الثلاثاء، 4 يونيو 2024

الحقيقة التي أظهرتها حرب غزة

 الحقيقة التي أظهرتها حرب غزة

م.محمد إلهامي 


الحرب الفاضحة الكاشفة في غزة أظهرت لنا حقيقة ساطعة تقول ببساطة: نحن مكبلون، محبوسون، نعيش في زنازين.

الكل يسأل: كيف السبيل؟ وكيف نتحرر؟

(طبعا من يرى أنه يعيش في ظل دولة وطنية تعمل لمصلحة الشعب، يحكمها حاكم وطني ونخبة وطنية تحافظ على مصالح الوطن.. من يعتنق هذه الفكرة، فالكلام هنا لا يناسبه، وحرصا على أعصابه وأعصابي، يمكنه أن ينصرف مشكورا أو مدحوار.. الخيار له)

ومع أني كتبت كثيرا خلاصة ما وصلت إليه في كيف يكون التحرر، حتى ظننتُ أني مللتُ وأمللت، لكن لا مانع في كتابة أخرى فيها اختصار كثيرة.

1- أصل العقدة والمشكلة أننا نعيش في نظام دولة تشكل بحيث يجعل السلطة تنفرد بالتحكم التام في المجتمع وتحتكر كل موارد قوته.. هذا النظام اسمه الدولة.. الدولة الحديثة.. إنه النموذج الذي ابتكره الغرب في عصر تفوقه وهيمنته، ثم فرضه على بقية الأمم.

هذه الدول تنفرد حقا بالتحكم في المجتمع بحيث أنها بالنسبة للمجتمع كإدارة السجن بالنسبة للمساجين.. كل شيء يتم وفق الإذن والتصريح والمعايير التي تضعها هي.. فهي تسيطر على التعليم والإعلام والاقتصاد والصحة والثقافة والعمران فضلا عن ملفات السلطة الأساسية: السياسة والأمن والدفاع.

هذه الدول فضلا عن نظامها الداخلي، فإن الغرب كوَّن فوقها نظاما عالميا، يجعل الدول نفسها بمثابة السجون ضمن مجمع السجون.. هذه حقيقة النظام العالمي.. أنشأ النظام العالمي مؤسسات للتحكم في كل شيء: الاقتصاد، الصحة، الثقافة، التراث، الاتصالات، الطاقة… إلخ! فضلا عن الملفات الكبرى: السياسة والأمن والدفاع.

وهو يحافظ على قوة النظام العالمي ويدعمه بأساطيل الجيوش والقنابل والصواريخ وجيوش معسكرة، وخلف هذا كله: جيوش من العملاء والجواسيس والخبراء والدبلوماسيين.. يستندون إلى قوتهم ليأخذوا بالسلم والخديعة والمكر ما يوفرون به رصاصهم وأرواحهم، فإن عجزوا وأفلت الأمر من أيديهم: استعملوا رصاصهم وضحوا بأرواحهم لإعادة السيطرة على الأوضاع والحفاظ على تفوقهم وغلبتهم.

إن الأمر فظيع جدا، وثقيل للغاية.. وهذا ليس هوسا لا بالمؤامرة ولا بنظرية المؤامرة.. هذا هو الواقع.. يدلك عليه عجز 2 مليار إنسان عن إنقاذ 2 مليون إنسان يذبحون أمامه يوميا على البث المباشر بأبشع المشاهد.

2- أرى القارئ الذي وصل معي إلى هذا السطر ولم ينصرف يقول: هذا كلام مكرر مملول.. ما الحل؟

الجواب كالآتي:

– جوهر الحل هو كسر نظام احتكار القوة.. كسر نظام الدولة الحديثة.. وطبعا كسر النظام العالمي.. يجب أن يتحرر المجتمع من الدولة الأخطبوطية المهيمنة على كل شيء.. ثم يجب أن تتحرر الدولة من النظام العالمي المتحكم في معظم الأشياء.

لكن تثور هنا أسئلة

السؤال الأول: ولكن هذا أمر عظيم كبير ثقيل لا يستطيعه الأفراد؟

نعم، هو كذلك.. إنه أمر لا يتم إلا بالجماعات والتنظيمات والحركات.. بل هو لن يتم للجماعات والحركات والتنظيمات إلا إن استطاعت أن تسيطر على الدول.. فلا أمل بل ولا شبه أمل في أن تستطيع الجماعات والتنظيمات فعل شيء قبل أن تستطيع الوصول إلى الحكم.

(تنبيه آخر: الوصول إلى الحكم حق طبيعي وليس عارا ولا مسبة ولا نقيصة.. إذا كانت لديك حساسية ممن يسعون إلى الوصول للحكم.. فانصرف الآن مشكورا مأجورا، فالكلام لا يناسبك)

(دعني أحاول تقريب الصورة..

هل ترى غزة؟

غزة لم تكن لتستطيع تحقيق هذا الإنجاز العسكري الضخم المذهل العجيب لولا أن الحركة الإسلامية هناك استطاعت أن تحررها وتحكمها.. نفس هذه الحركة في الضفة الغربية لم تستطع أن تفعل شيئا كثيرا.. وإخوان هذه الحركة في مصر والأردن لم تستطع أن تفعل شيئا على الإطلاق.

الوصول إلى الحكم قفزة في تاريخ كل حركة إصلاحية أو حركة إفسادية.. السلطة هي مفتاح التغيير: للأحسن أو للأسوأ)

السؤال الثاني: ولكن أين الجماعات والحركات والتنظيمات القادرة على أن تفعل شيئا الآن؟

إن الجماعات والحركات والتنظيمات لا تتكون إلا من أفراد تجمعها أفكار.. لدينا في واقعنا الآن إشكالان كبيران:

– أفراد يحبون أو لا يستطيعون إلا أن يعملوا منفردين

– أفكار مسمومة تعطل عمل الجماعات والأفراد معا

فأما الأفراد الذين يحبون أن يعملوا منفردين، فإن كانوا عبادا لله لا عبادا لأنفسهم وهواهم، فسيعرفون طريقهم بأنفسهم.. وقد يحتاج الأمر بعض اجتهاد، وقد قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}

وأما إن كانوا لا يستطيعون العمل إلا منفردين، لطبيعة قدراتهم أو موهبتهم أو ظروف خاصة في زمانهم ومكانهم.. فهم أيضا -إذا صدقوا- أعلم وأعرف بأنفسهم وبماذا يستطيعون أن يخدموا الدين والأمة والتحرر.

(سأقرب لك الصورة مرة أخرى، ومن غزة..

في غزة كثير من الناس لم تضمهم الحركة، ولم ينخرطوا في المقاتلين المنتظمين.. ولكنهم لم يقعدوا متكاسلين، بل بحث كل منهم عما يستطيع أن يفعله.

أوضح من ذلك: هل رأيت الفيديو الذي يختلف فيه اثنان من المقاتلين أيهما يخرج إلى الدبابة فيضع عندها عبوة شواظ.. هذا هنا عمل أفراد لا عمل تنظيم وحركة.. هذه حمية الفرد في نفسه، هذا إقباله الذي في صدره، هذه همته التي تشتعل فيه.

فالفرد حتى في سياق الحركة أدرى بما يستطيع أن يفعل

أوضح من كل ذلك: ما من شك في أن الحركة نفسها حين كان يقودها فلان ليست كالحركة نفسها حين يقودها علان.. لا يستوي الجسور والمتردد، ولا بأس إذا قلت أيضا: لا يستوي المتهور والعاقل.. لا يهمني الآن إلا معنى أن الفرد حتى في داخل حركة قادر على أن يفعل ويغير من أمور كثيرة بحسب ما يستطيع)

هذا باختصار ما يخص الإشكال الأول: الأفراد

ثم إليك ما يخص الإشكال الثاني: الأفكار

بعد البحث الطويل والفحص الكثير والسعي المضني.. لن تجد فكرة تحررية ثورية قادرة على تثوير الملايين مثل الإسلام.

حتى لو كنت ملحدا أو علمانيا أو أي شيء.. لو أنك تطلب التحرر لهذه الأمة، أو تطلب إنقاذ المستضعفين في هذه الأرض، وكنت صادقا مع نفسك، فستصل إلى هذه النتيجة بوضوح شديد:

الإسلام نصوص مقدسة محفوظة لم تتبدل ولم تتغير، غير قابل للكسر ولا للتطويع ولا للتوظيف ولا للتدجين.. لا تخمد جذوته في مكان أو زمان، إلا وتنبثق في مكان أو زمان.. يحمل في نفسه عوامل قوته ونهضته..

ثم هو يتبعه ملايين الناس.. تثويرهم ممكن بما تنطوي عليه جوانحهم من انتماء ديني حار وملتهب.. ثوريون لديهم القدرة على التضحية بأنفسهم كما لم يستطع أي دين أو مذهب ثوري آخر.. فضلا عن العدد الكبير.

والإسلام متغلغل في حياة أتباعه، خمس صلوات يومية، صلاة جامعة أسبوعية، صيام سنوي، حج سنوي، عبادات كثيرة، معاملات، أخلاق.. ولا يمكن فصل شيء فيه عن الآخر.. لا يمكن فصل العبادة عن المعاملة عن الأخلاق.. لا يمكن فصل الإيمان عن السياسة عن الاقتصاد عن الاجتماع.. كل هذه الأمور موجودة في الآية الواحدة وفي الحديث الواحد وفي كتاب الفقه نفسه، وفي كتاب السيرة نفسها، وفي كتاب الرقائق نفسه.. إلخ!

والمسلمون يحفظون قرآنهم، وكثير منهم يحفظون كثيرا من سنة نبيهم، وكثير منهم متشربون لأصوله تشربا امتزج بعاداتهم وتقاليدهم ومجتمعاتهم.. فنحن أمام مستوى لا مثيل له من التغلغل في النفوس، بما يجعل هؤلاء جميعا قابلين للثورة ولخوض معارك التحرر.

وفوق ذلك فإن أفكار الإسلام تخالف وتناقض نظام الاحتكار الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، وتأسس عليه النظام العالمي.. وأفكاره كامنة في نصوصه المحفوظة، وفي فقهه الأصيل المتوارث، وفي الحكم والأمثال التي يحفظها العامة والخاصة، العلماء والجهلاء معا.

سأقرب لك الصورة:

إذا اقتنع علماني بخطورة النظام الاقتصادي العالمي وأنه نهب للشعوب، وأراد أن ينصح الناس.. سيتمنى العلماني -لو كان صادقا- أن يستخدم الدين في هذا، كيف ذلك؟

يكفي أن يقال للمسلم: فوائد البنوك هي الربا المحرم.. وأن تسرد عليه الآيات والأحاديث وأقوال العلماء في إثم الربا.. إن هذا الأمر يحقق على الأقل ثلاث فوائد خطيرة:

1- هذا الكلام يمكن أن يقوله ملايين الواعظين.. وليس عددا محدودا من خبراء الاقتصاد المتخصصين

2- هذا الكلام سيتأثر به مئات الملايين من البسطاء وعموم الناس.. وليس عددا محدودا من الشباب المثقفين النخبويين

3- هذا الكلام يتحول عند المتأثرين به إلى دين لا إلى مجرد اختيار فكري يمكن التراجع عنه والتحول إلى غيره.. فالمتأثرون به لا يسهل شراؤهم بالرغبة والإغراء، كما لا يسهل إجبارهم بالتهديد والوعيد)

وبهذا نصل إلى نتيجة واضحة تقول: إن كسر نظام احتكار القوة في السلطة، ذلك الذي تأسست عليه الدولة الحديثة، وكسر نظام الهيمنة الذي يفرضه النظام العالمي.. ليس أنسب له ولا أقدر عليه من الإسلام والمسلمين.

الإسلام يتأسس على فكرة التوحيد التي تجعل مرجعية التشريع لله.. وهذا افتراق خطير في مسألة الحلال والحرام والصواب والخطأ والحق والباطل، ومصدر المعرفة… إلخ!

وللإسلام نظام عظيم يكسر كل احتكار السلطة إن في العبادات أو في المعاملات أو في الأخلاق.. (وهذا أمر كتبت فيه كثيرا على المدونة وفي اليوتيوب، لمن أراد التوسع).. بل وضع لذلك بعض الأسس العظيمة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولهذا يسع المسلمين حقا أن يؤسسوا في كل مكان نموذجا مستقلا وبسهولة.. بداية من التعليم الإسلامي المستقل (الكتاتيب والمدارس الشرعية) وحتى التقاضي إلى الشريعة (ولو في مجالس عرفية).. وبعضها يحتاج مجهودا قليلا.. مثل إصدار عملة حقيقية تستند إلى الذهب أو الفضة.

طال مني الكلام جدا، وقد علم الله أني أردته مختصرا، ولو نشطتُ فيما بعد، فسأضع بعض الروابط التي فيها مزيد توسع.

واسمع مني فإن الذي أقوله لك: خلاصة عمر وجهد، وإن كان جهد المقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق