قراءة تحليلية بعيدة عن العواطف والبكائيات
ماذا وراء اغتيال هنية؟ ولماذا؟
يعتبر اغتيال هنية حدثا ضخما في تاريخ المقاومة، وفي مسيرة حركة حماس، وفي مصير معركة غزة الأخيرة، وفي مآلات مفاوضات إنهاء الحرب في غزة، وإعادة المخطوفين إلى أهاليهم، ولكن الخطورة تكمن في مسألتين مهمتين، وهما، مكان الاغتيال (طهران)، ولحظة الاغتيال (عودة نيتنياهو) من سفره الأخير من الولايات المتحدة، وفيهما سر كبير، هل حصل نيتنياهو الضوء الأخضر من القيادة السياسية في أمريكا لاغتيال القادة من حركات المقاومة، وهو يبحث بكل السبل والطرق عن نصر يمكن له تسويقه للشعب الإسرائيلي؟ ولماذا اختار طهران؟ ولم يفعل ذلك في الدوحة مثلا؟ هل يريد جر إيران للقتال الشامل في المنطقة؟ وهل يرغب أن تدخل الولايات المتحدة المعركة معها؟ وهل يريد خلط الأوراق في المنطقة لأجل صناعة خراب في المنطقة لينجو بنفسه؟
إن قتل هنية، وهو رئيس أكبر حركة مقاومة في فلسطين في هذه اللحظات التاريخية ليس أمرًا هينا، وليس كذلك أمرًا بسيطا، ولن يكون كذلك، ولكن السؤال ما زال مطروحا، لماذا الآن؟ ولماذا في طهران؟ نجد أسرارا كبيرة وراء هذين السؤالين، لأن المسألة في محتواها لا تحمل فقط التخلص من قائد كبير من حركة تحرر وطني، ولكنها تحمل رسالة موجهة نحو المنطقة، وخاصة نحو قوي المقاومة، كما ترسل رسالة أخرى نحو العالم فحواها، أن يد إسرائيل طويلة، ولا يمكن إيقافها في جغرافيا محددة، كما ترسل رسالة مهمة نحو الداخل المهزوز بعد السابع من أكتوبر من العام المنصرم بأنها ما زالت قوية، وأنها تملك أوراقًا كبيرة وكثيرة ممكن لها أن تغير مجرى الفعل السياسي، وأنها بدأت تعمل من جديد في استعادة القوة.
يعتبر هذا الفعل من وجهة نظر القانون الدولي والإنساني جريمة قانونية، لأن هنية قائد سياسي، وليس قائدا عسكريا، وتم اغتياله في دولة ذات سيادة، وعضو في الأمم المتحدة، ويعتبر الرجل ضيفا عندها، كما يعتبر اغتياله في هذه اللحظة فشلا سياسيا، لأن الرجل كان يمثل النافذة السياسية المهمة في المفاوضات، وكان ضيفا لدولة لها علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة وهي دولة قطر، كما أن اغتياله لن ينتج إلا قوة وتماسكا للمقاومة، لأنها لا ترتبط بالأشخاص بقدر ما ترتبط بالأفكار، فقد تم في نصف قرن من حركة النضال الفلسطيني اغتيال المئات، ولكن ذلك لم يؤد إلي إيقاف حركات النضال والتحرر، بل كان يؤدى في كل مرة إلي إنتاج قيادات جديدة أكثر صلابة، وأقوى نوعية، ولهذا نؤكد بأن الاغتيال ليس نصرا سياسيا، ولا استعادة للقوة كما يريد تسويقها نيتنياهو للداخل والخارج.
لقد تم اغتيال القائد السياسي الأول لحركة المقاومة، وتم التخلص منه كما ذكرت وسائل الإعلام في الكيان، ولكن الذي يجب أن نقرأه نحن من العملية ليس هذا، بل هذا هو أمر ممكن الوقوع، وليس أمرا صعبا، فالأستاذ هنية رحمه الله سياسي يتحرك في المطارات، وينتقل بين العواصم، ويلتقي القيادات السياسية والفكرية بوضوح، فقتله ليس أمرًا صعبا، بل هو أمر عادي، كما أن قتله ليس مهمة استخباراتية قوية، ولكن الذي يجب فهمه لماذا في طهران؟ وأين رجال الأمن في إيران؟ وأين مخابرات الحرس الثوري في هذا الوطن المهم والمحوري في المنطقة؟ ولماذا تنجح إسرائيل دائما في اختراق الأمن الإيراني؟ هنا تكمن الخطورة، تتحدث جهات استخباراتية قريبة من القرار الإيراني بأن المشكلة أتت من جهاز التلفون الذي حمله المرحوم هنية حيث اتصل به ولده قبل ساعتين عبر الواتس آب، ومن هنا تم التنفيذ بالعملية، لأن الرجل كان في مكان مؤمن جدا، ومع هذا، ما زال السؤال صعبا، لماذا في طهران؟
لقد وصلت اليد الإسرائيلية الباطشة إلى عمق المقاومة اللبنانية فاغتالت الرجل العسكري الأول في حزب الله، واليوم تغتال أكبر رجل سياسي في المقاومة الفلسطينية في طهران، بينما فشلت في اغتيال السنوار الموجود في غزة، وهنا يتجدد السؤال. لماذا في طهران؟ هل ثمة اختراق في المقاومة الشيعية؟ ولماذا هذه الليونة الأمنية في داخل المقاومة الشيعية؟
استراتيجية الكيان الإسرائيلي:
تعمل إسرائيل في اغتيالاتها الأخيرة لتحقيق أهداف ثلاثة:
أولا: توسيع جغرافية المواجهة، وإدخال حزب الله في المعركة، وبالتالي تصبح المواجهة بين إسرائيل وبين قوى متعددة في المنطقة، ومن هنا يتم تخفيف التعاطف الدولي للقضية الفلسطينية، والتي وصلت ذروتها في الشهور الأخيرة.
ثانيا: تريد إسرائيل جر الولايات المتحدة للصراع، فيتم التخلص من العدو الاستراتيجي المتبقي للمنطقة وهي إيران، وهذا يمكن لها في هذه اللحظة التي تعيش فيها الولايات المتحدة فراغا سياسيا، لأن بايدن ليس سياسيا واعدا، وأن ترامب لا يعرف له حتى الآن مستقبلا سياسيا واعدا، كما أن كامالا هاريس تعيش في منطقة رمادية، لأنها لا ترغب نيتنياهو كزعيم سياسي، ولكنها تقف إلى جانب إسرائيل بقوة ككيان، فهو يستفيد من هذا الفراغ السياسي، ومن المناخ السياسي ما قبل الانتخابات الرئاسية.
ثالثا: يريد نيتنياهو تحقيق نصر مزعوم، ليرسل رسائل قوية نحو الداخل، وفحواها بأنه ما زال هو الأقوى، ومال زالت الأوراق بيده، وما زال الحضن الأهم للشعب في هذه المرحلة الحرجة.
لماذا في طهران
نقرأ من خلال ما جرى في هذه العملية في طهران ثلاثة رسائل:
الأولي: وجود ضعف في الداخل الإيراني، وخاصة فيما يتعلق بالأمن الاستراتيجي.
الثانية: إن إسرائيل تستفيد وبقوة من التناقضات الإيرانية في الداخل، وبهذا فهي تعلم وبشكل قوي هذه التناقضات السياسية والعسكرية والأمنية والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة دول داخل الدولة.
الثالثة: وجود دول في محيط إيران تدعم الكيان، أو وجود سفن في البحار القريبة من إيران انطلقت منها الصواريخ التي من خلالها تم اغتيال هنية رحمه الله، وهذا يؤكد بأن إسرائيل ليست جغرافيا بعيدة عن إيران، بل هي مشروع موجود في المنطقة.
ماذا بعد اغتيال هنية؟
تعتبر المقاومة في فلسطين حركة فكرية، ومن شأن الحركات الفكرية الارتباط بالمشروع، وليس بالأشخاص، فقد قتل من قبل العشرات، وهو كان مشروعا للشهادة من قبل، وسوف يعلن قريبا البديل الذي كان معدا من قبل، وكذلك الحركات النضالية لا يفزعون من موت رجالاتهم، فهم مشاريع للموت والحياة معا، ولكن السؤال، لماذا يكون الرجل السياسي الأهم في هذا المكشوف الأمني؟
لا بد من إعادة النظر في مسألة تأمين القيادات السياسية الكبيرة، وخاصة في هذه المرحلة الخطيرة، كما أنه لا بد من قراءة الخريطة من جديد، وتغيير بعض المعادلات لتأمين بعض الرجالات المهمين سياسيا وأمنيًا، فالمقاومة مشروع سياسي يقوم على أسس ثلاثة، التحرير، والدفاع، والبناء، فلا يمكن تحرير الوطن بدون دفاع عن رجالات الوطن، ولا يمكن بناء الوطن بدون رجال يعتقدون بأن المشروع عقيدة وفكرة قبل أن يكون نضالا وسياسة.
إن وراء كل مشروع سياسي فكرة، فالفكرة التي صنعت الكيان الإسرائيلي زعمت بوجود أرض لا شعب لها، ووجود شعب لا أرض له، ومن هنا قامت الفكرة للكيان، وواجه الكيان مشروعا آخر يؤمن بأن فلسطين أرض لها شعب، ومن هنا وقع الصراع، وما زال، فقد رفض الشعب الفلسطيني أن يكرر تجارب الهنود الحمر، ولم ينجح المشروع الغازي أن يكرر تجربة الرجل الأبيض، ومن هنا نؤكد كما كنا نعتقده سابقا بأن الصراع فكري وعقدي، ولا يمكن إلحاق الهزيمة إلا إذا تنازل الناس عن أفكارهم، وما ذلك ممكنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق