فتن الأندلس المتلاحقة وتداعياتها الأليمة!
بعد هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء بوسط فرنسا في رمضان 114هـ، واستشهاد القائد الكبير عبدالرحمن الغافقي، بادر عبيد الله بن الحبحاب، أمير المغرب للخليفة هشام بن عبدالملك، بتعيين عقبة بن الحجاج السلولي، أميرا على الأندلس.
اضطر عقبة أن يترك كل شيء في جنوب فرنسا على ما هو عليه، وأن يعود بأغلب الجيش، إلى قرطبة. ثم جاز المضيق إلى المغرب لمحاربة البربر هناك، دون نتيجة تذكر.
الأندلس عشية اندلاع الفتنة
دخل عقبة الأندلس أواخر سنة 116هـ، وأخذ ينظم شؤونها الداخلية، ويتأهب لتجديد الفتوح في فرنسا، لأن عقبة كان محبا للجهاد. وقد نجح المسلمون تحت قيادته من استراد أكثر المناطق الذي كانوا فقدوها في جنوب فرنسا بعد هزيمتهم في معركة البلاط.
ولكن في 122هـ، وبينما كان عقبة يواصل الفتوحات في جنوب فرنسا، اندلعت فتنة خوارج البربر في المغرب خلف ظهر الجيوش الفاتحة في صقلية وجنوب فرنسا، ونجحوا في الاستيلاء على طنجة واتخذوها عاصمة لهم، وعلى إثر ذلك سارع ابن الحبحاب، باستدعاء الجيوش الإسلامية من صقلية وجنوبي فرنسا، بالعودة إلى المغرب والأندلس، لأجل القضاء على تلك الفتنة المزلزلة.
ونتيجة لذلك، فقد اضطر عقبة أن يترك كل شيء في جنوب فرنسا على ما هو عليه، وأن يعود بأغلب الجيش، إلى قرطبة. ثم جاز المضيق إلى المغرب لمحاربة البربر هناك، دون نتيجة تذكر. ثم اختفى عن مسرح الأحداث بعد ذلك، وقيل إن عبد الملك بن قطن الفهري، رأس العرب الحجازيين بالأندلس، قتله وفرض نفسه واليا بدلا عنه دون الرجوع للخلافة، هذه الأخيرة التي تعرضت جيوشها إلى نكبات متتالية في المغرب على أيدي البربر.
سرعان ما رفع البربر بالأندلس رءوسهم بعد أن سمعوا بالانتصارات المدوية التي حققها إخوانهم بالمغرب، فقد أعلنوا الثورة على العرب، وقتلوهم وطردوهم من مناطق شمال غرب الاندلس
انتقال الفتنة إلى الأندلس
بيد أن ابن قطن، لم يهنأ بالولاية، إذ سرعان ما رفع البربر بالأندلس رءوسهم بعد أن سمعوا بالانتصارات المدوية التي حققها إخوانهم بالمغرب، فقد أعلنوا الثورة على العرب، وقتلوهم وطردوهم من مناطق شمال غرب الاندلس، لكثرتهم هناك وقلة العرب بها، فانحازت فلول العرب الذين كانوا هناك، إلى قرطبة.
ونظرا لعدم قدرة ابن قطن على مواجهة البربر، فقد اضطر إلى الاستنجاد بالعرب الشامين، المتحصنين في سبتة، بعد هزيمة خوارج البربر لهم بالمغرب قبل عام، وكان قد رفض قبل ذلك ادخالهم لحقده على الشاميين الذين هزموا الحجازيين في وقعة الحرة 63هـ، وكان أولئك الشاميون على وشك الهلاك جوعا جراء حصار البربر الطويل لهم، فعبروا إلى الأندلس، وكانوا عشرة آلاف مقاتل، واستطاعوا القضاء على ثورة خوارج البربر بها، بعد ثلاث معارك طاحنة.
ولكن سرعان ما دب الشقاق بينهم وبين ابن قطن، فقتلوه وصلبوه رغم أنه كان طاعنا في السن، ونصبوا زعيمهم بلج بن بشر أميرا للأندلس بدلا عنه. وقد أدى ذلك إلى موجة غضب كبيرة بين عرب الأندلس القدماء، الذين فتحوا البلد وتقاسموا خيراته واتخذوه وطنا لهم، وذلك قبل 30 عاما.
تولى أبو الخطار إمارة الأندلس، وقام بتفريق الشاميين في كور الأندلس البعيدة عن قرطبة، ونتيجة لذلك، فقد هدأت الأحوال بالأندلس قليلا.
الفتنة بين الشاميين والبلديين
وعلى إثر ذلك أعلن كثير من العرب البلديين بالأندلس، الثورة على الشاميين، وأجمعوا على طردهم من الأندلس. وتزعم الثورة أمية وقطن ابنا أمير الأندلس القتيل، وانضم لهما عبد الرحمن بن علقمة اللخمي"صاحب أربونة، وكان فارس الأندلس آنذاك، وكان تحت قيادته خيرة جند الأندلس، فتوجه على رأسهم نحو قرطبة لقتال الشاميين، وانضم إليه كثير من البربر الناقمين على الشاميين، وبلغ جيش ابن علقمة الزاحف نحو قرطبة أربعين ألف مقاتل، فخرج لهم بلج بن بشر منها في عشرة آلاف مقاتل، والتقى الجمعان في ضواحي قرطبة في شوال 124هـ.
فانجلت المعركة عن هزيمة العرب البلديين ومقتل عشرة آلاف منهم، وانتصار العرب الشاميين ومقتل ألف منهم، ومنهم زعيمهم بلج. وتولى أمر قرطبة ثعلبة بن سلامة العاملي، بينما عاد ابن علقمة إلى نربونة، ليستعد لجولة جديدة، ولم يوقف شلالات الدماء هذه إلا دخول أبي الخطار الكلبي سنة 125هـ، موفدا من قبل حنظلة الكلبي أمير المغرب، بعد هزيمته الساحقة لخوارج البربر بالمغرب.
فتولى أبو الخطار إمارة الأندلس، وقام بتفريق الشاميين في كور الأندلس البعيدة عن قرطبة، ونتيجة لذلك، فقد هدأت الأحوال بالأندلس قليلا.
قامت الحرب من جديد بين اليمانية والمضرية، وانتهت بهزيمة شنيعة لليمانية ومقتل زعيمهم أبي الخطار في معركة شقندة على الضفة الجنوبية للوادي الكبير سنة 130هـ، واجتمع الناس على الفهري.
الفتنة بين المضرية واليمانية
لم يدم استقرار الأندلس تحت إمارة أبي الخطار سوى سنتين فقط، إذ سرعان ما اندلعت بين أهلها فتنة جديدة، أشد وأنكى وهي الفتنة بين المضرية واليمانية، سنة 127هـ، وكان سببها انحياز أبي الخطار لقومه (اليمانية)، واهانته للصميل بن حاتم زعيم المضرية بالأندلس، ونتيجة لذلك، فقد اشتعلت الحرب بين الطرفين، فهزمت اليمانية، وخلع أبو الخطار عن الامارة في رجب 128هـ، وحل محله ثوابة بن سلمة الجذامي كواجهة للصميل زعيم المضرية، إلى أن توفي في ربيع 129هـ، وبعد ذلك، اختير يوسف الفهري، حفيد عقبة، أميرا للأندلس، بتدبير الصميل.
وقامت الحرب من جديد بين اليمانية والمضرية، وانتهت بهزيمة شنيعة لليمانية ومقتل زعيمهم أبي الخطار في معركة شقندة على الضفة الجنوبية للوادي الكبير سنة 130هـ، واجتمع الناس على الفهري. بيد أن ابن علقمة ظل مستبدا بأمور ثغر نربونة، وناقما على الفهري وحليفه الصميل لإسرافهما في سفك دماء اليمانية يوم شقنده، وكان يخطط للزحف عليهما في قرطبة، لكنه لم يلبث أن اغتيل بأيدي أصحابه، فأسرع الفهري، بتعيين أحد أبنائه واليا على نربونة، بدلا عنه، إلا أن قبائل البشكنس المشاكسة، حالت بينه وبينها.
ترتب على هذه الفتن دق اسفين مذحل بين العرب والبربر من جهة، واسفين مذحل آخر بين اليمانية والمضرية من جهة اخرى، فضلا عن اضطراب النظام والامن في الأندلس وتوقف حركة البناء والعمران
نتائج هذه الفتن الملاحقة
وقد نجم عن هذه الفتن المتلاحقة، زوال سيطرة المسلمين على كل الأراضي التي كانوا قد فتحوها فيما وراء جبال البرت، وعلى رأسها نربونة، تلك القاعدة الإسلامية الحصينة التي تركت وحدها تناطح إمبراطورية الفرنج الصاعدة عدة سنين، وبالتالي انتهاء مرحلة الفتوحات الإسلامية، في جنوب فرنسا، بعد أن استمرت هناك، زهاء نصف قرن، والأخطر من ذلك أن المسلمين اثناء فترة تلك الفتن قاموا بأخلاء مناطق واسعة في شمال غرب الأندلس تعادل مساحتها ربع مساحة الأندلس، حيث تركت هذه المناطق لقمة سائغة للنصارى لاستيطانها واقامة الدول المعادية للمسلمين بها.
كما ترتب على هذه الفتن دق اسفين مذحل بين العرب والبربر من جهة، واسفين مذحل آخر بين اليمانية والمضرية من جهة اخرى، فضلا عن اضطراب النظام والامن في الأندلس وتوقف حركة البناء والعمران، وانصرف عرب الأندلس عن الفتوحات انصرافا تاما، ولم ينقذ الأندلس من هذه الفتن العنصرية والقبلية، سوى دخول الأمير الأموي الطريد عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، بعد أن انجاه الله من سيوف المسودة (العباسيين) ومن مذبحة نهر أبي فطرس المروعة، واحيائه للدولة الأموية فيها، وذلك في ذي الحجة سنة 138هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق