة أو قضاء. والتكييف الشرعي يقع على القصد للفعل لا على ما وراء القصد من إرادة الثواب. فمن قصد فعل شيء وفعله أتاه الوصف الشرعي علم بالعقوبة أم لم يعلم. ومناط الحكم في الدنيا غير مناط الأنتفاع في الآخرة.
محمد جلال القصاص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق