الجمعة، 2 ديسمبر 2022

مقومات إدارة الصراع في كتاب الله

مقومات إدارة الصراع في كتاب الله



د. عطية عدلان

موضوع كبير من موضوعات القرآن الكريم؛ التعرض له يأتي على وجه التفسير الموضوعي لكتاب الله عز وجل، وهذا اللون من التفسير يجب أن يحتل المكانة الأولى في عالم التفسير، ولا سيما في هذا الزمان الذي تشتدّ فيه الحاجة لتنزيل آيات القرآن وهداياته على الواقع، ومعرفة السبيل القويم لمعالجة النوازل التي حلت بالأمة الإسلامية.

ولا ريب أنّ إدارة الصراع أحد أهم التحديات المعاصرة، بل هو التحدي الأكبر الذي يتحدد بموجبه مصير الأمّة وسط هذا المزدحم من التناقضات والإشكالات، كيف ننجح في إدارة الصراع؟ ما هي المقومات الرئيسية التي تدعم هذه العملية وتضمن لها النجاح ولو على المدى البعيد؟

إنّ الذي يقرأ القرآن وهو يعيش همّ الأمّة ويعاني معالجة قضاياها هو الذي يرى الحقيقة الرائعة الباهرة، حقيقة أنّ القرآن الكريم يخوض بالفئة المؤمنة الصراع مع الجاهلية، ويرسم لها الطريق، ويضع لها على منحنياته المعالم البارزة، ويقرر بوضوح شديد مقومات النجاح في إدارة هذا الصراع، فما هي هذه المقومات؟

على سبيل الإجمال؛ تتلخص مقومات إدارة الصراع في كتاب الله تعالى في إدراك الذات أولا، ومعرفة الرؤية والمشروع، ثم في معرفة العدو، والوقوف على طبيعته ودرجة عداوته وسقف الصراع الدائر بيننا وبينه، ثم في فهم طبيعة الصراع، وهل هو صراع أيديولوجيّ أم صراع مصالح أم ماذا؟ ثم في ربط مراحل هذا الصراع بالسنن الإلهية التي يحكم الله بها العالم ربطاً صحيحا، ثم في تحديد الموقف من هذا العدو بقدر كبير من الوضوح والشفافية وعدم التلبيس، وأخيرا في السعي لاستكمال أدوات وآليات التحكم في هذا الصراع.

ففي اتجاه إدراك الذات تأتي آيات القرآن الكريم واضحة وحاسمة، فهذه الأمّة ليست كأيّ أمّة من الأمم، وإنما هي أمّة صاحبة رسالة عالمية: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (وما هو إلا ذكر للعالمين) (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)، ولأجل أنّها أمّة صاحبة رسالة عالمية سامية جاءت بمنهج وسط عدل؛ تقاس به كل المناهج وتوزن به كل الأوضاع: (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)؛ وهذا يستوجب أن تكون على هيئة من الخيرية تؤهلها لدورها الكبير: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)؛ ويترتب على ذلك كله - وعلى حتمية الواقع المعاند الكنود - أن يكون الجهاد سبيلها في القيام بوظيفتها: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) وهذا وغيره يستلزم قيام دولة ذات نظام خاص يسمو ويتفوق على كل الأنظمة، ويُمَكِّن الأمّة من حماية منهج الله وبسط سيادته على أرض الله؛ (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).

وإدراك الذات أحد شِقَّي الحقيقة، ومبتدأُ الجملة التي لا تتم إلا بخبرها، وهو معرفة العدو: من هو؟ وما امتداداته، سواء منها الصريحة أوالمتوارية خلف أستار النفاق؟ وأين يقف هذا العدو؟ وكيف يفكر؟ وما هي نظرته إليك، وما حدود عداوته لك؟ وما هو سقف صراعه معك؟

ولعل إدراك الحقيقة بشقيها هو الغرض من ابتداء سورة القتال - التي ترسم استراتيجية الصراع في المرحلة الأولى من المواجهة المسلحة - بهذه الثنائية الفارقة: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم؛ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحقّ من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم)، وهي ثنائية تمضي بهذا التوازي مع تتابع موضوعات السورة.

وقد فصل القرآن في بيان طبيعة العدو، فلم يترك - برغم الإجمال الشديد - زاوية شاغرة ، وإذا كان جميع الأعداء في كل مكان وزمان يُنْمَون إلى هذه الفئات الثلاثة: المشركين وأهل الكتاب، والمنافقين؛ فإنَّ القرآن قد أسهب في بيان طبيعة كل طيف من هذه الأطياف بصورة جَليَّة.

فلقد تحدث القرآن عن المشركين المعاندين حديثا بيِّنا يناسب حالهم في السفور والإعلان: (إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، (ولو نزَّلنا عليك كتاب في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)، (ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهُو عنه وإنّهم لكاذبون)، (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكِّرَت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) فهذا شأن معانديهم، أمّا الرعاع الهمج فهم - إلا من هدى الله -  يمضون وراء صناديد الضلال عن هوى؛ لذلك يكون صياحهم يوم القيامة: (ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا).

وعن أهل الكتاب تحدث القرآن حديثا يزيل المساحات الرمادية ويكشف عن طبيعة القوم وعن أهدافهم: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، (بعضهم أولياء بعض)، (ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، (وَدَّ كثير من أهل الكتاب لو يضلونكم)، (ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) والآيات في هذا الشأن كثيرة وواضحة الدلالة.

أمّا المنافقون فهم يبتغون نفقاً بين الحقّ والباطل يربضون فيه متربصين بالحقّ وأهله؛ لذلك نزل في شأنهم سور وآيات كثيرة في سور عديدة، ففي التوبة والمنافقون والنساء وآل عمران وغيرها من السور بيان شافي، لكن الأهم من بيان حالهم كثرة التحذيرات القرآنية من الوقوع في شراكهم والتعثر في براثنهم، من ذلك: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً؛ ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)، (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم)، (هم العدو فاحذرهم).

فإذا أدركت ذاتك وعرفت عدوك لم يبق إلا بيان الإبهام الواقع في المساحة التي بينك وبينه؛ فلا بدّ من معرفة طبيعة الصراع: هل هو صراع أيديولوجيّ؟ أم صراع مصالح؟ أم هما معاً؟ وهل يرقى إلى كونه صراع وجود؟ أم له سقف دون ذلك؟ وفي هذا الصدد يأتيك الخطاب القرآني بالقول الفصل: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، (لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة)، (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)، (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)، (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله)، (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)، (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد).

تأتي بعد ذلك خطوة لا بدَّ منها، وهي بيان الموقف المناسب الذي تفرضه هذه الحقائق، وهو الموقف الذي لا يصح غيره، موقف المفاصلة، وهو موقف لا علاقة له بالمعاملات الدنيوية التي قد تقع بين الأعداء في السلم والحرب على السواء ، ولا بالمهادنات أو المتاركات التي قد تحدث بين الجيوش المتحاربة، ولا بالعدل والإحسان الذي يجب على الأمّة تجاه خلق الله، ولا بحقوق الإنسان التي يصونها الإسلام، أنّه الموقف العقديّ الذي يمنع الذوبان ويحرز من التميع، والقرآن يؤكد على هذا الموقف بلغة حاسمة: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرَءَاءُ منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً؛ حتى تؤمنوا بالله وحده) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّونَ من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم).

وفي غمرة الصراع تشتدُّ الحاجة إلى معرفة السنن الإلهية التي تحكم الحياة الإنسانية، حتى يُحْسِن أهل الحق التعامل معها وربط مراحل الصراع بها، فتأتيهم آيات القرآن بما يكفي ويغني: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) إلى غير ذلك من السنن الواضحة، لكن المهم هو أن يفقهها المسلمون ويفقهوا كيفية التعامل معها، ويحسنوا ربط الأحداث بها بلا إخلاف ولا إخلال.

وأخيرا يزودنا القرآن بمقوم هام، وهو ضرورة السعي في استكمال أدوات الصراع، والتي منها الإعداد قدر الاستطاعة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ومنها اليقظة والحذر والاحتراز اللازم لمواجهة الأخطار: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً)، (وَدُّوا لو تَغْفُلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم مَيْلة واحدة) ومنها تحصين المجتمع من الحرب النفسية المعنوية: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

هذه هي الخطوط الكلية والملامح العامة لخطة القرآن الكريم في إدارة الصراع، وهي جزء من منهج الله تعالى في التمكين لهذا الدين ولهذه الأمّة، فما أجدرنا بالمسارعة إلى الاستمساك بها، وتفعيلها في طريقنا!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق