التقويم الغزي
يقال، من لا يتذكر الماضي محكومٌ عليه بتكراره. وغزة، كما قال عنها المؤرخ الفلسطيني المقدسيّ عارف العارف، هي ابنة تاريخ متواصل و»بنت أجيال»، ولم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، غزة، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه. دخلت الحرب على غزة شهرها الثامن، ولا يبدو أن إسرائيل اقتربت من تحقيق أي من أهدافها من الحرب، فوحدها المقاومة هي من تتحكم في الزمان والمكان هناك، وإن بدا لنا عكس ذلك. بعد السابع من أكتوبر توقع الجميع أن لا شيء سيعود كما كان قبل الطوفان، وكأن المقاومة الفلسطينية ستبتدع تقويما جديدا للتأريخ للإنسانية، ولا أظن أن هذا يجانب الصواب، خصوصا وأن غزة كانت دائما تتبع تقويمها الخاص. ارتباط غزة بالتقويم الغزّي، هو ارتباط المدينة بتواريخ حروب عالمية، كحروب ملوك الفراعنة، وملوك اليونان والرومان، وملك الأشوريين والبابليين وملوك المسلمين كحرب صلاح الدين على الصليبيين، وهي معارك كانت في كل مرة تكتب تاريخا جديدا، فتأتي حرب أخرى لتمحوه، وهكذا، حتى صارت الأحداث في غزة تقويماً، يبدأ عام 60 قبل الميلاد.
وبحسب المؤرخ عارف العارف، فإن السنة الغزّية بدأت أول مرة ما بين شهر أكتوبر من سنة 61 ق.م وشهر أكتوبر من سنة 60 ق.م. لا حظوا معي أن لأكتوبر مع الغزيين تاريخا طويلا.
قد يبدو التاريخ في غزة أكثر من زمان ومكان، فكل شيء في تلك الرقعة الحرة -التي كان ينظر إليها إلى حدود الحرب الأخيرة، على أنها سجن كبير مفتوح ليتبين أن كل أهل غزة أحرار وكل من سواهم ينقسمون بين سجان وسجين- كل شيء مرتبط بإرادة أهلها أولا، وهو ما لا يمكن للمنطق تفسيره بحكم أن الطرف المتقدم من حيث التسليح والعتاد هو الطرف الإسرائيلي، فقط الدروس المستقاة من تاريخ غزة قد تعطي تفسيرا للملحمة التي تدور الآن في مساحة 56 كلم مربعا. رأينا قبل أيام ثلاثة من شجعان غزة يستشهدون برصاص قناصة إسرائيليين على سطح منزل في جباليا شمال القطاع غزة.
مجاهد أطلق النار من سطح منزل على قوة إسرائيلية مدججة بالسلاح أصيب في قدمه لكنه أكمل الاشتباك ولم يستسلم حتى استشهد، ثم نهض رفيقه المصاب وأخذ سلاحه وأكمل الاشتباك حتى استشهد هو الآخر، في فعل بطولي منقطع النظير، ومع أن المنطق يقول بأنه ما كان عليهما الاستمرار بعد كشفهما من قوات الاحتلال لكن الشابان لهما منطق غزي صرف، يستلهم بطولته من جيوش الفتوحات الإسلامية التي يحكي عنها التاريخ. حين قام جيش صلاح الدين الأيوبي عام 1178 بتحرير القدس وفلسطين عاشت غزة فترة رخاء انتهت بعد ثمانية قرون حين تم تدميرها بالكامل على يد المغول تحت قيادة هولاكو، فأعاد بناءها المماليك حين بدأوا بإدارة المنطقة واستخدموها كموقع في هجماتهم ضد الصليبيين حتى عام 1290.
إلا أن غزة كانت على موعد آخر مع الدمار حين وقع زلزال في عام 1294 دمرها بالكامل، وبعد مرور خمس سنوات عاد المغول ودمروا مرة أخرى كل ما بناه المماليك، وبعد نصف قرن انتشر وباء الطاعون في المدينة وقضى على غالبية سكانها، وعانى ما تبقى منهم من الفيضانات المدمرة بعد الوباء بأربع سنين، والتي كانت نادرة في ذلك الجزء القاحل من بلاد الشام الجنوبية.
لكن لم يمر وقت طويل حتى كتب الرحالة المغربي ابن بطوطة عندما زار المدينة في 1355 «انها كبيرة ومزدحمة بالسكان، وفيها العديد من المساجد» في دلالة على أن الحياة عادت مجددا للمدينة.
وبالتقويم الغزي، نحن لسنا بعيدين عن مرحلة جديدة من التاريخ، ستنبعث فيها غزة مجددا من رمادها كطائر عنقاء فلسطيني غير مكترث بمنطق آلة الدمار التي يسلطها عليه المحتل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق