(الثاني عشر من ذي الحجة، سنة خمسٍ وثلاثين للهجرة)
علي فريد الهاشميفي مثل هذا اليوم(الثاني عشر من ذي الحجة، سنة خمسٍ وثلاثين للهجرة) رُمِيَ الإسلامُ بأعظم داهيةٍ دَهَتْهُ منذ بزغ فَجرُه، وأصيب المسلمون بأعظم مصيبة أصابتهم منذ بَدْء تاريخهم..
فقد تجمع في مثل هذا اليوم- منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة- أوباشُ (خوارج مصر) مع أوباشِ (خوارج الكوفة) مع أوباشِ (خوارج البصرة)، واقتحموا مدينةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرام، في الشهر الحرام؛ فَرَوَّعُوا أهلها، ودنَّسوا حُرمتَها، ثم أسقطوا نظام الحكم الإسلامي القائم على الخلافة، وهدموا عماد المنظومة السياسية الشرعية القائمة على الشورى؛ وذلك بقتلهم إمام المسلمين وخليفة رسول رب العالمين؛ الشهيد المظلوم الصابر المحتسب الإمام (عثمان بن عفان الأموي المَنَافِي القرشي) ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه..
قتلوه محروماً من الماء وهو المتصدق ببئر رومة..
وممنوعاً من النصير برغبته وهو المُجَهِّزُ لجيش العسرة..
ومنتَهَك الحُرمة وهو الذي تستحي منه الملائكة..
فما اجتمع المسلمون بعده على إمام، ولا اتفقوا بعده على نظام.. وكان أكبر خطأ ارتُكِبَ بعد ذلك أن اجتهد عليٌ رضي الله عنه سياسياً فأخطأ حين قَبِلَ البيعةَ تحت أَسِنَّة رماح هؤلاء الخوارج الأوباش، وتألفَ كثيراً منهم، وجعلهم قادة جيشه؛ ظناً منه رضي الله عنه أنَّ ذلك سيُسكِّن الفتنة ويرتق الخرق ويجمع الكلمة؛ فما كان منهم إلا أن أدخلوه- والمسلمين جميعاً- دواماتِ الفتنة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة.. ثم قتلوه غيلة وغدراً، رحمه الله ورضي عنه، بعد خمس سنوات كاملةٍ من القتل والقتال بين المسلمين.
إنّ استشهاد عثمان رضي الله عنه لم يكن حدثاً عابراً في تاريخ المسلمين تداركوه بِبيعةٍ مُلتبِسَة، أو أصلحوه بِمُلكٍ متغلب؛ بل كان انقلاباً دموياً كاملاً على نظام الحكم خلا به مقام الخلافة من الخليفة، وسَلْبَاً قهرياً تامَّاً لمبدأ الشورى نُزعت به حرية الاختيار من المسلمين.. والبيعةُ- وإنْ كانت كما قيل خاصة بأهلِ المدينة من المهاجرين والأنصار- مشروطةٌ بالحرية الكاملة؛ إذ (لا بيعة لمُكره).. وما كان أهل المدينة- حينها- أحراراً يملكون أمرهم ليختاروا اختياراً حراً لا إرغام فيه؛ بل اختاروا والسيوف على رؤوسهم، ودماء خليفة المسلمين تسيل مِن تحت عقب بابه، وجثمانه الطاهر ممنوع من الدفن الشريف!!
لقد كانت لحظةً مؤلمة في تاريخ المسلمين أسست لغالب الشقاقات التي حدثت بعد ذلك.. ولا أحسبني مُغالياً إنْ قلت: إنَّ لحظة استشهاد الإمام عثمان رضي الله عنه في تاريخنا هي اللحظة الأولى التي بُذرت فيها بذرة (إمامة المتغلب)، واستُنبِتتْ فيها شجرةُ (الملك العضوض)، واستُجلبَ فيها سيفُ القهر لينفي شورى الرضا..
لقد كانت لحظةَ رِدَّةٍ سياسيةٍ لم تُتدارك بحسمٍ كحسمِ أبي بكر..
وعلى ذكر أبي بكر رضي الله عنه؛ فإني والله لا أجد كلمات أصف بها دهشتي أمام عبقرية هذا الإمام العظيم وهو يغوص عميقاً في دهاليز النفسية العربية؛ بل في دهاليز النفسية الإنسانية فيرى أهواءها قبل خروجها فيقمعها، ويدرك اعوجاجها قبل ظهورها فيقومها.. وإنِّي ليأخذ بمجامع قلبي وعقلي وروحي مشهدُه ذاك وهو يصرخ غاضباً في وجوه الصحابة جميعاً: والله لأقاتلنَّ من فَرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإنَّ الزكاةَ حقُ المال، والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه..
فأيّ عبقرية تلك التي كانت تدرك- وحدها دون من حولها- أنَّ النفوس الإنسانية طُلعةٌ لا يُشبعها عَرَضٌ تناله، ولا يُقنعها غَرضٌ تطاله؛ إنْ رَقَت مَرقى تطلعت لآخر، وإنْ أدركت غايةً استشرفت لأخرى.. فهؤلاء إنْ منعوا الزكاة اليوم تكاسلوا عن الصلاة غداً، وإن تكاسلوا عن الصلاة غداً رفضوا الجهاد بعد غد.. وهكذا دواليك حتى يسقط الدينُ بإسقاط نُظُمِ الدولة، وتسقط الدولةُ بإسقاط شرائع الدين!!
والصحابة كلهم رضي الله عنهم – بمن فيهم العبقري عمر- لم يدركوا هذا المعنى الدقيق الذي فَهَّمه الله جل وعلا لأبي بكر رضي الله عنه؛ فأرادوا- بسبب تحزُّبِ العرب عليهم بـ(الردة الكاملة)- ألا يفتحوا عليهم جبهات (الردة الناقصة)؛ فتكثر الجبهات وتتشعب الفتوق.. بيد أنَّ أبا بكر وحده رضي الله عنه كان يعلم أنَّ هذا سيوصل لذاك، وأنَّه باب إن فُتح فلن يُغلق إلا بخراب البيت كله، وأنَّ منع الزكاة- وإنْ كان أمراً واحداً- إسقاطٌ للدين كله باطناً، كما أنَّ ادعاء النبوة إسقاط للدين كله ظاهراً.. فحارب الفئتين وحسم مادة الخراب قبل أن تستشري داخل البيت، ثم وضع حجر الأساس لإسقاط فارس والروم خارج البيت.. ولولا فعله في الداخل ما أطاق هو والمسلمون مِن بعده الفعل في الخارج.. وكل ذلك في سنتين اثنتين.. فرحماتُ الله ورضوانه تترى على هذا العظيم الذي لا مِنَّةَ على المسلمين- بعد مِنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أعظم من مِنَّتِه.
لقد كانت (لحظةُ عثمان) رضي الله عنه ممكنةَ التدارك لو وُجد حَسمٌ كَحسم أبي بكر، وفَهمٌ كفهم أبي بكر.. ومَن قرأ تفاصيل تلك اللحظة وتصوَّرَ سياقاتِها، وعايشها مِن بداياتها لنهاياتها؛ مروراً بمراحل التأزم العليا فيها، ثم ضم مروياتها المختلفة بعضها إلى بعض، ونقَّاها من شوائب العصبية والحزبية والأهواء، ودرس نفسيات أصحابها وطبائعهم وأحوالهم... مَن فعل ذلك كله وأخلص النية في تحري وجه الصواب؛ لرأى- حسب ظني- أنَّه لم يكن مِن الأولى السكوتُ على هؤلاء الخوارج الأوباش أو تألفّهم أو تسكينهم؛ في الوقت الذي أسقطوا فيه الشورى، وقتلوا خليفة وتحكموا في آخر.. وما كان أهونَ أن تُسَكَّنَ الأطرافُ والولايات والولاة على ما كانت وكانوا عليه أيام عثمان رضي الله عنه، ثم تُرسل الرسائل إلى الأمصار لاستجلاب الجيوش للقضاء عليهم.. خاصةً وقد أثبتت الأحداث بعد ذلك أنَّ الفتنة التي هرب منها أولئك الذين رأوا التسكين والتأليف؛ وقعت- وبصورة أشد- مما لو كان حُسم الأمرُ في أوله قبل انتشاره، أو استُدرك بالقوة قبل استفحاله.. هذا بالإضافة إلى ما تناسل مِن هذه الفتنة- وبعد عشرات السنين- من عقائد ضالة وأفكار مُضلة حفل بها تاريخ المسلمين تشيعاً وخارجية.. وكلها نبتت مِن أدمغة هؤلاء الأوباش وحول هؤلاء الأوباش!!
لقد كان عثمان رضي الله عنه أعظم مظلوم في الصدر الأول من تاريخ المسلمين- إن لم يكن في كل تاريخ المسلمين- ، وإنَّ ذروة عَظَمَته تلك تمثلت في رفضه القاطع أن يُسفك بسببه دم أحدٍ من المسلمين- وهو سليل الحسب والنسب والكثرة الكاثرة؛ فأمر أصحابه وعبيده ومواليه ألا يدافعوا عنه ليذهب للقاء ربه جل وعلا ثم للقاء رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أمره بالصبر من قبل؛ صابراً محتسباً ليس في رقبته دم مسلم واحد.. فرحم الله عثمان ولعن قاتليه..
وإنِّي- إذ أقول هذا وأمثاله- لأعلم أنَّ إطلاق الأحكام الجازمة- تصويباً وتخطئةً- على أحداث التاريخ مزلق وعر لا يكاد يسلم السائر فيه من السقوط أو الإسقاط.. وهو أشبه بادعاء الحكمة بأثر رجعي.. بيد أنه لا طريق آخر أمام دارس التاريخ وقاريء الأحداث، خاصةً إذا كانت تلك الأحداث لا تزال آثارها حتى اليوم تنضح دماءً وتقذف أشلاءً وتبتني كُفراً وتكفيراً.. "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق