أفّاكون تحت الطلب!
أحمد عبد العزيز
تحرص البلاد (حتى الأكثر تخلفا) على وجود أجهزة ومؤسسات رقابية تحمي المواطن من الغش والاستغلال. وبغض النظر عن فاعلية هذه الأجهزة من عدمها، فهي موجودة بمقراتها وهياكلها وميزانياتها، ويمكن أن تقوم بواجباتها المنوطة بها إذا تولى أمرها شرفاء أتقياء، وما أندرهم في بلادنا! وإن وُجِدوا، فلا مكان لهم في مؤسسات الدولة؛ كونهم ينتمون (حسب الأجهزة الأمنيَّة) إلى جماعة "محظورة" تهدد أمن البلاد واستقرارها، ولا مكان لهم (أيضا) في الحياة السياسية؛ كونهم "رجعيين" حسب تصنيف (لا مؤاخذة) الجماعة السياسية الديمقراطية المدنيَّة التقدميَّة!
وإذا كان الغش والاستغلال الماديين مجرَّمَيْن قانونا، فإن الغش والاستغلال في مجالات السياسة والإعلام والفكر والثقافة مباحان ومحبذان، بل ضروريان للوصول إلى الغايات، في عُرف السياسيين أصحاب الضمائر الميتة. تشترك في هذا السلوك البائس الأنظمة "الديمقراطية" والديكتاتورية على السواء! غير أن المواطن الذي يعيش في ظل الأنظمة "الديمقراطية" يتمتع بحماية مؤسسات المجتمع المدني، والإعلام المستقل، من صور الغش والاستغلال هذه. أما في بلادنا المبتلاة بأنظمتها الفاشية المستبدة، ونُخَبِها الانتهازية البليدة، وإعلامها المُوجَّه أمنيّاً، فلا حماية للمواطن من الغش والاستغلال، بل والاستبلاه والاستغفال..
في بلادنا المبتلاة بأنظمتها الفاشية المستبدة، ونُخَبِها الانتهازية البليدة، وإعلامها المُوجَّه أمنيّاً، فلا حماية للمواطن من الغش والاستغلال، بل والاستبلاه والاستغفال
نشر موقع "أخبار اليوم" خبرا في 29 حزيران/ يونيو الجاري جاء فيه: قال حمدين صباحي في تصريحات تليفزيونية: "على الإخوان الاعتراف بدستور 2014 والاعتراف بشرعية السلطة التي يطلبون الحوار في ظلها".. ولطول غيابه، ربما يكون بعضنا قد نسي صباحي، لذا وجب التذكير به..
حمدين صباحي هو مؤسس حزب الكرامة، والتيار الشعبي، حل ثالثا (بعد مرسي وشفيق) في أول وآخر انتخابات رئاسية حرة نزيهة، تلك التي جرت في 2012، وفاز فيها الدكتور محمد مرسي (رحمه الله) بمنصب الرئيس، على منافسه الفريق أحمد شفيق، في الجولة الثانية.. في 2014 تم "استدعاء" صباحي لـ"المنافسة" في (لا مؤاخذة) الانتخابات الرئاسية التي حل فيها ثالثا (أيضا) بعد الأصوات الباطلة، أما المركز الأول فكان من نصيب الجنرال ياسر جلال الذي لم يكن له برنامج (لا مؤاخذة) انتخابي؛ لأنه لم يكن "ينتوي" الترشح، لكنه استجاب لـ"إصرار" الشعب، و"نداء" الوطن، فترشح و"فاز" و"سيفوز"، ما بقي في هذا المنصب! ثم تفرغ صباحي (بعد هذه المنافسة الشرسة) لتدبير شؤون منزله، ونشر صورا له في المطبخ، إلى أن تم استدعاؤه مجددا؛ لحضور إفطار الأسرة المصرية في رمضان الماضي، الذي أعلن فيه الجنرال ياسر جلال عما سماه "الحوار الوطني"!
"على الإخوان الاعتراف بدستور 2014 والاعتراف بشرعية السلطة التي يطلبون الحوار في ظلها".. عن أي "دستور" يتحدث حمدين صباحي الليبرالي المدني التقدمي؟ هل يقصد الدستور الذي قال عنه الدكتور محمد أبو الغار عضو اللجنة التي كتبته: "أهو عك وخلاص"، في تعليقه على ذلك "التزوير" الكارثي في نسخة "الدستور" النهائية، ألا وهو تغيير جملة "مصر دولة حكمها مدني" لتصبح "مصر دولة حكومتها مدنية"، دون علم السواد الأعظم من أعضاء اللجنة؟! وشتان شتان بين "حكمها مدني" و"حكومتها مدنية".. أم أن الاثنين سواء لدى حمدين صباحي وأترابه من التقدميين دعاة "مدنية الدولة"؟! أم أن الحديث عن "مدنية الدولة" لا يكون إلا إذا كان الحاكم "إسلاميا" أو بالأحرى "رجعيا" حسب الصيغة المعتمدة عند حمدين وأصدقائه العلمانيين؟!
عن أي سلطة يتحدث حمدين صباحي، ويطالب الإخوان بالاعتراف بشرعيتها؟! هل يقصد السلطة التي جاءت بانقلاب عسكري على الرئيس المنتخب، ثم سجنته انفراديا ست سنوات، وحرمته من أبسط حقوقه، ثم قتلته في قاعة (لا مؤاخذة) المحكمة، ودفنته تحت جنح الظلام بلا جنازة؟! أم يقصد السلطة التي باعت تيران وصنافير؟! أم يقصد السلطة التي وقَّعت اتفاق المبادئ مع إثيوبيا والسودان؛ الذي حرم مصر من مجرد التفكير في حماية حصتها التاريخية من مياه النيل، أو حتى الشكوى؟! أم يقصد السلطة التي رسمت حدود مصر الاقتصادية في شرق المتوسط، فحرمتها بذلك من مخزون هائل من الغاز الطبيعي، لصالح الكيان الصهيوني وقبرص واليونان؟! أم يقصد السلطة التي أغرقت مصر بالديون، حتى بات الدخل القومي لا يكفي لسداد أقساط هذه الديون وفوائدها؟! أم يقصد السلطة التي شرعت في بيع أصول الدولة المصرية بلا رقيب ولا حسيب؟! أم يقصد السلطة التي تعتقل مائة ألف مصري؛ لأنهم معارضون لها ليس إلا؟! أم أنه لا يعرف أن السلطة التي يقصدها قد ارتكبت هذه الموبقات جميعا؟! أهذه سلطة يجب على الإخوان الاعتراف بشرعيتها، أم سلطة تجب محاكمتها بتهمة الخيانة العظمى؟!
أما مسألة طلب الإخوان الحوار مع هذه السلطة، فإني أبرأ إلى الله من هذا الطلب، ومن أصحابه، كوني واحدا من المنتمين إلى دعوة الإخوان المسلمين، وولي دم استباحته هذه السلطة الفاشية، ضاربة عرض الحائط بحرمة الدماء والدستور والقانون، وتجب محاسبتها عن هذه الجرائم النكراء..
"إن ثورة 30 يونيو أنقذت مصر من مصير مظلم على يد جماعة الإخوان المسلمين".. يقول خالد داوود رئيس حزب الدستور السابق، وأحد دعاة "مدنية الدولة"، وواحد من المشاركين في (لا مؤاخذة) الحوار الوطني! ولا أدري أي مصير مظلم كان ينتظر مصر على يد الإخوان المسلمين أحلك ظلمة وأشد سواداً، من هذا الذي تعيشه مصر اليوم، على يد سلطة ياسر جلال، وقد سردت بعضا من ملامحه توّا؟! الجدير بالذكر أن هذه السلطة حبست خالد داوود "احتياطيا" لمدة عامين، بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، و"التعاون مع جماعة إرهابية" التي هي الإخوان المسلمون "ما غيرها"، ثم أطلقت سراحه قبل عام تقريبا.. لكن "ضرب الحبيب زي أكل الزبيب" كما يقول المصريون!
"30 يونيو قامت؛ لأن هناك عصابة اختطفت وسرقت مصر، فقامت الثورة من أجل إزالتها. ونجاح 30 يونيو كان القضاء على الإخوان فقط لا غير، ولو رجعوا يبقى منجحتش".. يقول أبو لهب الشهير بعمرو أديب، في برنامجه "الحكاية"!
هم الذين يطيلون بقاء مصر ونظيراتها في هذا المستنقع الآسن الذي غرقت فيه منذ عقود، بقلبهم الحقائق، وإشاعتهم الأوهام، وتغييبهم الوعي، وتلاعبهم بالكلمات، وتسفيههم كل رأي رشيد.. فلولاهم ما تمكن الطغاة من رقاب الناس وما بغوا وما استمروا
"عصابة اختطفت وسرقت مصر"! وكأنه لم تكن هناك انتخابات رئاسية تعددية حرة، شهد القاصي والداني بشفافيتها ونزاهتها، أسفرت عن فوز الرئيس مرسي في الجولة الثانية! وكأن الناس جميعا كانوا يعانون يومذاك، من اضطرابات عقلية أغرقتهم في لجج من الضلالات والأوهام والتهيؤات! أما أبو لهب، فكان وحده في كامل وعيه، فوعى وأدرك ما لم يدركه الناس أجمعون!
"نجاح 30 يونيو كان القضاء على الإخوان فقط لا غير، ولو رجعوا يبقى منجحتش"! مش فاهمك يا أبا لهب! يعني 30 يونيو نجحت في القضاء على الإخوان؟ وللا فشلت في القضاء عليهم، ويمكن يرجعوا؟! نجحت وللا فشلت يا أبا لهب؟!
إن هؤلاء الأفاكين المرجفين وأمثالهم هم الذين يطيلون بقاء مصر ونظيراتها في هذا المستنقع الآسن الذي غرقت فيه منذ عقود، بقلبهم الحقائق، وإشاعتهم الأوهام، وتغييبهم الوعي، وتلاعبهم بالكلمات، وتسفيههم كل رأي رشيد.. فلولاهم ما تمكن الطغاة من رقاب الناس وما بغوا وما استمروا..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق