الثلاثاء، 5 يوليو 2022

الصدمة “الْحَزِيرانِيَّة” والعصاب الجماعي

الصدمة “الْحَزِيرانِيَّة” والعصاب الجماعي

يوليو 3, 2022
د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

في كلمته التي ألقاها بمناسبة ذكرى ما أسماه “ثورة 30 يونية” قال “عبد الفتاح السيسي” كلاما لم يعلق منه بذهني شيءٌ قط؛ ليس فقط لفراغه التام من المعنى والمبنى، ولكن لذلك ولأمر آخر غريب، وهو أنّه بدأ كلمته بابتسامة انزلقت على وجهه كما تنزلق الرسوم المتحركة على جدار متحجر، لا أدري لماذا استفزتني هذه الابتسامة التي رأيتها اتسعت بعرض مصاب الأمة من الخليج إلى المحيط، وذَكَّرتني وذَكَّرني حديثُهُ عن 30 “حزيران” بما أَطلق عليه المفكر والناقد جورج طرابيشي (الرَضَّة الْحَزِيرانية) وذلك لَدَى حدِيثِهِ عن صدمة الأمة في الخامس من حَزِيران 1967م وما ترتب عليها من “عصاب جماعيّ”؛ فهل نستطيع أن نقول إنّ الأمّة قد تلقت “رَضَّةً حَزِيرانِيَّةٍ” ثانية؟ أو قلْ: “صدمة حزيرانية” أفقدتها اتزانها وأصابتها بداء “العصاب الجماعي” ذاته؛ فإذا بها في تيه وخبال أذهلها عن كثير من الدوافع والروافع الكافية لاجتثاث هذا السرطان من جذوره، وجَعَلَها تدور بلا فائدة كما تدور تروس الآلة إلى الوراء؟!!

    وبمناسبة داء “العصاب الجماعيّ” يحضرني ما كتبه “آرثر كوستلر” عن حالتين للعصاب الجماعي وقعتا إبان الحرب الكبرى الثانية، الأولى: ردّ فعل الشعب الألماني تجاه المحرقة “الهولوكوست”، ومرورها عليه كأنّها حكاية خيالية لا واقعا مرئيا، والثانية: رد فعل الشعب الفرنسي عندما اتخذت الحكومة قرارها بالخضوع للهيمنة الألمانية؛ حيث سكن الجميع للقرار، دون أن يحركهم حتى صيحة “شارل ديغول”: “لقد خسرنا المعركة ولكن لم نخسر الحرب”، ففي كلتا الواقعتين أصيب الشعب بحالة من “العصاب الجماعي” الناتجة عن الصدمة أورثته إحباطا وفقدانا للإرادة، بله الوعي، فهل يمكن أن يقال إنّنا أصابنا شيء من ذلك؟

    لقد كانت “الرضَّة الحزيرانية” في 1967م قاسية إلى حد لا يمكن إدراكه إلا بالنظر إلى ما ترتب عليها من آثار على مستوى العالم العربي كله، وكذلك كانت “الصدمة الحزيرانية” في 2013م على ذات المستوى من القسوة والآثار المدمرة إن لم تكن بصورة أشد، فلم يكن العالم العربي يتصور أن تقع الهزيمة أصلا، فضلا عن وقوعها على هذا النحو المذل المخزي؛ إذْ كان التلقين الإعلاميّ المستمر يصور إسرائيل بأنّها مجرد عصابات تجمعت في كيان هزيل لا صمود له أمام “الجيوش العربية!”؛ فإذا بالجيش الإسرائيلي يجتاح كل دول المواجهة في وقت واحد، ولم يحتج لأكثر من الأيام الستة ليحتلَّ كل هذه المساحات بما فيها القدس، ولِيُمَرِّغَ أنف الكيان العربيّ في التراب، ولِيَدْخل موشي ديان المسجد الأقصى وقد توج بالنصر، رافعا صوته بلا خوف ولا وجل؛ صائحا والجند خلفه يرددون: “محمد مات خلف بنات”.

    ما أصاب الأمة الإسلامية والعربية بعدها هو ما يمكن تسميته “العصاب الجماعي” وهو مرض اجتماعي نفسي عام يصيب الأمم لدى تلقى صدمات رهيبة لا تصمد لها؛ فتفقد اتزانها وتفقد معه كل ما كانت تتعلق به وتتشبث به من العُرَى القيمية والعقدية، ويسودها الإحباط الجماعيّ وتعمل فيها الحرب النفسية عملها، وتتخبط في سيرها عبر سلاسل من ردود الأفعال الارتجالية، هذه الحالة لم تستطع معركة أكتوبر أن ترفعها عن الأمة؛ لكونها لم تدم ولم تكتمل، ولكون ما تحقق فيها من نصر جزئي ضاع بهزيمة سياسية منيت بها مصر، وتبعتها في ذلك دول عربية أخرى، وهذا بعينه جزء لا يتجزأ من حالة العصاب الجماعي تلك، والنتيجة النهائية جاءت على نحو لم نتوقعه، وهو تحالف بمثابة قيام “الولايات المتحدة الإسرائيلية” من المحيط إلى الخليج وليس فقط دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

    وما إن حاولت الشعوب العربية الخروج من هذا التيه الكبير بتلك الموجة الثورية التي سميت بالربيع العربيّ حتى فوجئت بأنّ إسرائيل التي وجهت إليها الضربة الحزيرانية في 1967م كانت قد تغلغلت في أحشاء الأنظمة التي قامت عليها الشعوب، فكانت الضربة الحزيرانية هذه المرة على يد أولياء إسرائيل وأدواتها، وإذا كان زعماء العرب قد باعوا الوهم للشعوب إبان الضربة الأولى، فإنّ قادة الثورة وفي المقدمة منهم قادة التيار الإسلامي قد باعوا الوهم أيضا للجيل؛ لتصحو الشعوب العربية على “الصدمة الحزيرانية” الأشد والأعمق أثرا من “الرضة الحزيرانية” وبعد أن كانت الشعوب توقن تحت تأثير المخدرات أن “النظام البائد!” لن يعود حتى يعود اللبن في الضرع بعد حلبه؛ أصبحت ترى النظام العتيق جاثما على صدرها من جديد، ومعه من الأحقاد والفتن ما لا طاقة لأحد بتحمله.

    هذا هو السبب العميق وراء كل هذه الحالة المرضية التي تَبَدَّتْ في صور من السلوك الجماعي غاية في الغرابة والتناقض، فهؤلاء يعيشون حالة المظلومية ويشتكون ظلامتهم لمن مارس عليهم الظلم، وينتظرون الحل عند من بيده تعقدت الأمور، ويَجْتَرُّون مفردات مغناطيسية منَوِّمة يهدهدون بها الجيل الساخط، وهؤلاء يسبون القرار ويلعنون الخيار ويدندنون: ما الذي جرّنا إلى ما لا طاقة لنا به من السياسة؟ ألم يكن من اللائق بنا أن نبقى حتى نتعلم السياسة والإدارة؟! وكأنّنا بالفعل فشلنا في الإدارة والسياسة ولم يكن فشلنا في إدارة الصراع مع العسكر والدولة العميقة ومع قوى الباطل الإقليمية والدولية! هذا سوى من انحرف إلى أقصى اليمين ليتدعشن إلى النخاع، أو إلى أقصى اليسار لينخرط في الرذيلة، وربما الإلحاد.

    أمّا الشعوب فقد أصيبت بحالة “الانهيار اليائس” التي تصيب الظبية وهي بين فكي اللبؤة، الغضب عارم والكره للظلام صارم، والوعي بشرور النظام قائم وحاسم، لكن الأمل معدوم والصوت مكتوم والتفكير في أي حراك ملوم مذموم؛ ذلكم هو “العصاب الجماعيّ” الذي يعطي الطغيان الفرصة الذهبية للاستمرار رغم توافر كل عوامل السقوط والانهيار، فما الحيلة حيال هذا الداء العضال؟!

    إنّنا إن عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنجد أنّ كل صدمة تعرضت لها الأمة في الواقع المعاصر أعقبتها بحول الله صحوة تعود بالأمة إلى استلهام الدَّفعة الأولى، فكانت الصحوة في كل مرة باعثة للهمم نافضة للوهن، نحن حقيقة بحاجة إلى صحوة جديدة وبعث جديد، 

ستقول لي: ألسنا نحن الصحوة ذاتها؟ 

لا تتفاجأ إذا قلت لك: بل نحن من قتل الصحوة ووأدها في مرحلة مبكرة من عمرها؛ وآية ذلك أنّ غاية أحلامنا: “دولة مدنية بمرجعية إسلامية” أو “ديمقراطية مطعمة بالشورى” أو “حضارة كحضارة الغرب منزوعة الإلحاد” أو غير ذلك مما ينادي به (أهل الاعتدال) ودعاة (الوسطية) عندنا، ولست ضد الوسطية والاعتدال، فديننا وسط عدل وأمتنا وسط عدل، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، لكنّ الاعتدال والوسطية ليس إلا الإسلام ذاته ومنهج الله ذاتهه، أمّا أن نقف في منزلة مترددة بين الحق والباطل ثم نسمي ذلك وسطية واعتدالا فهذا هو التطرف الناشئ عن هزيمة نفسية.

    إنّ فكرَنا بل وفقهَنا لا يمثل إلا حالة من الانهزام العميق، وإنّنا لم نقدم للجيل تجديدا إلا ذلك اللون من التجديد الذي يعمل على إخضاع الفكر والفقه ليدخل تحت سقف الهيمنة الفكرية والقانونية المعاصرة، وتأمل كتابات واجتهادات كثير من الإسلاميين في الفكر والفقه؛ لتوقن أنّنا لم يكن لدينا من آفاق التجديد إلا ذلك السبيل البائس الذي لا يفضي إلا إلى التضييع والتبديد، حتى غدت مصطلحات: الخلافة والجهاد وأهل الحل والعقد وغير ذلك سبّة لكل من يطرقها بطرف لسانه أو بسن بنانه، وحتى أضحى المجدد العظيم سيد قطب رمزا للغلو والتطرف والإرهاب.

    إنّنا لن نصل بالتصالح مع المنظومة الفكرية الغربية المهيمنة إلا إلى مزيد من الصدمات التي تكرر حالة العصاب الجماعي القاتلة، نحن لم نتعلم بَعْدُ قواعد إدارة الصراع، وإنّنا فشلنا قبل كل شيء في إدارة الصراع، وإنّ من أهم قواعد إدارة الصراع ألا تدخل تحت الهيمنة الثقافية لعدوك الحقيقيّ، وألا تطلب عنده الحلول وأنت تعلم أنّه الذي صنع مأساتك، وألا تصالح وأنت لا تملك أدوات المصالحة أو التسوية، وأن تعرف قدر عدوك وسقف عداوته لك، وأن تقوم من جديد باكتشاف ذاتك.

   نحن بحاجة إلى إعادة صياغة رؤية مستوحاة من ديننا وعقيدتنا، وإعادة بناء مشروع للأمّة على ضوء هذه الرؤية، ثم الانطلاق بهذه الرؤية وهذا المشروع في مراحل التغيير؛ واثقين بالله ومتوكلين عليه؛ عندئذ لن يصيبنا ما أصاب الخلق من عصاب، ولا يقعدنا شيء عن غايتنا، ولْنُكَبِّرْ دائما ونحن نستحضر معاني تكبيرات العيد وإيحاءءاتها: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله .. الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق