د. جمال حمدان: لماذا فشلت كل الثورات المصرية على مدى التاريخ؟
“.. فخلال أكثر من خمسة آلاف سنة لم تحدث أو تنجح في مصر ثورة شعبية حقيقية واحدة بصفة محققة مؤكدة .. مقابل بضع هبّات أو فورات فطرية متواضعة أو فاشلة غالبا .. مقابل عشرات، بل مئات من الانقلابات العسكرية يمارسها الجُند والعسكر دوريًّا، كأمر يومي تقريبا منذ الفرعونية وعبر المملوكية وحتى العصر الحديث ومصر المعاصرة.
وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليديا ومن البداية إلى النهاية شعـبًا غير محارب جدا .. أو إلى حدٍ بعيد في الخارج، كانت مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون كأمرٍ عادي في الداخل ..
وبالتالي كانت وظيفة الجيش (الحُكم) أكثر من (الحرب) ..
ووظيفة الشعب (التبعية) أكثر من (الحُكم) ،
وفي ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيرا ما كان الحُكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو (بالحل السياسي)…
وأخطار الحُكم الداخلية (بالحل العسكري) ..
أي كان يمارس (الحل السياسي) مع الأعداء والغزاة في الخارج ..
و(الحل العسكري) مع الشعب في الداخل ..
فكانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب”
شخصية مصر – الجزء الرابع – صفحة ٥٧٨
ويضيف الدكتور جمال حمدان
“ولا شئ يقينا ككلمة ” الفرعونية ” يلخص ويشخص مأساة مصر السياسية المستمرة بلا انقطاع طوال التاريخ، والمجسدة بلا حياء، وما تزال في صميم حياتنا المعاصرة، فلقد صارت هذه الكلمة التعسة ” سيئة السمعة ” علما علي الطغيان المصري البشع البغيض في كل مراحله، وإن اختلفت التسميات والمسميات، أو تطورت الأشكال والشكليات .
فالسلاطين والمماليك في العصور الوسطي هم كما أوشك المقريزي أن يضعها فراعنة ولكن مسلمون، مثلما كان الفراعنة أنفسهم أباطرة وقياصرة وأكاسرة، ولكن مصريون، هذا بينما عد محمد علي بعد ذلك آخر المماليك العظام وأول الفراعنة الجدد.
إن الفرعونية بوضوح مطلق الآن، هي لا شك أبرز، مثلما هي أسوأ مظاهر الاستمرارية في كيان مصر جميعا.
أما العلاقة بين الحاكم والمحكوم فهي تقليديا علاقة قهر ومقت، إكراه وكره، استبداد وحقد، بينما العلاقة بين الحكومة والشعب هي الريبة والعداوة المتبادلة بكل التفاهم الصامت، إن لم تعد الأولي، فإنها – لسوء الحظ أكثر – عرفت غالبا العصابة، ولا نقول أحيانا ” الحثالة الحاكمة ” ، بمعني عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية.
ومن هنا فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة، فقد كانت بشريا غابة لا حديقة، وإن كانت زراعيا مزرعة لا مرعي، فقد كانت سياسيا مرعي لا مزرعة للأسف، بالتالي فكثيرا ما كانت مصر إلي حد بعيد حكومة بلا شعب سياسيا، وشعبا بلا حكومة اقتصاديا.
وفي كتابه “إستراتيجية الاستعمار والتحرير” يصف حُكم العسكر لمصر وسائر دول العالم الثالث “بالاحتلال الداخلي” حيث يقول: –
“فالعالم الثالث هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية ومخلفات الطغيان والاستبداد الشرقي القديم والرجعيات البدوية البدائية العتيقة المتحجرة، فضلا عن أنه غدا أبشع معقل للديكتاتوريات العسكرية والفاشية اللاشرعية الاغتصابية الفاسدة نصف المتعلمة أو نصف الجاهلة، وكأنما قد حكم عليه بأن يستبدل بالاحتلال العسكري الأجنبي القديم أيام الاستعمار، الاحتلال العسكري الداخلي الجديد تحت الاستقلال، هذا استعمار خارجي وهذا استعمار داخلي .
والواقع موضوعيا أن العالم الثالث كما هو اليوم إنما ينتمي سياسيا إلي الماضي السحيق، يعيش في القرن العشرين الميلادي بالهيكل السياسي للقرن 20 قبل الميلادي.
المؤسف أن أغلب هذه الديكتاتوريات العسكرية أو الرجعية يتم أو يقع تحت إدعاء ولافتة الديمقراطية، بل ويباهي بها أعرق الديمقراطيات الغربية بلا حياء ولا خجل، ولا عجب أن صك البعض لهذا كله تعبير “ديمقراطية العالم الثالث” ، “الديموكتاتورية” كنوع من السخرية السياسية.
“وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي النقطة السوداء والشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء، وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة، وليس على مستوى المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضاً، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك.
“ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها، فهي ما تزال تعيش بين (أو فوق) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي ” الديمقراطية الشرقية ” أو بالأحرى “الديموكتاتورية”.
والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة”.
د. جمال حمدان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق