حاجتنا إلى التجديد في تفسير القرآن المجيد
د. عطية عدلان
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
وَحْدَهُ القرآن الذي يتمتع بهذه الخاصية المعجزة المبهرة، وبما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُوتِيَ القرآنَ ومثلَه معه؛ فإنّ السنة متأثرة بالقرآن في كثير من الخصائص بما فيها هذه الخاصية الفذّة، أَجَلْ .. وَحْدَهُ القرآن الذي يتمتع بهذه الخاصية المعجزة المبهرة، التي سيكون لها بالغ الأثر في تيسير عملية التجديد التي يرومها أهل الاستقامة من رجال العلم الشرعيّ.
وحده القرآن الذي بقي وسيبقى – مادامت السماوات والأرض – غَضًّا طريًّا، يفيض حيوية ونضرة وشبابا، بقي وسيبقى – مادامت السماوات والأرض – بذات الحيوية الدافقة التي نزل بها أول مرة، بذات القدرة على العطاء المتفَرِّد والْمَدَدِ المتجَدِّدْ؛ ذلك لأنّه – إلى جانب كونه كلامَ الله المعجز – نزل ليكون للعالمين إلى يوم الدين منهج حياة وطريق نجاة، تقرأ الآية التي نزلت على حدث وقع في زمن النبوة، وأنت تعيش نظيره في واقعك اليوم، فتشعر كأنّها نزلت قَصْدًا في واقعة اليوم، وأيقنت أنّ انطباقَها على الجديد أَبْيَنُ وأوضح من انطباقها على القديم.
ألَسْتَ تشعر وأن تقرأ قول الله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (المائدة: 52) ألستَ تشعر أنّ الآية تنزل الساعة، أليس قول الله تعالى: (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) (النور: 48-50) أليس يعالج النازلة المعاصرة بأقوى مما كان يعالج الواقعة الأصلية؟ ألَسْنا إذا قرأنا قول الله تعالى: (وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر: 45) ألَسْنا إذا قرأناها تراءت لنا شخوص من جلدتنا؛ فاشتعلت النار في قلوبنا، فلم يطفئها إلا: (قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر: 46)! إنّ المسلم الذي يخشع بالقرآن ويتفاعل معه وينفعل به وهو يعالج الواقع الإنسانيّ هو أكثر الناس إدراكا لهذه الحقيقة وشعورا بهذه الخاصّية، بغض النظر عن درجة علمه ومستوى فهمه.
لذلك – لاختصاص القرآن بهذه الخاصّية – الفذّة لن يستقيم التجديد في الخطاب الشرعيّ والخطاب الدعوي حتى يكون المنطلق الذي يُنطلق منه هو القرآن، ولن تصح البداية وتستقيم إلا بالتجديد في تفسير القرآن وعلوم القرآن، وإذا ألهمنا الرشد في تجديد التفسير فسيسري أثرُه إلى سائر أنحاء علوم الدين وشُعَبِه، فالتجديد في علم التفسير – إذن – هو الواعد، ليس فقط برشد في العلوم الإسلامية وإنّما برشد كذلك في الحياة الإسلامية، فمن أين نبدأ التجديد في التفسير وعلوم القرآن، وكيف نسير فيه على هدى، هذا هو التحدي الكبير.
لقد قدمت لنا التفاسيرُ المعانيَ، والأحكام، وأسبابَ النزول، ووجوهَ الإعجاز، وغيرَ ذلك مما لا غنى لنا عنه، وقدمت لنا علومُ القرآن المحكمَ والمتشابه، والنسخ، وترتيبَ النزول، والأحرفَ التي نزل عليها القرآنُ، وغيرَ ذلك مما لا رشد لنا إلا به، وقدمت لنا مدارسُ القراءات وجوهَ القراءة، والمتواترَ منها والشاذَّ، ورسمَ المصحف، وغيرَ ذلك مما لا تزدان تلاوتنا إلا به، ولكنّنا لا نزال نبحث في هذه العلوم عن شيء نفتقده ولا نهتدي إليه، لا نزال نلتمس شيئا، آخر اندرس علمه وبقي أثره، ونتسائل بلهفة: كيف صنع القرآن هذه الأمة أول مرة، وكيف أودع فيها طاقة لم تزل إلى اليوم دافعة، وكيف انطلقت من بين دفتي المصحف أمّةٌ استطاعت أن تندفع في البشرية اندفاع عصارة الحياة في الشجرة الجرداء، وكيف بالقرآن خرجتْ من قاع الصحراء أمّةٌ تقول للناس: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى ربّ العباد ومن جور الإسلام إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”؟!
لسنا بحاجة – لكي نقوم بهذا التجديد – إلى مزيد من البراعة في تفسير الكلمات، وشرح العبارات، واستكناه الأحكام والتعاليم؛ فلن نبلغ في ذلك ما بلغه الأوائل، الذين عاينوا التنزيل، وعايشوا التشريع، وتشربوا لغة القرآن من منابعها، وليس من العقل أو الحكمة أن ننازعهم اختصاصهم الذي أقامهم الله تعالى فيه ووهبهم أدواته ومؤهلاته، ولكنّنا بحاجة شديدة إلى استكناه ما ادخره القرآن لأجيال الأمة إلى يوم الدين، مما استلهمته الأمة وانطلقت به في عهدها الأول، لكنّها لم تضع حدوده ومعالمه.
إنّ في القرآن كل مقومات بناء أمة وتشييد حضارة، تحتاج إلى من يكتشفها ويطلقها، فهل فكرنا – مثلا – في استخراج “نظرية معرفة” من القرآن تحقق تفوقا “أبستمولوجيا” يفسر النهضة العلمية التي تحققت للأمة في صدرها الأول، والتي لا يزال الغرب يفيد منها إلى يومه هذا؟ فلقد اتبع الأوائل قواعد “نظرية إبستمولوجية” كاملة، لكنّهم لم يدونها كعلم من العلوم الإسلامية، نظرية معرفية لولاها ما اهتدى “بيكون” إلى المنهج التجريبي، ولا وُفِّق “كانط” إلى التخفيف من غلواء المنهج “الإمبيريّ” الحسى، ولا تَغَذّى المنهج التجريبي على يد “جون استيورت مل” و”ديفيد هيوم” وعلماء الطبيعة بالمنهج الاستقرائي، ومن المؤكد أنّ أمثال البيروني والحسن ابن الهيثم وجابر بن حيان وغيرهم انطلقوا من هذه الأبستمولوجيا الرشيدة ولكنّهم لم يدونوا ذلك ولم يضعوا له القواعد الضابطة.
وإذا كان علم أصول الفقه قد وضع إطارا معرفيا غاية في الروعة والجلال، فإنّه لا يمثل في النظرية المعرفية العامّة إلا القدر الذي يحتله علم الفقه بين العلوم الشرعية خاصة والعلوم الإنسانية عامّة، مع حاجة علم أصول الفقه أن يتقوى بهذه النظرية العامة وأن يتنقى في ضوئها مما دخل عليه من شوائب المنطق وعلم الكلام، فحاجة الفرع إلى الأصل أكثر من حاجة الأصل إلى فرعه ولا شك.
وقل مثل ذلك عن السيسيولوجيا والإنثربولوجيا والسيكولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية التي أصبحنا نحن أمة القرآن بدلا من أن نأخذ منها ما يتوافق مع الأصل الذي سبقناهم فيه أصبحنا نجلس على موائدها كالأيتام الذين لا مورد لهم.
كل هذا فعل فعله في الأمة ثم اندرست معالمه العلمية، كل هذا استلهمته الأمة ولم تدونه فيما دونت من علوم، كل هذا موجود ومركوز في كتاب الله، فأين من رجال التفسير وعلوم القرآن من يكتشفه ويستخرجه مثلما اكتشف الإعجاز العلميّ في كتاب الله ولم يكن له من قبل وجود.
وبالقطع نحن في غنى تام عن كل ما يقترحه علينا أغيلمة الحداثة العرب الذين يريدون لنا أن نخرج على القرآن بسوء التأويل، ويريدون منّا أن نخضع القرآن لأدوات الحفر والتنقيب التي استعملها الغرب في دراسة تراثهم المسيحي والروماني واليونانيّ، لسنا بحاجة إليها لأنّ التعامل مع الحيّ لا يكون بأدوات التعامل مع الميت، فتراث الغرب تراث ميت؛ فسنده منقطع بل مفقود ومعدوم، ومتنه فاقد الصلاحية؛ لأنّ العمر الافتراضي له منوط بزمنه، ولا هكذا القرآن، فلا حاجة لنا بالفلولوجيا ولا الهرمنيوطيقا ولا هذه الأكاذيب التي لا تصلح إلا لكشف الأكاذيب التي من بيئتها وثقافتها.
فأين الأفذاذ الذين يحبون الله ورسوله، ويعشقون القرآن، وتمتلئ قلوبهم ثقةً بهذا الدين العظيم، ويعرفون قدر التراث الإسلامي، ويدركون المواضع التي يعاني منها هذا التراث العظيم؛ بسبب دوران الزمان عليه دون أن يأخذ حظّه الكامل من التجديد الرشيد، على أيدي الصلحاء من أهل العلم، فهلمّوا إلى الواجب الكبير، فإنّه لا مناص – وقد تحتم الأمر – من سلوك أحد السبيلين: إمّا التجديد الرشيد وإمّا التضييع والتبديد، والله تعالى الموفق إلى ما فيه الخير والرشاد لأمتنا ولسائر العباد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق