الغزو الروسي لأوكرانيا “نَظْرَةٌ سُنَنِيَّة”
لا يَسَعُنا شعوريا تجاه الشعب الأوكرانيّ إلا أن نشفق عليه ونتعاطف معه؛ إذْ ليس على الشعوب ذنب فيما تقترفه الأنظمة من إجرام، فواقع الأوكرانيين أنّهم واقعون بين فكي سبع ضارٍ، الغَشَم الروسي والمكر الأمريكي، وإذا كانوا غير مسلمين فإنّهم -من وجهة نظر شرعية لها حظّ من النظر- قوم يعيشون في “فَتْرَة” ولم تبلغهم دعوة الإسلام على وجهها الصحيح؛ فأمرهم في الآخرة إلى باريهم، وليس لنا من هذا الأمر شيءٌ؛ كيف وقد قال الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بشأن قوم بلغتهم دعوة الإسلام بأبلغ البيان: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128)، فلم يبق -إِذَنْ- تجاههم إلا المشاعر الإنسانية الفطرية.
فإذا فرغنا من ذلك وأردنا أنْ نعالج المسألة معالجة سُنَنِيَّة، وجدنا أنفسنا أمام حشد كبير من السنن الإلهية الجارية، ازدحمت على فم الحدث، وتنافست في الإفصاح عن نفسها. ولعل بعض مفكري الغرب قد أشار في لهجة تشاؤمية إلى واحدة من هذه السنن، فهذا على سبيل المثال “ريتشارد كوك” و”كريس سميث” في كتابهما الشهير “انتحار الغرب” يُنْذِران: “وهناك نص فرعيّ أشدّ ظلمة، وهو يكمن في الحماسة التبشيرية والتطرف الثوريّ الْمُوَرَّث للغرب والعالم من المسيحيين الأوائل… وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية فإنّ هذه المورثات تبقى تهديدًا قويًّا للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديدًا” (ص: 88-89).
العداوة والبغضاء
إنّ الفترة التي عاشتها أوربا بعد نهاية الحرب الباردة لم تكن سوى هدنة بسيطة؛ لتعود العداوة والبغضاء التي كُتبت عليهم إلى يوم القيامة، حسب السنّة الإلهية الجارية فيهم: {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 14)، ولعل ما أَغْفَلَنَا عن هذه السنة هو نسياننا لتلك المآسي التي عاشتها أوربا في تاريخها كله؛ ففي العصر الحديث فقط دارت رحى الحرب العالمية مرتين بين أقطاب أوربية، فحصدت الملايين من أبناء البشر من قلب القارة الأوربية، ممن لا ذنب لهم إلا أنّهم يعيشون تحت أنظمة نكدة قادت العالم ولا تزال إلى الدمار والخراب، هذا سوى حرب السنوات السبع (1756-1763)، ومن قبلها حرب السنوات التسع (1688-1697)، ومن قبلهما حرب الثلاثين عاما (1618-1648)، بخلاف الحروب الدينية البروتستانتية الكاثوليكية والحروب الأهلية إبان الثورات، وغير ذلك من الحروب التي دارت رحاها على الساحة الأوربية قبل غيرها.
وها هي المسيرة تعود من جديد بعد هدنة كانت خاتمة للحرب الباردة، وبغض النظر عمّا تبديه الأطراف المتصارعة من أسباب ظاهرة، فإنّ الثقافات المختلفة والإرث الحضاري لكل طرف من أطراف الصراع هو الذي سوف يذكي الحرب في الفترة القادمة، تماما كما تنبأ صمويل هنتنجتون في كتابه الشهير “صدام الحضارات” حيث قال بوضوح: “عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع أو ثمان حضارات، والعوامل الثقافية المشتركة والاختلافات هي التي تشكل المصالح والخصومات، وتقاربات الدول” (ص 48)، وقد سمعنا خطاب الرئيس الروسي ورأينا كيف كان طافحا باللغة التبشيرية.
فإذا وسَّعْنا زاوية النظر قليلا للتاريخ الأوربيّ والسلوك الغربيّ في العصر الحديث، فسوف تتجلى لنا سنة أخرى يغفل عنها كثير من الناس، فقد سلك الغرب إبّان نهضته سلوكا منحرفا يتنافى مع الإنسانية، وذلك عبر سلسلة من المجازر بدأت بالكشوف الجغرافية التي لم تكن في حقيقتها سوى حملات استعمارية، وانتهت بمأساة الإبادة الجماعية للهنود الحمر والاستعباد المهين لـ210 ملايين من الأفارقة وغير ذلك من المآسي، فأخذهم الله ببأساء الحربين الكُبْرَيَيْن وضرائهما؛ لعلهم يتضرعون إلى الله وينتهون عن ظلم العباد، فلما قست قلوبهم وزين لهم الشيطان غزو العالم الثالث واستعمار البلاد وسحق العباد؛ فتح الله عليهم أبواب كل شيء من معطيات الحضارة والمكنة، فكان النصف الثاني من القرن العشرين عصر ازدهار ورفاهية إملاءً وإمهالا، حتى إذا فرحوا بانتهاء التاريخ على شواطئهم وتفردهم بسيادة العالم بلا منازع جاءهم أخذ الله بغتة، وهذا أول الأخذ.
وفي هذا يقول الله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام: 42-44)، ويقول عزّ وجل في سورة الأعراف: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (الأعراف: 94-95)، فهذان السياقان حكاية عن سنن عاملة وجارية لا عن قصص منتهية ومنقضية.
نهاية التاريخ
ولعل كثيرا ممن رفضوا نظرية “فوكوياما” في “نهاية التاريخ” قد انطلقوا في رفضهم من إيمانهم العميق بأنّ التفرد بالهيمنة ليس أمرا طبيعيا ومن ثم فلن يكون مستمرا، أمّا الأمر الطبيعيّ فهو التدافع، وهي سنة إلهية ماضية، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} (البقرة: 251)، هذه السنة مرت عليها سحابة عابرة فحجبتها بصفة مؤقتة لأسباب قد تتعلق بغياب أمتنا عن دورها في الحياة، ولكنّها لم تأفل، لأنّ أفولها سيكون مع أفول الحياة الدنيا، هذه السنة عادت لتمضي من جديد فتفتح للمستضعفين طريقا وهامشا ومساحة للحركة، بشرط العمل والسعي.
وتتمثل السنة الخاتمة في هذه الحركة الكونية المنتظمة التي ربما غفلنا عنها كثيرا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)، وعلى هذه السنة الإلهية القرآنية قامت القاعدة “الخلدونية” الخالدة التي تقضي بأنّ الحضارات إذا بلغت شيخوختها فإنّها تأذن بالرحيل، وهذا ما يتنبّأ به كثير من مفكري الغرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق