|
محمد جلال القصاص |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد : ــــ عجلة الأحداث تدور سريعا وتجرنا ــ نحن الإسلاميين ـــ ورائها ، فإلى اليوم نقف موقف المشاهد للحدث نحكيه ، وفي أحسن الأحوال نحلله . إن فريقا منا أصبحت الغاية عندهم معرفة الأخبار . دون التحرك إيجابيا نحو حلٍّ عملي لوقف نزيف الدم الذي يسيل من العروق ومن الفروج . وفريقا آخر جلس هادئا مستريحا يحلل الحدث ... يبحث عن دوافعه وأهدافه ، ليصبغها مقالا أو كتابا ... ربما ليقتات منه رزقا . وتضج الأصوات على المنابر تحكي عن غدر يهود وجبنهم وخيانتهم للعهود ، وعن حرية أمريكا الكاذبة ، وحقوق الإنسان التي جعلته كالحيوان . . . ، وكله خير ، إلا أنه دون ما نريد . وعلى مستوى العلماء والدعاة وطلبة العلم ، لا زلنا وراء الأحداث ، نتحرك بحركتها ، نبحث في شرعيتها ، ونرد على من خالف رأينا من إخواننا ، نكشف شيئا من خطط أعدائنا . وهو خير إلا أنه دون ما نريد . هناك من يفعل ويتركنا نكتب ، ولا ينبغي أن يظل الأمر هكذا ، فلابد من اتخاذ الخطوات اللازمة للأخذ بزمام الأحداث . وفي رسالتي هذه أعرض بعض الأمور التي تؤرقني على الساحة الإسلامية . وأتبعها ببعض المقترحات . والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي هذه ، وأن تجد أذنا تسمع . في العقدين الخامس والسادس من القرن الماضي ، فيما عرف تاريخيا بفترة الثورات ، كانت الأمة تعيش حالة من الغليان على الغرب كله ، وكانت جماهير الأمة تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية ، وطرد اليهود من بيت المقدس وفلسطين ، ثم انتهت هذه الحقبة بالعلمانية ــ فصل الدين عن الحياة ــ كمنهج حياة ، وبالعلمانيين في سدة الحكم الذين أضاعوا الثورات ، ومزقوا الأمة ، ومهدوا لمجيء المحتل ثانية .ولم تستطع الصحوة الإسلامية يومها قيادة الأمة الإسلامية ، وخسرت معركتها مع العلمانية المدعومة من الغرب . وكتبرير لما حدث قيل أن الصحوة لم تنضج بعد . وبعد أكثر من ستين عاما عادت الفرصة مرة ثانية . فهاهي القومية العربية تسقط جماهيريا ، بعد أن فشلت في تحقيق أي من أهدافها ، وأتت أمريكا تجر الغرب الصليبي الضال والشرق الوثني الملحد ــ يحركهم جميعا اليهود ـــ وتتدرع بعملائها من بني جلدتنا للقضاء على ( الإرهاب ) وتجفيف منابعه ، ووضِع العمل الإسلامي بكل حركاته ومؤسساته ورموزه هدفا للقضاء عليه ، وباتت كل الخطط مكشوفة ، وأصبحنا في موطن الدفاع غاية ما يرجوه أغلبنا هو السلامة والخروج بالكفاف لا له ولا عليه ، فماذا أنتم فاعلون ؟! وقبل أن يحدث أي شيء على الأرض اشرأبت بعض الرؤوس تريد أن تحظى بعطية أمريكا وتشارك في السياسة مُدعية أنه ظرف تاريخي قد لا يتكرر ، وأنها فرصة سانحة ( للتخلص من هذه الأنظمة التي أذاقتهم كل صنوف التعذيب والقتل خارج دائرة القانون ) . وأنه ( لابد من الفصل بين ( الدروشة ) و السياسة ) . أو أن الكفر يستثير الأنظمة العلمانية لتقدم مزيدا من التنازلات ، وكثيرا من التعاون في حرب ( الإرهاب ) . وكله شر . فماذا انتم فاعلون ؟ ومع كثرة الدماء التي تسيل من فروج نساء الأمة ومن شرايين رجالها ، ومع انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر , ومع كثرة المُفتين ، ومع قلة الفقهاء الراسخين ، وكثرة الخطباء الحماسيين ، بدأت طائفة من أحداث الأسنان .. تتحرك من تلقاء نفسها لنصرة الدين ، وفي حادث تفجير المدرسة البريطانية في قطر ، وتفجيرات طابا ، وتفجير الأزهر بالقاهرة وما تلاه من أحداث ، دليل على قولي ، فيجمعها جميعا أنها حوادث فردية أو شبه فردية من أناس لا علاقة لهم بالعمل الإسلامي المنظم . ودوافعها جميعا ما يحدث للمسلمين في العراق وفلسطين ، وهذه الأحداث قابلة للتكرار ، ويمكن أن تصبح ظاهرة ، وهي حالة صحية تحتاج من يرشدها ويستثمرها ، لا من يفسِّقُها ويُبدعها فيدفعها للشطط والغلو وأخذ موقف معادي من علماء الأمة ورموزها ، ويعطي مسوغا للأنظمة العلمانية المجرمة لمزيد من البطش بأبناء الصحوة الإسلامية . فما ذا أنتم فاعلون ؟ وأفرزت الحملة الصليبية الجديدة ـ العولمة [1]ـــ في بعدها الفكري توجها جديدا داخل التيار الإسلامي ، يدَّعي الليبرالية ( الإسلامية ) ، ويدعو إلى إزالة العقبات من أجل التقدم الحضاري والرقي المادي ويعتبر ــ أهل هذا التيار أن ( الإصلاح والتجديد هو المدخل المناسب للتقدم والقوة والمنعة ، وأن الإصلاح الديني يقع في مقدمة أوليات الإصلاح )[2] ثم هم تحت دعوى التجديد هذه تسللوا إلى الفقه الإسلامي من باب المقاصد لإعادة صياغته [3] . ولو سلمت النفوس من أهوائها لعلمت أن الإشكال ليس في الشرع وإنما فيمن يحملون الشرع . وكل هؤلاء الليبراليين يحاولون أخذ زمام الأمة والسير بها خلف الغرب ، وإن ألبسها البعض حلة الدين . وهذا شر ـــ في جملته ـــ يحتاج من يتصدى له ، فما ذا أنتم فاعلون ؟ ـــ وهناك أمر أكثر أهمية مما مضى من وجهة نظري ، وهو يتعلق بما يحدث في العراق وفلسطين وفي باقي المواطن التي تُرفع فيها للجهاد راية . ولي بخصوص هؤلاء عدّة ملاحظات : ـــ الأولى : تتعلق بأهل الجهاد أنفسهم ، وهو أن مرجعيتهم في تحديد الأهداف والوسائل ذاتية ، والشأن أن يكون أهل الجهاد تبع للعلماء الربانيين الراسخين في العلم الناصحين للأمة . وأن إمارتهم إمارة سرايا لا إمارة حل وعقد . وأنهم ليسوا أهلا للفتوى ، فلا بد ـــ من وجهة نظري ـــ من توجيه الرسائل إلي أعيانهم ، ومناصحتهم ، والاتصال بهم ، كي يثمر الحوار , أعرف أن هناك رسائل ومناصحات . ولكنها تأخذ شكل العموم الذي قد يُصغى إليه وقد لا يصغى إليه ، وما أنادي به هو الحوار المباشر . . . أشبه ما يكون بالمناظرة . أيها الكرام ! من بديهيات العقل أنه لابد للحق من قوة تحميه . . . لا بد من أهل الجهاد كي يقوم سلطان الرحمن ويندحر سلطان الشيطان , ولا أحسب أن عاقلا ــ فضلا عن عالم ـــ يخالف في هذا . ثم هم قاموا ولن يتراجعوا . ولهم مدد من بين أجيال الصاعدة . فلكل قوم وريث . فلا مناص إذا من الاتصال بهم ومناصحتهم شفويا وجها لوجه . وهذا الأمر يحتاج من يتجشم الصعاب ، وموضوع الحوار معهم يتبين من الملاحظات التالية . أولاً : يَغضُ كلُ من يتابع ما يحدث في العراق الطرفَ عن ظاهرة تعدد فرق المجاهدين [4] أو ( المقاومة ) ولم أرَ أحدا حاول قراءتها على غرار التجربة الأفغانية ، رغم التشابه الكبير بين التجربتين ، فالجهاد من أجل تحرير العراق ـــ الأرض ـــ وهذا من شأنه أن يعيد القضية ثانية أدبارها إلى قضية وطنية ، و إن أخذت مَسحة دينية .وبين الصفوف وطنيون ، وليس بعيدا أن يدخل بين الصفوف حين تبدوا بشائر النصر بعض المنافقين ويتكرر ما حدث في الجزائر من قبل . . لذا نريد حوارا يدعوا إلى وحدة الصف وتنقيته . فهل تفعلون ؟ ثانيا : نظر حكيم [5] للتاريخ , فوجد أن من قاتلهم السلف الصالح ... رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم أسلموا ودخل الإسلام بلادهم وصاروا جنداً من جنود الإسلام , ومن قاتلهم الخلف ـ الذين تخلو عن هدي السلف ـ لم يسلموا بل عاندوا واستكبروا وملئت قلوبهم حقداً وغِلاً على الإسلام والمسلمين . فقد رأوا مقاتلين ولم يجدوا دعاة . وهذا هو الحال اليوم قتال أكثر منه جهاد ــ لا أشكك في النوايا وإنما أصف الفعال ـــ فحرق وتمثيل ، وثأر للأشخاص ، وشعارات جاهلية تبرز من حين لآخر , مما يضيع به غاية الجهاد . ونحتاج منكم أيها الكرام أن تبينوا لهؤلاء أنهم دعاة قبل أن يكونوا مقاتلين . . . أعرف جيدا ما يطرح من نصائح وما أطالب به غير ذلك . . . حوار مباشر كما أسلفت . ثالثا : اتصال العلماء المباشر بالمجاهدين ، وقيادتهم لصفوفهم فيه حماية للمجاهدين من أنفسهم ، إذ أنه لو استمر الحال على ما هو عليه اليوم ربما تكرر ما حدث في أفغانستان من قبل كما أسلفت ، وحماية للأمة وعلمائها من المجاهدين ، فما ذا لو انتصروا وهم قد صنفوا كثيرا من علماء الأمة ودعاتها ضمن ( مََن خالفهم أو مَن خذلهم ) ؟ . رابعا : نريد من طلبة العلم ( تغطية ) الأحداث ، وأن لا يتركوا الأمر للصحافيين و ( المفكرين ) ، فهؤلاء غير هؤلاء . الصحفيون يتكلمون عن فلسطين الأرض والعراق الأرض ، وأمريكا ( البلد ) ، ويتكلمون عن ( المقاومة الوطنية الشريفة ) ، وجُلهم بادي الرأي يبحث عن سبقٍ صحفي . ومنطق طلبة العلم أنه جهاد يستهدف الكفر أيا كان جنسه أو لغته أو موطنه ، وأن الغزاة مشركون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وإن كان المال أحد أهدافهم ، وأن للنصر أسباب أخرى غير التي يدندن بها العلمانيون . . . نعم هؤلاء غير هؤلاء في الأهداف والمنطلقات . وهم ـــ أي طلبة العلم ـــ تبعا لكم أيها العلماء . فهل توجهونهم لتغطية الأحداث ؟ وحتى لا أطيل عليكم أعرض بعض الأمور كحل للخروج من هذه الأزمة : ـــــ قبل أي شيء لم شمل علماء الأمة ، وليس العدد من الأهمية بمكان , ففي كل مواطن الفتن عبر التاريخ ، نجد أن من يثبتون قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة . ويصور لي الخيال الأيام كأنها أرض والرجال فيها نبت طيب ونبت خبيث ، وفي أيام الإمام أحمد مثلا . . . أجد أن أرض العراق بها شجرة أو اثنتين ، وكذا الشام ومصر والجزيرة العربية ، والباقي عشب أخضر طيب الرائحة نضر ، بيد أنه ضعيف الساق ، لا تَحْمِلُ عليه متاعا ولا تجد له ظلا تفيء إليه . ثم إن فكرة تجميع أكبر قدر ممكن مع التنازل عن بعض الضروريات تحتاج إلى مراجعة على ضوء قوله تعالى " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " . ـــ كان جمال الدين الأفغاني عجولا يريد أن ينقلب على أبناء جيله في يوم وليلة ، وأن يعتنق الناس أفكاره بخطبة أو خطبتين ، فجلس إليه تلميذه المخلص محمد عبده ـــ وكلاهما إلي بغيض ــــ وقال له : عَلِّم عشرة وكل واحد من هؤلاء العشرة يعلم عشرة فيكون عندك في ثلاثين أو أربعين عاما مائة من القيادات التي تستطيع الأخذ بزمام الأمة حيث تريد[6] . وهو ما كان ، فإن رحت تعدد من اشتركوا في تغريب الأمة والسير بها على درب الكافرين وهي تحسب أنها مهتدية وجدتهم قلة . وهو ما أنادي به اليوم . ثم إن الاهتمام بخاصة الطلبة له بُعد آخر ، وهو حفظ التراث العلمي للشيخ ، فما ضيع الليث بن سعد إلا إهمال طلبته ، ولم يترك أبو حنيفة كتبا وإنما ترك أبرارا عرفوا فضل أستاذهم فدونوا ودرَّسوا . فمن أراد أن تكون له صدقة جارية ، وأن يترك أثرا فليجب طلبي . ثم إنه لا بد من الأخذ بيد الأمة ــ أعني عامة الناس ــــ وإشراكهم في الحلول . أي يكون الخطاب ذو شقين شق تربوي للخاصة ، وآخر يخاطب به العامة .ولعل النقاط التالية تزيد الأمر بيانا . ــــ زمام الأمة ليس بيد علمائها . وهناك من تنصت إليه الجماهير من غير العلماء ، بل إن الجماهير تشارك في صناعة القرار ،وما أراه هو أن نتوجه بخطاب إلى عامة الناس يبين حق العلماء في قيادة الأمة أو بكلمات أوضح : لَمِّ العامة على الأئمة الربانيين . وإسناد الأمر إلى أهله . ــ (الكثرة الغالبة من المجادلين لا تجادل بحثاً عن الحقيقة . ولا رغبةً في المعرفة ، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة . والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول معهم في معركة جدلية ولو أفحمهم الرد في لحظتهم ! إنما الرد الحقيقي يكون بإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام فأصبحت نموذجاً تطبيقياً واقعياً لهذه الحقيقة ، يراه الناس فيحبونه ويسعون إلى الإكثار منه وتوسيع رقعته في واقع الحياة . هذا هو الذي ( ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [7] أطالب بالاستقلال في الخطاب وعدم السير وراء ردود الأفعال . . . . عدم الانشغال بالآخر كثيرا ، وإنما خط طريق جديد في الطرح ، ويكون بيان فساد آراء المخالف ضمن بيان الحق . محمد جلال القصاص -------------------------------------- [1] هكذا أرى أن العولمة بأبعادها الثلاث ــــ الفكرية والعسكرية والاقتصادية ــــ هي المسمى الحقيقي للحملة الصليبية ،وقد شرحت هذا في تقريري عن المقاومة الإسلامية في العراق المنشور في موقع المسلم بعنوان " المقاومة الإسلامية في العراق من يحصد ثمارها ؟ [2] محمد أبو رمان ــ من مقال ( محمد عبده وعوده لمشروع الإصلاح الديني ) . موقع الإسلام اليوم . قلتُ : الهوى هو السبب في الانحراف عن الجادة بإفراط أو تفريط , و النصوص بريئة من ذلك . و يقيني بأن الانهزامية والانبهار بالآخر وثقل الواقع في حس الليبراليين ــ كل الليبراليين إسلاميين وعلمانيين ـــ هما اللذان أوجد الرغبة عند هؤلاء في تحسين الصورة أمام الغرب الكافر ، والتشبه به واقتفاء أثره عند بعضهم . وهما ــ الانهزامية والهوى ــ السبب في إلقاء هؤلاء تبعية التخلف الذي وصلت إليه الأمة في عصورها الأخيرة على الشريعة الإسلامية لا على الإنسان المعاصر الذي أقعده الإرجاء عن حمل الرسالة الصحيحة كما حملها الجيل الأول رضوان الله عليهم . وهذا أمر بين الفساد ، إذ أن الفكرة هي التي تصوغ الواقع ، لا أن الواقع هو الذي يصوغ الفكرة . وهذا أمر بديهي لو تدبروا ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . ثم الجهل المطبق هو الذي جعل هؤلاء يتناسون أن الرسالة التي نحملها هي تعبيد الناس لله وليس النهوض بمستوياتهم المعيشية . وإن كانت الثانية ــــ النهوض المادي ــ إحدى نتائج الاستقامة على شرع الله . [3] ومن يتدبر يعرف أن الأحكام الشرعية سابقة على المقاصد . فمن الأحكام تستنبط المقاصد . لا العكس كما يريدون اليوم . راجع إن شئت مقال ( المقاصديون الجدد ) لسعد مقيل العنزي . المحايد العدد : 132 [4] قرات في موقع المفكرة ــ وهي أقرب المواقع لهم ـــ أن هناك 23 مجموعة ضمن المقامة . وكذا الحال في فلسطين . |
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الخميس، 2 ديسمبر 2021
قبل أن تضيع الفرصة رسالة إلى علماء الأمة ودعاتها
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق