رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية
صفقة القرن وكل الجهود الأمريكية التي سبقتها اعتمدت في الأصل على ركيزة سياسية مهمة، لكنها ذات أرضية فكرية تخدم المشروع الإسرائيلي، فكان التطبيع العربي الشامل مع المركزية الصهيونية هو الهدف الاستراتيجي منذ مؤتمر مدريد، الذي رعته واشنطن وخططت له بعد حرب الخليج الثانية، وأعلنه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب سنة 1991 بعد حرب الحلفاء على العراق، إثر القرار الأحمق بغزو الكويت.
تلك الحرب كان لها مساران، يغيب ثانيهما عن أذهان كثيرين، فالمسار الأول هو خروج الغزو العراقي من كامل أرض الوطن الكويتي، وعودة الحكم الشرعي التقليدي للإمارة، بعد مؤتمر جدة الشعبي الذي اشترط خارطة طريق تُصحَّح بها أوضاع الكويت، وأعطى دعمه المطلق للأمير الراحل، الشيخ جابر الأحمد الصباح، وعودة الدولة.
أما المسار الثاني، فهو أنه خلال تلك الحرب زرعت الولايات المتحدة الأمريكية القواعد الجيوسياسية للتخطيط لغزو العراق، هذا التخطيط استبق عمليات التفجير الإرهابية في سبتمبر/ أيلول 2001، أي أنه سبق تلك العمليات في نيويورك بعشر سنوات، وهذا لا يعني التصديق المطلق لنظرية المؤامرة التي يرددها البعض.
لكن ضرب العراق وتحييده وإسقاطه لا يستدعي أن تخطط واشنطن لمعادلة مجنونة- كما يعتقد البعض- فتفجر معقل العاصمة الرأسمالية العالمية، كما أنه لا يلغي حجم الاستثمار الإرهابي والسياسي والاقتصادي الضخم، الذي حلبت منه واشنطن عبر فواتير عمليات مانهاتن، في الشرق الأوسط وغيره.
أما الذاكرة الأخرى، فهي أن هذا العراق لا بد أن يوضع له حد لتغيير قدراته العسكرية، التي كانت لوحة تحرير الفاو من قبضة الجيش الإيراني الصورةَ الأبرز في فهم ميلادها، ودورها في تأمين توازن ردع نسبي لصالح العرب، لكن العقلية الدكتاتورية لدى الرئيس الراحل صدام حسين دمرت تلك الحصيلة بالهدية التي قدمها للمركزية الغربية، وخدمتِها الطموحَ التاريخي للجمهورية الطائفية الإيرانية، من خلال غزو الكويت.
إن مراجعة عمليات الإبادة، التي نفذها الطيران الأمريكي في القوات العراقية المنسحبة على طريق الصليبيخات الدولي، وغيرها من عمليات الإبادة بعد وقف إطلاق النار وبعد بدء عمليات الانسحاب، التي تزامنت مع فوضى في الجهاز العسكري العراقي، تبين أن سببها عقلية المستبد الفرد، الذي لم يستوعب طموح شعبه، وأهمية تحويل مركزيته المطلقة المصمتة إلى إصلاح سياسي نسبي، كان يعني الكثير للعراق، ولنجاة المنطقة من الغزو ومن آثار ما بعد الغزو.
لكن هذه اللحظة برزت لواشنطن وتل أبيب معاً، واستفادتا بقوة من البوابة الإيرانية، وإن اختلفتا معها في حجم توسعها فيما بعد، فسعتا لقصقصته وليس لتدميره تدميراً كليا، إذ إن واشنطن وتل أبيب لم يكن لهما الوصول إلى تثبيت نظام الأسد بعد الثورة السورية دون الميلشيات الإيرانية، وسياسة الثورة الطائفية لطهران.. وحتى في العراق، لو طرحنا بصورة مبسطة اليوم السؤال: هل تقبل واشنطن وتل أبيب بعودة حكم يشارك فيه سُنَّة العراق بحجمهم الحقيقي في دولة ديمقراطية، تخضع للمهنية والتعاضد الشعبي لكل أطيافه؟ فإن الجواب الذي سيقرؤه المحلل السياسي بوضوح هو: لا..
إذن، حتى الحفاظ على ضمان سيطرة القوة الطائفية الإيرانية على العراق، هو بذاته هدف لتل أبيب والمعسكر الغربي، لسبب بسيط هو ألا يعود العراق إلى لحمة عربية فارقة، تتغير فيها معادلة الفوضى والتشظي القائمة، فالقضية ليست عواطف، ولا محبة أو بغض، ولكن جيوسياسية المشرق العربي.
وإذا أعدتَ السؤال، ولكن عبر سوريا: هل كان من صالح تل أبيب وواشنطن سقوط نظام الأسد، خاصة لو كان هذا السقوط مبكراً، وضُمن ألا يتلاعب أصدقاء الثورة السورية بميدانها العسكري، وعليه تقوم حكومة شبه ديمقراطية وشبه إصلاحية في دمشق، تجمع العرب والأكراد وتبدأ صناعة دولتها بمهنية عالية؟ أكان ممكنا أن تقبل بذلك واشنطن وتل أبيب؟.. الجواب- بلا أدنى شك- هو: لا.
لقد كان الغرب الإبادي المركزي، وذراعه الوظيفي الإسرائيلي، ينتظران تهيئة المسرح للبدء بالمهمة الأخيرة، وهي تطبيع الفكرة الصهيونية بين مجتمعات العرب والمسلمين، وعلى وجه الخصوص بين العرب في الهلال الخصيب وفي الجزيرة العربية، وفي قلب ذلك مصر.
ومن هنا نفهم عودة الخطاب الصهيوني العربي لبث سمومه بقوة بعد عملية اغتيال قائد المقاومة الفلسطينية إسماعيل هنية (رحمه الله)، فهو منعطفٌ مهم، حقق لهم فيه التقاطع الأمريكي الإسرائيلي مع مشروع طهران لحظة فارقة، ليس لكون العملية مدبرة من طهران، بل لكون مشروع وحدة الساحات الإيرانية، الذي دُفعت فيه المقاومة وغزة إلى قنطرة كارثية، استباحت الإبادة الغربية الإسرائيلية فيها الناس والشعب، بشكل لم يحصل في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني من قبل، وحصدت فيه تل أبيب من جسم المقاومة وقادتها المخلصين والشعب ما لم تأمله يوماً، ولم يكن ذلك ليتم دون الاستفراد بغزة تحت خيمة وحدة الساحات الإيرانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق