العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك
منذ أعلن الروم الحرب على المسلمين في مؤتة صراحة، وحاولوا إبادتهم، فإنهم فتحوا بأنفسهم باب الحرب بينهم وبين المسلمين، وكان قتالهم واجبا على المسلمين لرد العدوان، والدفاع عن العقيدة والنفس.
السبب المباشر لغزوة تبوك
يرويه ابن سعد في الطبقات على النحو التالي فيقول:
«بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وذلك في حر شديد»1.
كان النبي إذن يرصد كل تحركات الروم وحلفائهم من العرب في هذه الجبهة الخطرة من جبهات العداء للإسلام، فجاءته الأرصاد بأن الروم بدؤوا يتحركون ضد المسلمين، فأعلن عن غزوهم؛ لأنه ما كان ممكنا أن ينتظر حتى يهاجموه في المدينة.
هذا هو السبب المباشر لغزوة تبوك.
الإذن الصريح بقتال الروم
أما الأسباب الحقيقية الكامنة فهي أن الروم منذ أعلنوا الحرب على المسلمين في مؤتة صراحة، وحاولوا إبادتهم، فإنهم فتحوا بأنفسهم باب الحرب بينهم وبين المسلمين، وكان قتالهم واجبا على المسلمين لرد العدوان، والدفاع عن العقيدة والنفس؛ لأن الله يأمرهم بذلك فيقول تعالى: (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190] .
فحتى لو لم يتحركوا تحركا مباشرا لوجب قتالهم؛ لأنهم بدؤوا بتحريض العرب ضد الإسلام. ثم حاربوهم صراحة في مؤتة، وهذا إصرار منهم على مقاومة الإسلام والعدوان على المسلمين. وجاء الإذن الصريح بقتالهم في السورة التي صاحبت غزوة تبوك، وهي سورة التوبة. «وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثم تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض..»2.
وأزالت كل حرج عن المسلمين في علاقتهم مع كل الأمم، خصوصا مع أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى. ونحن الآن في العام التاسع الهجري، وأوشك النبي صلّى الله عليه وسلم أن يودع الأمة الوداع الأخير، وأن يلتحق بالرفيق الأعلى، فلا بد أن يوضح لأمته معالم طريق المستقبل، وأن يرسم لهم أسلوب عملهم في نشر عقيدتهم، والدفاع عنها ضد أعدائها. لذلك جاءت هذه الآيات لتحدد الشكل النهائي والحاسم في علاقات المسلمين بأهل الكتاب، والروم من أهل الكتاب؛ لأنهم مسيحيون، أو يزعمون أنهم على دين المسيح. فقال تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة: 29] .
وقد بينت الآية بيانا واضحا لماذا يقاتل المسلمون أهل الكتاب:
أولا: لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانيا: لأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثا: لأنهم لا يدينون دين الحق.
التحديد النهائي لشكل العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب
هذا إذن الحكم النهائي الذي يحدد العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب- يهود ونصارى- «والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس، أساس إعطاء الجزية، وفي هذه الحالة تقرر لهم حقوق الذمي المعاهد، ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين، فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين.
إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة، فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس، هذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية، ثم لطبيعة المنهج الحركي للإسلام من الناحية الأخرى. وطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة، قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر أية عقبات مادية من قوة الدولة ومن نظام الحكم»3.
في ضوء هذا التحديد النهائي لشكل العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب وفي ضوء ما علمناه من تحركات الروم- وهم يزعمون بأنهم مسيحيون- ضد الإسلام ينبغي أن ننظر إلى تحرك النبي صلّى الله عليه وسلم لغزوهم في تبوك، ثم ينبغي أن ننظر أيضا إلى تطور العلاقات بين المسلمين وبينهم بعد عهد الرسول؛ «في عهد الخلفاء الراشدين، وما تلاه من عهود» .
أصبح الروم عقبة في طريق الإسلام، رفضوه دينا وعقيدة، وقاوموه ليصدوا الناس عنه؛ فوجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، فإذا أعطوا الجزية، فهذا يعتبر دليلا على الاستسلام والخضوع وإلقاء السلاح وعندئذ يكف عنهم المسلمون.
الإعداد لغزو الروم
في ضوء هذا كله، وبعد وصول الأخبار إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بتحرك الروم ضد الإسلام والمسلمين، بدأ العدة لمواجهتهم فيما سماه المؤرخون المسلمون بغزوة تبوك4. وقد اختلف الإعداد لهذه الغزوة كما اختلف الأسلوب فيها عما سبقها من غزوات. ففي الغزوات السابقة كان الرسول صلّى الله عليه وسلم إذا أراد غزو جهة ما ورّى بغيرها ليباغت أعداءه ويأخذهم على غرة، هذا ما يعبر عنه العسكريون المعاصرون بأسلوب الإخفاء والمفاجأة. أما في غزوة تبوك فإنه أعلن عن وجهته في صراحة لخطورة العدو وبعد الشقة وهذا ما يقوله كبار المؤرخين المسلمين عن الأسلوب النبوي الكريم.
يروي الطبري في تاريخه فيقول: «وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنّى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بيّنها للناس؛ لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له؛ ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم»5.
إذن هذه غزوة لها خطرها وشأنها في مستقبل الإسلام والمسلمين، لذلك لا بد أن يسير إليها المسلمون وهم على بينة من أمرهم. استنفر النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين وأمرهم بالتأهب، وحث أهل اليسار على المساعدة في تجهيز الجيش، فأسرع الصحابة الأجلاء إلى تلبية طلب الرسول صلّى الله عليه وسلم، وظهر إيثارهم للدعوة والعقيدة على كل شيء سواها، وأنهم على استعداد للتضحية من أجل الدعوة لا بأنفسهم فحسب، ولكن بأموالهم أيضا، وكانوا بحق هم الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. أنفق أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعا، وأنفق غيرهم، وكان أعظمهم نفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه6 . فسر النبي بذلك ودعا لهم جميعا بخير، كما خص عثمان بدعاء لسخائه الكبير. وتسارع أهل الصدق والدين والإخلاص كل يقدم ما يقدر عليه، وتجمع تحت قيادة النبي صلّى الله عليه وسلم أكبر جيش يتجمع له منذ بدأ جهاده العظيم من أجل العقيدة ونشر الدين كان عدد الجيش حوالي ثلاثين ألفا.
الوصول إلى أرض المعركة
وصل النبي صلّى الله عليه وسلم تبوك بعد رحلة شاقة وعسيرة فالمسافة طويلة- بين المدينة المنورة وتبوك حوالي سبعمائة كيلومتر- والطريق صعب، ولكن كل شيء في سبيل الله يهون، ومتى كان تحقيق الأهداف النبيلة أمرا سهلا؟
وهل هناك شيء أنبل وأعظم من إرساء دعائم عقيدة التوحيد، ونشر العدل والرحمة بين بني البشر؟.
وصل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى تبوك ليجد الروم قد انسحبوا إلى داخل الشام، ولم يجرؤوا لا هم ولا حلفاؤهم من العرب على لقاء النبي صلّى الله عليه وسلم7؛ لما أصابهم من الخوف والفزع من نتائج الصدام العسكري مع جيش يقوده أعظم القواد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
فماذا كان موقف النبي من هذا الجيش المنسحب الفار من الميدان؟ هذا الجيش الذي حارب المسلمين بضراوة قبل عام واحد في مؤتة، وكاد يستأصلهم لولا عناية الله الذي ألهم خالد بن الوليد بوضع خطة لانسحابهم إلى المدينة. هذا الجيش الذي يفر أمام الرسول، هو نفسه الجيش الذي كان يقوده هرقل بنفسه وانتصر به على الفرس انتصاره الحاسم قبل سنتين اثنتين.
ولكنها هيبة النبوة التي أفزعت هذا الجيش وألقت الرعب في قلوب جنوده. لو أن أي قائد آخر كان في موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، ماذا كان سيصنع؟ لا بد أنه كان سينتهز هذه الفرصة، ويلاحق جيش عدوه المنسحب ويقضي عليه. ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، لم يكن يهدف إلى الحرب من أجل الحرب ولم يكن القتال في حد ذاته هدفا من أهدافه، وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات من أمام الدعوة الإسلامية، فإذا انسحب الروم من ميدان المعركة؛ فلا داعي إذن لملاحقتهم وتتبعهم، وإن عادوا عدنا، وعلى الباغي تدور الدوائر.
ماذا صنع النبي في تبوك؟
إعادة ترتيب أوضاع الحدود الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية
بعد أن انسحب الروم من أمام النبي صلّى الله عليه وسلم، عسكر بجيشه في تبوك بضع عشرة ليلة، فماذا صنع في هذه الأيام القصيرة التي قضاها هناك؟ لقد انسحبت الروم تهيبا من لقاء الرسول. فيجب أن يقضي على نفوذهم أيضا، وأن يزيل ما بقي لهم من هيبة عند سكان هذه المنطقة. وهم أهل أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل8.
ولكن كيف؟ سكان هذه الواحات كانوا يخضعون للروم بصورة أو بأخرى، وينفذون سياستهم، والروم قد انسحبوا من الميدان، وهذه الواحات ستكون على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة للمسلمين في صدامهم القادم والأكيد مع الروم، فسوف تكون هذه المناطق ممرات لجحافل المسلمين، ويجب أن يؤمنوا هذا الطريق ويخضعوه لسلطانهم، ويقضوا على كل أثر لسلطان الروم على هذه المناطق.
الروم قد انسحبوا من الميدان، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يهدف إلى فرض الإسلام على الناس بقوة السلاح كما يزعم أعداء الإسلام، لما كان أسهل من ذلك بالنسبة لهذه المجموعات الصغيرة والضعيفة من سكان أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل؛ لأنهم لم يكن في مقدورهم أن يرفضوا أو يقاوموا بعد أن انسحب أكبر جيش على وجه الأرض في ذلك الوقت أمام المسلمين. ولكن فرض الإسلام بالقوة أمر غير وارد؛ لأنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] لذلك لما جاء وفد أيلة وعلى رأسه يحنّة بن رؤبة 9 إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يبدون استعدادهم لقبول شروطه رحب بهم، وأفهمهم أنهم إن لم يقبلوا الإسلام عقيدة فلن يكرهوا على ذلك، بل من حقهم أن يظلوا على عقيدتهم بشرط أن يدفعوا الجزية كدليل على الخضوع وعدم المقاومة للإسلام: فقبلوا ووافقوا على دفع الجزية، وعاهدهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمنهم على عقائدهم وأرواحهم وممتلكاتهم، وهذا هو نص المعاهدة التي أعطاها لأهل أيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله، ومحمد رسول الله، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر»10.
وحذا أهل أذرح والجرباء حذو أهل أيلة، فعاملهم النبي صلّى الله عليه وسلم نفس المعاملة وكتب أمان مماثلة لأمان أهل أيلة11.
أما دومة الجندل، فاستسلم أميرها أكيدر بن الملك الكندي بعد غارة خاطفة شنها عليه خالد بن الوليد، وقدم به على النبي صلّى الله عليه وسلم «فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله»12.
رتب النبي صلّى الله عليه وسلم إذن أوضاع منطقة الحدود الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية.
ومهد الطريق الذي سوف يسلكه المسلمون في خلافة الصديق لقهر الروم، وطردهم نهائيّا وإلى الأبد من المنطقة. وبسط عليها هيبة الإسلام، ومكن لنفوذ المسلمين فيها، كما أجهز على هيبة الروم عند سكان المنطقة، وعاد إلى المدينة بجيشه العظيم تحفّه رعاية الله وتحرسه عنايته، ليواصل مسيرته من أجل تثبيت دعائم الإسلام.
نتائج غزوة تبوك
لقد كانت غزوة تبوك ذات أثر كبير في حياة الأمة الإسلامية ومستقبلها، ولم تكن نتائجها محدودة بزمانها ومكانها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن غزوة تبوك التي حدثت في شهر رجب من العام التاسع الهجري، كانت نقطة البداية في علاقات الأمة الإسلامية بأوربا المسيحية تلك العلاقات التي لا زالت قائمة ومستمرة في صور متعددة، فمن تتبّع مقدماتها وسيرها وما وصلت إليه، نستطيع أن نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلم أراد منها أن يحدد للأمة الإسلامية عدوّا رئيسيّا من أعدائها، وهم الروم، ونحن دائما نستخدم لفظ الروم الذي استخدمه القرآن الكريم للتعبير عما يسميه المؤرخون الدولة الرومانية الشرقية. تلك الدولة التي كانت تمثل أوربا كلها في تلك الأزمان، فبعد التجارب التي مر بها المسلمون مع الروم قبيل غزوة تبوك، والتي وضحت لهم أنهم لن يتركوا الإسلام يشق طريقه إلى العالم في أمن وسلام- كان واضحا أن الصدام العسكري معهم أمر لا مفر منه طال الزمن أم قصر، وعلى كل حال لم يطل الزمن كثيرا على بداية هذا الصدام، فبعد ما يقرب من ثلاثة أعوام بعد تبوك بدأ هذا الصدام في عهد الصديق رضي الله عنه، وفي عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طرد الروم نهائيّا من الشام ومصر.
رد فعل أوربا للانتقام من المسلمين
ولم تنس أوربا مطلقا وطوال تاريخها وحتى الآن هذا الذي حدث في عهد الخلفاء الراشدين، واعتبرت أن هزيمة الروم أمام المسلمين هزيمة لها كلها، ولم تكن الحروب الصليبية – بعد ما يقرب من خمسة قرون من هذا التاريخ – والتي عبأت فيها أوربا كل قواها لغزو الشرق الإسلامي، لم تكن هذه الحروب إلا رد فعل أوربا للانتقام من المسلمين وهزيمتهم كما هزموا هم الروم قبل قرون.
وإذا كانت الحروب الصليبية قد حققت أهدافها في البداية لأسباب تتعلق بالعالم الإسلامي نفسه، وما كان عليه من الضعف والتفكك. إلا أن الصليبيين طردوا في النهاية- بعد وجود استمر قرنين كاملين من نهاية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي- إلا أن عداء أوربا للإسلام والمسلمين لم ينته بانتهاء العدوان الصليبي على الشرق الإسلامي، بل إن أوربا عادت من الشرق الإسلامي مهزومة وخائبة، لتشن حربا صليبية أخرى ضد الوجود الإسلامي في أسبانيا، وصبت كل أحقادها وثاراتها على المسلمين هناك، وأجبرت بعضهم على التنصر، ومن رفض التنصر قتل.
بداية السطو الاستعماري الأوربي على الشرق الإسلامي
وأبيد بسبب ذلك ملايين المسلمين في شراسة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ومن استطاع الهرب من المسلمين والنجاة من وحشية الصليبيين الأوربيين وعبر المضيق إلى شمال أفريقيا، لاحقه الأسبان والبرتغاليون، وبدأت أوربا عمليتها في تطويق العالم الإسلامي من الخلف في بداية عهد الاستعمار الأوربي الحديث للعالم. ووصل الأسبان والبرتغاليون إلى شواطئ شبه الجزيرة العربية وتبعهم الإنجليز والفرنسيون، كل هذا بمباركة الكنيسة الكاثوليكية في روما بزعامة البابا، وإن الذي يدرس رسائل البابوات المتعاقبة، لرواد السطو الاستعماري الأوربي من الأسبان والبرتغاليين وغيرهم على الشرق الإسلامي، من يدرس هذه الرسائل يجدها تفيض بالحقد على الإسلام والمسلمين، فهي تنص في صراحة أن البابا يوصي بل يأمر جنود المسيح بإبادة المسلمين أينما وحيثما كانوا؛ فالسطو الاستعماري الأوربي على الشرق الإسلامي الذي بدأ من عهد الكشوف الجغرافية كان بتأييد الكنيسة والبابا.
ألست معي في أن العلاقات بين أوربا والإسلام بدأت في مؤتة وتبوك ولا زالت مستمرة؟ عداء وحقد من جانب أوربا على الإسلام والمسلمين وعلى كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، ألم تقرأ أن الجنرال اللنبي- القائد الإنجليزي- قال عندما دخل فلسطين في أثناء الحرب العالمية الأولى: «الآن انتهت الحروب الصليبية» .
وأن زميله الجنرال الفرنساوي غورو عندما دخل دمشق زار قبر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وقال متشفيا: «ها قد عدنا يا صلاح الدين» هل يقرأ المسلمون تاريخهم جيدا؟ وهل يعرفون عدوهم من صديقهم؟ ليتهم يفعلون.
الهوامش
(1) راجع عن غزوة تبوك المصادر الآتية: ابن سعد- الطبقات (2/ 165)، الطبري- تاريخ الأمم والملوك (3/ 142)، وابن كثير- البداية والنهاية (5/ 2)، وابن الأثير- الكامل (2/ 276، 277) .
(2) سيد قطب- في ظلال القرآن (2/ 81) .
(3) سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 170) .
(4) يقول ياقوت عن تبوك: «تبوك بالفتح ثم الضم وواو ساكنة وكاف، موضع بين وادي القرى والشام … وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلة» معجم البلدان (2/ 14، 15) . وتبوك الآن مدينة كبيرة في شمال المملكة العربية السعودية.
(5) الطبري (3/ 142) ، وانظر ابن سعد (2/ 165) ، وابن كثير (5/ 2) ، وابن الأثير (2/ 276، 277) .
(6) ابن الأثير (2/ 277) .
(7) ابن الأثير (2/ 281) .
(8) أيلة: بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم- البحر الأحمر- مما يلي الشام. أذرح: وهو اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. الجرباء: موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام، قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. راجع معجم البلدان لياقوت. عن أيلة (1/ 292) – وعن أذرح (1/ 129) وعن الجرباء (1/ 118) . أما دومة الجندل … على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول. انظر: ياقوت- معجم البلدان (2/ 487) .
(9) انظر ابن الأثير (2/ 280) .
(10) ابن هشام (4/ 181) وابن الأثير (2/ 280) .
(11) المصدر السابق الجزء والصفحة نفسيهما.
(12) المصدر السابق الجزء والصفحة نفسيهما.
المصدر
“بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة” للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف، ص122-133.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق