صفة حجة النبي ﷺ كأننا نراه (1)
شاءت حكمة الله تعالى أن يكون في الدين بعض العبادات أفضل من بعض، وفي الإسلام عدد من العبادات هي أعظم شعائره على الإطلاق بها قوامه وعليها مداره، وهذه العبادات ما تسمى بـــ (أركان الإسلام)، وهي خمسة تنوعت صور أدائها فمنها ما يؤدى كل يوم خمس مرات وهي الصلاة، ومنها ما يؤدى كل سنة، مثل صيام رمضان وبعض أنواع الزكاة، ومنها ما يؤدى مرة واحدة في العمر وهو شعيرة الحج. وهو فريضة من أقدس فرائض الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائره الكبرى، وعبادة متميزة من عباداته الأربع، وركن أساس من أركانه الخمسة، وقد دل على فرضيته القرآن الكريم، والسنة المستفيضة المتواترة عن رسول الله التي نقلتها الأمة جيلا عن جيل إلى يومنا هذا، كما دل عليه الإجماع المتيقن من جميع مذاهب الأمة. [الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12].
وهو عبادة متميزة لأنها عبادة بدنية ومالية، فالصلاة والصيام عبادتان بدنيتان والزكاة عبادة مالية، والحج عبادة تجمع بين البدنية والمالية، لأن الإنسان يبذل فيها جهدا ببدنه، ويبذل فيها ماله. [الحج والعمرة، د. يوسف القرضاوي، ص 12].
وفي كل مظهر من مظاهر الحج وفي كل مجال من مجالاته، تتجلى فيه العبودية لله ويظهر أثرها بارزا ملحوظا، ففي أداء الشعائر والتلبس بالطاعات من تجرد عن الثياب وحسر عن الرؤوس وفي الطواف بالبيت واستلام أركانه وفي موقف عرفات ومزدلفة ومنى في ذل وخضوع وتضرع وخشوع، وفي رمي الجمار والذبح أو النحر وما إليه في جميع ذلك مظهر العبودية لرب العباد وبارئهم، وإفراد له بالعبادة وحده دون سواه، تلك العبودية هي سر علة الوجود وهدفه الأسمى. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)} [الذاريات: 56 – 58]» [الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، ص30].
صفة حج رسول الله ﷺ
عـزم رسول الله(ﷺ) على الحج، وأعلم الناس: أنـه حاج، فتجهزوا – وذلـك في شهر ذي القعدة سنة عشر – للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع الرسول(ﷺ)، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلى الظهر بها أربعا([1]).
وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام، وواجباته، وسننه، ثم سار وهو يلبي، ويقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة لك، والملك، لا شريك لك» والناس معه يزيدون، وينقصون، وهو يقرهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته، ثم مضى حتى نزل بـ (العرج) ثم سار حتى أتى (الأبواء) فوادي (عسفان) في (سرف) ثم نهض إلى أن نزل بـ (ذي طوى)، فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها، ثم سار، حتى دخل المسجد، وذلك ضحى([2])، فاستلم الركن(ﷺ) ، فرمل ثلاثا([3])، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم([4]) عليه السلام. فقرأ: ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾ [البقرة: 125].
فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: ثم رجع إلى الركن ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ * ﴿ قل هو الله أحد ﴾، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلـما دنا من الصفا؛ قرأ: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ [البقرة: 158].
وبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى إذا رأى البيت؛ استقبل القبلة، فوحد الله، وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذه ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت([5]) قدماه في بطن الوادي؛ سعى، حتى إذا صعدتا([6])؛ مشى، أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان اخر طوافه على المروة؛ قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي؛ فليحل، وليجعلها عمرة».
فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله(ﷺ) أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين، «لا بل لأبد أبد»([7]).
وأقام بمكة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلـما كان يوم الخميس ضحى؛ توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، ونزل بها، وصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ومكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة([8])، فسار رسول الله(ﷺ) ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام([9])، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز([10]) رسول الله(ﷺ) حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس؛ أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي([11])، فخطب الناس، وقال: «إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مستـرضعا في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكن عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه([12])، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح([13])، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها([14]) إلى الناس: «اللهم اشهد! اللهم اشهد!» ثلاث مرات([15]).
ثم أذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام، فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله(ﷺ) ، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات([16]) وجعل حبل المشاة بين يديه([17])، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص([18]).
وهناك أنزلت عليه: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ [المائدة: 3]، فلـما غربت الشمس؛ أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله(ﷺ) وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول: «أيها الناس! عليكم السكينة([19])».
وكان يلبي في مسيره ذلك، لا يقطع التلبية حتى أتى المزدلفة، وأمر المؤذن بالأذان فأذن، ثم أقام، فصلى المغرب قبل حط الرحال، وتبريك الجمال، فلـما حطوا رحالهم؛ أمر، فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء، ثم نام، حتى أصبح، فلـما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع، والتكبير، والتهليل، والذكر، حتى أسفر جدا([20])، وذلك قبل طلوع الشمس.
ثم سار من مزدلفة، مردفا للفضل بن عباس، وهو يلبي في مسيره، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات، فلـما أتى بطن محسر([21])؛ حرك ناقته، وأسرع السير([22])، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية([23]).
ثم رجع إلى منى، فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع، والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا، يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه([24]).
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنين عمره، ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما بقي من المئة، فلـما أكمل(ﷺ) نحره استدعى الحلاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين من يليه، ثم أفاض إلى مكة راكبا، وطاف طواف الإفاضة([25])، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم؛ لنزعت معكم»، فناولوه دلوا، فشرب منه([26]).
ثم رجع إلى منى من يومه ذلك، فبات بها، فلـما أصبح؛ انتظر زوال الشمس، فلـما زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى، ثم الوسطى، ثم الجمرة الثالثة – وهي جمرة العقبة – وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثانية في ثاني يوم النحر([27])، وهو يوم النفر الأول، وهي تأكيد لبعض ما جاء في خطبتي عرفة، ويوم النحر بمنى.
هذا، وقد تأخر رسول الله(ﷺ) حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ثم نهض إلى مكة، فطاف للوداع ليلا سحرا، وأمر الناس بالرحيل، وتوجه إلى المدينة([28]).
هذه حجة النبي ﷺ بتفاصيلها تجلي لنا الصورة كأننا نراه ﷺ، وأكمل الخير أن يتابع الحاج النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعاله وأقواله وأحواله، حتى ينال الفضل العظيم والخير الكثير، إلا إذا منع ذلك بعض الموانع التي تحصل في عصرنا هذا نتيجة أسباب قاهرة مثل الزحام الشديد وغيره.. مما يمنع المسلم من الإتيان بكل ما ورد عن رسول الله ﷺ في حجه، ولكن لا شك أن للحاج الذي نوى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعاله ثم لم يستطع لبعض الظروف أجر نيته في الخير كاملة إن شاء الله تعالى، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر. [صحيح البخاري، 06/08]؛ فكان لهم الأجر بسبب نيتهم مع أنهم لم يخرجوا مع النبي ﷺ في سفره وغزوه.
مراجع
- ([1]) ]انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص 664 ، والسيرة النبوية ، للندوي ، ص 386.
- ([2]) انظر: السيرة النبوية ، للندوي ، ص 387.
- ([3]) الرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطا.
- ([4]) نفذ إلى مقام إبراهيم: أي: بلغه ماضيا في زحام.
- ([5]) انصبت قدماه: انحدرت.
- ([6]) صعدتا: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
- ([7]) صحيح السيرة النبوية ، ص 659.
- ([8]) نمرة: موضع بجنب عرفات ، وليست من عرفات.
- ([9]) المشعر الحرام: جبل بمزدلفة كانت قريش تقف عليه ، ولا تقف مع العرب في عرفات ، ولكن رسول الله (ص) وقف في عرفات.
- ([10]) فأجاز: جاوز المزدلفة ولم يقف بها ، وإنما توجه إلى عرفات.
- ([11]) بطن الوادي: وادي عرنة ، وليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء ، إلا مالكا قال: من عرفات.
- ([12]) أي: لا يجوز للمرأة أن تدخل أحدا إلى بيت زوجها من قريب ، أو بعيد ، أو امرأة إلا من يرضى عنه زوجها.
- ([13]) الضرب المبرح: الشديد الشاق.
- ([14]) ينكتها: يقلبها ، ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم.
- ([15]) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص 661.
- ([16]) الصخرات: صخرات في أسفل جبل الرحمة ، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات.
- ([17]) حبل المشاة: مجتمعهم ، وقيل: جبل المشاة: ومعناه طريقهم حيث تسلك الرجالة.
- ([18]) حتى غاب قرص الشمس: حتى غابت الشمس ، وذهبت الصفرة.
- ([19]) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص 662.
- ([20]) الضمير في (أسفر) يعود على الفجر المذكور، وقوله: (جدا) بكسر الجيم؛ أي: إسفارا بليغا.
- ([21]) سمي بذلك لأن قيل: أصحاب الفيل حسر فيه.
- ([22]) انظر صحيح السيرة النبوية ، ص 662 ، والسيرة النبوية ، للندوي ، ص 389.
- ([23]) انظر: صحيح السيرة النبوية ، للندوي ، ص 389.
- ([24]) المصدر السابق نفسه ، ص 390.
- ([25]) انظر: السيرة النبوية ، للندوي ، ص 390.
- ([26]) صحيح السيرة النبوية ، ص 663.
- ([27]) انظر: السيرة النبوية ، ص 390.
- ([28]) انظر: السيرة النبوية ، للندوي ، ص 390.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق