الخميس، 13 يونيو 2024

نظرية أرنولد توينبي لا تصلح

نظرية أرنولد توينبي لا تصلح

د. محمد جلال القصاص

دكتوراة علوم سياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية-


بسم الله الرحمن الرحيم

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

بعض النظريات يؤسس وبعضها يُفسر. بعضها يصنع الحدث والظواهر الاجتماعية، وبعضها يفسر الظواهر الاجتماعية والأحداث الفردية. وكل منا يمتلك كلا النوعين من النظريات: المؤسسة والمفسرة. فكل منا عنده تصور –ولو بسيط أو ساذج- يحاول أن يشكل الواقع على أساسه.. 

بمعنى يحاول أن يجعل الواقع موافقًا لهذا التصور؛ وكل منا يفهم الحدث بطريقة خاصة، أو يستقبل نوعًا معين من المعرفة يتناسب مع تركيبته النفسية والذهنية.

 هذه مسلمة مستقرة في خاطر كل أحد. ولذا لا تتعايش القيم والمفاهيم إلا في إطار غالب ومغلوب.. تابع ومتبوع. ونفس الحدث تتنوع حوله الأفهام كل حسب ما يسكنه من نظريات مفسره، ويتنوع السعي كل حسب ما يسكنه من نظريات مؤسسة.

هذه المسلمة يعرفها كل أحد، ويقفز عليها عمدًا، أو جهلًا، توينبي في نظريته لتفسير التاريخ (نظرية التحدي والاستجابة تحديدًا). ويدخل الأتباع المأخوذين بما اشتهر فقط لأنه اشتهر دون وعي إلى أن الشهرة في هذه الأيام من فعل الأدوات ولا ترجع بالضرورة للمحتوى العلمي وحده، وأن السلطة تنشر نوعًا معينًا من المعرفة يناسب أغراضها، وأن ديورانت استخدم-هو وغيره- من قبل القوى المهيمنة من أجل نشر معرفة ترسخ هيمنة الغرب.

تفترض نظرية التحدي والاستجابة أن الحضارات تنشأ حين يمارس عليها نوعًا من التحدي يحفزها للاستجابة والمقاومة ومن ثم محاولة فرض رؤيتها واقعًا. يفترض ديورانت أن هذه المقولة تصلح إطارًا لتفسير نشوء الحضارات!!

لا تصلح نظرية توينبي (التحدي والاستجابة) لتفسير نشأة الحضارة الإسلامية، لا في نسختها الأولى، ولا في محاولات الإحياء والتجديد المتكررة عبر العصور. فالإسلام لم يبدأ من تحديات واقعية استجاب لها بما يناسبها. بل برسالة من الله-سبحانه وتعالى وعز وجل- أعطت رؤى خاصة لتفسير سبب الخلق والهدف من الحياة والمآل بعد الممات، والذين استجابوا لله ورسوله تغيروا هم أنفسهم ثم غيروا الواقع. الله-سبحانه وتعالى- هو الذي حدد من يتلقى رسالته والمكان الذي تبدأ منه الدعوة (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). والدعوة إلى الله مستمرة للكافرين وللمؤمنين (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). فمصدرها الوحي، وحركة التجديد مستمرة، وموطنها في الأحكام الفقهية التي تستنبط من الكليات ما يناسب الجزئيات (تفاصل الحياة المتجددة) لتبقى حركة القيم مقيدة بأصول ومرنة في التفاصيل.

وحركات التجديد الإسلامية المعاصرة نشأت لأمرين:

الأول: توطين مجموعة من القيم تمثل ماهية رسالة الله-سبحانه وتعالى وعز وجل- للبشر.. يحاولون أن تحضر هذه القيم واقعًا في حياة الناس… أو أن تستأنف الحياة على منهج الإسلام الذي شرعه الله لعباده، ما يقال له (تحكيم الشريعة).

الثاني: رد فعلٍ للهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، ابتداءً من إخراج المسلمين من الأندلس، ومرورًا باحتلال العالم الإسلامي، وتفتيته إلى أجزاء (دول قومية)، وانتهاءً بصيغ الحكم التي فرضت على المسلمين أنماطًا من العيش يرفضها المجددون.

وهذه التحديات التي أوجدها الغرب تدخل في مجال الأحكام الفقهية ولا ترقى لمستوى الأصول: إلا عند نفرٍ ممن يتحدثون بالمقاصد، بمعنى أن لنا قواعد كلية (العقدية) نحاول توطينها ونراعي- حال التوطين- ما الذي نستطيعه (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وما الذي يتعذر علينا (التحديات الخارجية والداخلية)، ولكل شيء في التفاصيل حكم خاص يستنبط من القواعد الفقهية الكلية. وتبقى القاعدة الكلية كما هي صلبة تنتظر العاملين لله يطوعون الواقع حتى تتطبق كلية. إلا قلة طال عليها الأمد فقلبت فكرة المقاصد واتكأت عليها وهي منكفئة.. مُنكَّسة. فمن يتدبر في الفقه ساعة يعلم أن المقاصد تعرف من الأحكام، بمعنى أننا نقرأ أحكام الشرع ثم نقول: مقصد الشرع كذا. إلا أن هؤلاء قلبوا هذه الحقيقة فأتوا بالمقاصد وفسروها من عند أنفسهم ثم راحوا يُشرِّعون أحكامًا تتناسب مع فهمهم هم لما ادعوه مقاصدًا، ولم ينتبه أحدهم أن مقاصدهم هي هي مقاصد الكفر وأهله أو قريبة منه، فالجميع يلتقي تحت مظلة دين العلمانية المعاصرة (الإنسانية)!!

وأرنولد توينبي والمؤمنون بنظريته.. يحاولون تفسير حركة التاريخ في إطار الفعل ورد الفعل، ويتغافلون عن إرادة الله في إرسال رسل يصلح بهم حال الناس “رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ”. ولا تصلح نظرية ديورانت إلا لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية، وليست نظرية شمولية، ولا يمكن لمؤمن بالله وما أنزل على رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لعاقل يتدبر في حركة التاريخ أن يتبنى هذا التفسير العلماني لحركة الناس.

إن التاريخ صراع بين الحق والباطل. صراع بين المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بوساوس الشيطان. كلما غلب الشيطان وجنده أرسل الله رسلًا، وفي أمة محمد يبعث الله مجددين على هدي الرسول –صلى الله عليه وسلم-. صراع بين قيم مصدرها الوحي وقم مصدرها الشيطان وأهواء البشر، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ الأنعام: ١٢١، ويقول الله تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ النجم: ٢٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق