أحمد عبد العزيز
انتقلت الحالة المصرية (في الآونة الأخيرة) إلى طور جديد، أكثر عمقا، وأبعد اتساعا، وأشد تعقيدا؛ فبعد أن كنا نتحدث عن "ثورة" لإسقاط نظام مستبد فاسد مفسد، هوى بمصر إلى الحضيض، عن سابق قصد وتصميم، فأمست في ذيل الأمم، وأصبحت "ملطشة" للرائح والغادي، بات من المُتَعَيَّن علينا أن نتحدث عن "تحرير" مصر من هيمنة ثلاثية (أمريكية صهيونية خليجية) سلبت المصريين كل مظاهر السيادة والاستقلال! وإن شئت فقل: "هيمنة رباعية" بعد إضافة الجيش المصري إلى هذا الثلاثي، ولن تكون متجاوزا أو مبالغا! فالجيش المنوط به الدفاع عن مصر (شعبا وأرضا وكيانا) قد سبق هذا الثلاثي إلى انتزاع أرض مصر وأصولها من المصريين، بقرارات (لا مؤاخذة) جمهورية، ممهورة بتوقيع جنرال احتل موقع الرئاسة بانقلاب عسكري، على الرئيس الشرعي المنتخب!
وإذا كان الثلاثي (الأجنبي) يضع يده على أرض مصر وأصولها مقابل "خدماته" أو "أمواله" التي لا يعرف المصريون إلى أين تذهب، فإن الجيش المصري (الوطني) ينتزع ما استطاع منها بقوة السلاح الذي تدفع مصر ثمنه من "الديون" التي ستتجاوز نصف تريليون دولار خلال هذا العام، بعد أن صارت "الاستدانة" هي الوظيفة الأساس لنظام الانقلاب، إلى جانب التنكيل بالشعب، بينما تتولى أبواقه الإعلامية تخدير المصريين بالأماني والأوهام التي لن تتحقق أبدا، ما بقيت هذه السلطة جاثمة على صدورهم!
وضع كارثي وهزال سياسي!
أي كارثة أكبر من أن ترى بلدك يُباع في "المزاد" قطعة قطعة، وأنت عاجز (تماما) عن غَل أيدي مرتكبي هذه الخيانة العظمى العلنية، تحت شعارات "وطنية"؟! وأي هزال سياسي أسوأ من أن ترى سياسِيِّيك يتعاملون مع هذه الكارثة بدم بارد، بل شديد البرودة؟! تصريح صحفي.. تغريدة ركيكة.. مداخلة تلفزيونية.. إعادة نشر صور ساخرة.. كلام.. كلام.. كلام.. ولا فعل حقيقيا مؤثرا..
قبل أيام، وجهت لي إحدى القوى الوطنية المصرية في إسطنبول دعوة مع آخرين؛ لـ"التشاور"، كما جاء في نص الدعوة (كان ذلك مساء 25 كانون الثاني/ يناير المنصرم).. ومن أسف، لم أسمع في هذه الجلسة إلا كلاما إنشائيا، سمعته من الأشخاص أنفسهم قبل عام، أثناء مأدبة "غداء" دعت إليها الجهة نفسها التي وجهت الدعوة لـ"التشاور"!
على إثر ذلك، اعتذرت عن تلبية دعوة عريف اللقاء لإلقاء كلمة، ثم غادرت الجلسة، وفي حلقي غصة، وفي قلبي حسرة، وفي صدري بركان، وعزمت على عدم تلبية أي دعوة مجددا (على قلة المرات التي لبيت فيها دعوة) إلا أن يصلني "برنامج تفصيلي" يقنعني بجدوى حضور مثل هذه اللقاءات مستقبلا..
لم أكن سلبيا في التعامل مع الموقف، إذ كتبت رسالة إلى صاحب الدعوة، أعربت فيها عن خيبة أملي، وطلبت تحديد موعد ألتقيه فيه مع "الرأس المؤقت" لهذه القوة الوطنية؛ لعرض رؤيتي حول كيفية تغيير الوضع في مصر، ولم أتلق ردا على رسالتي حتى كتابة هذه السطور.. ولا فرق عندي إذا كان عدم الرد زهدا فيما عندي (كما زهدوا من قبل في اقتراحات سابقة، كان يمكن أن تنقذ مصر مما تعانيه اليوم) أو نسيانا منهم، أو انشغالا بما هو أهم، ولست أدري أي شيء أهم من البحث عن أنجع السبل للتعامل مع هذه الكارثة التي حلت ببلادنا، وستظل تعاني منها الأجيال القادمة لأمد لا يعلمه إلا الله!
أنماط التغيير التاريخية
التغيير "المسلح" مستحيل في مصر؛ لاعتبارات طبوغرافية ولوجستية و"فقهية" لا تسمح (مطلقا) بهذا النمط من التغيير، ولا علاقة لهذه "الاستحالة" بشعار "سلميتنا أقوى من الرصاص" الذي أطلقه الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان المسلمين (فك الله أسره) أثناء الاعتصام السلمي في "رابعة العدوية"؛ لحقن الدماء، والحيلولة دون وصول مصر إلى ما وصلت إليه اليوم، وفي هذا تفصيل كثير.
التغيير الديمقراطي (النموذج التركي) ليس واردا في مصر.. ففي تركيا أحزاب حقيقية، تجري بينها انتخابات حقيقية، ولديها صحافة وتلفزة تمثل التيارات الفاعلة في المجتمع، وتتمتع بسقف عالٍ من الحرية، وكل ذلك لا وجود له في مصر اليوم..
فرغم سيطرة الجيش التركي على مقاليد السلطة (سابقا) إلا أن "الإصلاحيين" استطاعوا الوصول إلى السلطة مرتين (عدنان مندريس وتورغوت أوزال. والأول تم إعدامه، والثاني مات مسموما، وكان لكل منهما بصمة في وجدان الشعب التركي، وأثر واضح في التغيير الإيجابي الذي جرى لاحقا).. أما "الإسلاميون" المتصالحون مع العلمانية، فوصلوا إلى السلطة مرتين أيضا (نجم الدين أربكان والطيب رجب أردوغان، الأول أجبره الجيش على الاستقالة، والثاني أجهض محاولة الانقلاب عليه بمساعدة الشعب والقوات الخاصة، وانحياز قيادات عسكرية رفيعة للتجربة الديمقراطية التي لمسوا نتائجها الرائعة على تركيا وشعبها).
نجح التغيير في فرنسا لتأثر الطبقة البرجوازية بأفكار فولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم من فلاسفة عصر الأنوار، إلى جانب رغبة الشعب في التحرر من عبودية الملك والنبلاء، وكان الثمن فادحا جدا على كل الصُّعُد؛ جَرَّاء تناحر الفرقاء على "الزعامة"!
نجح التغيير في روسيا القيصرية؛ لاتساع رقعة المؤمنين بالماركسية التي وعدتهم بـ"المساواة" و"حُكم البروليتاريا".. فساوت الشيوعية بين أفراد الشعب في الجوع والقهر والتهميش، وبقيت البروليتاريا في "القاع"، ولم تحكم أبدا، حتى سقط الاتحاد السوفييتي، في تسعينيات القرن الماضي، بعد تجربة "شيوعية" لم تكمل قرنا من الزمن.
نجح التغيير في إيران؛ لأن زعيم الثورة (الخميني) كان مطاعا بين "مُقلديه" من الشيعة وهم بالملايين، كونه "مرجعا دينيا" لهم، إلى جانب سخط عموم الشعب الإيراني على نظام الشاه الذي أذاقه لباس الجوع والخوف.
فشل التغيير في مصر (أعني 25 يناير 2011) لأنها لم تكن "ثورة" وإنما كانت "انتفاضة عشوائية" من جانب الشعب، وانقلابا أبيض على مبارك من جانب العسكر، وما كانت سنة الرئيس مرسي (رحمه الله) إلا "فاصلا قصيرا" ليتسنى للعسكر التقاط أنفاسهم، وإعادة ترتيب أوراقهم، والاستيلاء على السلطة مجددا، بعد اضطرارهم للابتعاد (الظاهري) عنها مؤقتا؛ لامتصاص غضب "الثوار" الذين نظموا "المليونيات" لمطالبتهم بتسليم الحكم إلى "سلطة مدنية منتخبة".
متطلبات الثورة التي نريد
"عقيدة" تجسد ثقافة المجتمع وطموحاته.. "قيادة متجانسة" لديها رؤية وخطة.. "وعي" لدى قطاع عريض من الشعب بأهداف الثورة.. "آلية لحسم الخلاف" داخل القيادة.
فقد أثبت تاريخ الثورات "حتمية" وجود عقيدة (أيديولوجية) تلتف حولها الكتلة الفاعلة في المجتمع، وتخلق لديها الاستعداد للتضحية والصبر.. فلا تغيير بلا ضريبة، وكل تغيير لا بد له من وقت حتى يتحقق.
كما أثبت تاريخ الثورات "ضرورة" التوافق على "قيادة ثورية" مسموعة الكلمة، وآية ذلك، نجاح الثورتين الروسية والإيرانية، في وقت قصير نسبيا، بينما تأخر نجاح الثورة الفرنسية نحو سبعين سنة، أي ما يعادل عمر التجربة الشيوعية السوفييتية كاملا! هذا إذا اعتبرنا كل هذا التأخير نجاحا، حسبما يرى المفتونون بالثورة الفرنسية.
أيضا، أثبت تاريخ الثورات "الحاجة" إلى وجود منصات (مؤسسات وكيانات وأفراد) لنشر "العقيدة" التي تبنَّاها دعاة التغيير، وإشاعة الثقة فيهم بين الجماهير، من خلال الوسائل المتاحة في كل عصر، وهذا ما نسميه اليوم بـ"الوعي".
وأخير، أثبت تاريخ الثورات أن النزاع والخلاف واقعان لا محالة بين أعضاء "قيادة التغيير"، حتى لو كانوا ينتمون لفصيل "أيديولوجي" واحد.. لذا، لا بد من وضع آلية "ملزِمة" لفض النزاعات، وحل الخلافات التي ستنشأ (حتما) بين هذه القيادات.
الطريق إلى الثورة التي نريد
أثبتت التجربة أن الديمقراطية (المصرية) يمكن الانقلاب عليها بسهولة، إذا وجد العسكر "غطاءً شعبيا" يحركه "ديماغوجيون مؤدلجون" لديهم كراهية شخصية أو عداوة أيديولوجية، تجاه مَن يصل إلى سدة الحكم عبر انتخابات حرة نزيهة!
أثبتت التجربة (المصرية) أن الرئيس الذي يفوز بأغلبية "طفيفة"، يسهل الإطاحة به.. ومن ثم، لا بد من وجود أغلبية "ساحقة" تصل بالرئيس إلى سدة الحكم، وتحميه من أي محاولة للانقلاب عليه. وهذا هو لب الموضوع.. العمل على إيجاد أو تكوين أو خلق هذه الأغلبية الساحقة.
أثبتت التجربة المصرية أن الشعب ينحاز إلى من يدغدغ مشاعره ويمنّيه ولو بالأوهام، كما أثبتت أن الشعب لا يفرق بين حاكم صالح وآخر طالح! وهذا (لعمري) خلل جسيم لا يمكن معه إقناع الشعب بالفرق بين مَن يجب أن يحكم، ومَن يجب أن يُحاكم، كما لا يمكن معه المحافظة على أية مكتسبات يحدثها التغيير.
الجيش لن يسلم السلطة لمدنيين مطلقا، ما دام يملك القوة المميتة، ويمكنه استخدامها وقتما يشاء، بلا رقيب ولا حسيب.
من سمات النخبة المصرية العجز والأنانية والتشرذم، إذ تتنازعها مشارب أيديولوجية يتعارض كثير منها مع الإسلام، دين الغالبية العظمى من المصريين.
الشخصيات القيادية (عموما) لديها قناعة بأنها يمكن أن تفكر وتخطط، لذا فهي تزهد في استشارة الخبراء الحاذقين، وهذا من أهم أسباب تخلف بلادنا وأمتنا.. القائد "الناجح" هو "مدير شاطر" بالأساس، لديه رؤية استراتيجية واضحة، أما التفكير والتخطيط والتنفيذ، فهذا شأن مؤسسات أخرى يديرها هذا "المدير الشاطر" بكفاءة، فينقل بلاده من نجاح إلى نجاح (مهاتير محمد وأردوغان نموذجان).
لكل ما تقدم، أرى أنه من الضروري العاجل، قيام كيان ما، أو جهة ما، أو مجموعة ما، بتوجيه الدعوة لنخبة من الخبراء، في المجالات الحيوية (الاجتماع، السياسة، الفقه، الاقتصاد، التاريخ، الإعلام، الفنون.. إلخ) للاجتماع؛ بهدف رفع الواقع المصري، وتحليل الشخصية المصرية المعاصرة، والخروج بتصور شامل للتغيير.
يجتمع هؤلاء الخبراء لتوزيع المهام.. يقدم كل خبير طرحه في ورقة بحثية.. يجتمع خبراء كل تخصص للتوافق على طرح موحد.. يجتمع الخبراء (في كل المجالات) للتوافق على عقيدة ورؤية وخطة زمنية.. تصل نسخة من كل ذلك إلى أصحاب الأقلام والمنابر والمنصات المؤمنين بالتغيير، على أن يلتزم بها الجميع، مع ترك حرية اختيار "قالب التقديم" والإبداع فيه للمنفذين، كلٌّ حسب إمكاناته وموهبته وأسلوبه.. المهم أن يعزف الجميع عزفا منسجما، يحقق الغاية النهائية. أما أسلوب العزف المنفرد فأثره محدود، مع كثرة العازفين!
يُفترض (حسب الخطة الزمنية) أن يصل وعي الجماهير إلى درجة "مقبولة"، ويصل وعي الكتلة القادرة على إحداث التغيير إلى "درجة عالية" تمكنها من تحريك الجماهير في لحظة معينة؛ لإرسال رسائل "الثورة" إلى المتربع على سدة الحكم، بصور شتى محددة سلفا، مفادها أن الشعب أصبح له كلمة، وإرادة، وحضور، ومطالب طبيعية يجب عليه تلبيتها، فإذا استجاب للرسائل، فهذه بداية التغيير السلمي المنشود، أو "الثورة التي نريد"، وإذا أبى، فالذهاب (فورا) إلى تصعيد سلمي "مدروس" ينفذه ذلك القطاع العريض من الشعب، عن "وعي" وبصيرة بضريبة التغيير.
"السلمية" لا تعني الاستسلام، وإنما تعني "عدم البدء بعدوان"، ولكل شخص الحق في الدفاع عن نفسه حال تعرضه لعدوان، فإذا مات فهو شهيد، وإذا عاش فبعزة وكرامة.
لا يدفع ضريبة التغيير عن رضا إلا "صاحب عقيدة"، فالعقيدة (قبل أي شيء آخر) هي التي تعين صاحبها على الصبر والصمود، حتى يحقق هدفه، أو يهلك دونه.. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام خير أسوة.. فالعقيدة وحدها هي التي مكنتهم من تحمل حصار مُشركي مكة لهم، في شِعب أبي طالب لثلاث سنوات، أكلوا خلالها أوراق الشجر وجلود الحيوانات! وهو ذات الحصار الذي يجب أن يتوقعه الشعب المصري من "الاحتلال الرباعي" الذي استولى على أصول مصر!
ومن ثم، فإن "خطة التغيير" أو "خطة ثورة التحرير" يجب أن يكون من "أركانها" حث المصريين (بشتى الصور الفعالة والمؤثرة) على الالتزام بدينهم التزاما حقيقيا لا صوَريا، التزاما سلوكيا لا طقوسيا.. فهذه بداية السبيل الأمثل الذي يجب أن نسلكه؛ لتحرير مصر وشعبها، فتكون مصر هي النواة الصلبة، في مشروع "نهضة الأمة" المنوط بها إخراج البشرية من عبادة المادة، إلى عبادة خالق المادة.
(انتهى)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
الثورة التي نريد (1)
الثورة التي نريد (3)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق