“إعصار ميلتون” ومدَى وعْينا بالسنن
لماذا الإصرارُ على الخلط بين العدوّ والصديق؟ بين من يستحقّ اللعنة ومن نرجو له الهداية والرحمة، بين من تجب مجالدتُه بالَّتي هي أقْوَى ومن تجب مجادلتُه بالَّتي هي أهدى، بين الأنظمة المحاربة والشعوب المسالمة، ولماذا إلى يومنا هذا لا نميز -على الرغم من تكرّر النوازل- بين كوارث تحلّ بالناس على سبيل الابتلاء العام؛ فلا تفرق بين مسلم وكافر ولا تميز بين عادل وجائر، وبين كوارث من نوع آخر تنزل على وجه العقوبة والأخذ الإلهيّ للظالمين المجرمين؟ وأين ذهب الفقه لكتاب الله إذا كنّا نسمع العالم من فوق المنبر يطلق من فُوَّهَةِ فَمِهِ القذائفَ صوْبَ شعب فلوريدا؛ متشفّيًا في الكافرين الذين يحاربون غزّة وفلسطين؟ وكيف السبيل اتجاه التلبيس الذي يمارسه هذا وأمثالُه، وهم يسوقون الآيات في غير ما سيقت له وينزلونها على غير ما نزلت عليه؟ ألا إنّ الجهل ظلمات مدلهمّة!
لا تتناقَضْ فليس في الإسلام تناقُض
ماذا لو قال لك قائل من هؤلاء الذين وقعوا في مرمى سهامك: إذا كان الإعصار الذي ضرب فلوريدا عقابًا إلهيًّا لقوم كافرين؛ فما قولك في الزلزال الذي ضرب تركيا منذ أقلّ من عامين -وهي بلد مسلم- فخلّف دمارًا هائلا وقتلى بالآلاف وأزمة اقتصادية تكاد تعصف بأفضل حكومة لتركيا منذ قرن؟ وماذا تقول في التسونامي -الأكثر هَوْلًا- الذي كانت أغلب ضحاياه من المسلمين؟
ها أنت قد ارتبكْتَ وتَلَعْثمتَ وتصبَّبْتَ عرَقًا، فقبل أن تفيق من هذه الغيبوبة المؤقتة لتمارسَ صياحك المزعج خذْ هذه: ها هي صورة الطلاب الذين ضحوا بمستقبلهم واعتصموا بساحات الجامعات مناصَرَةً لغزّة، أليس فيهم من فقد تحت هذا الإعصار أخًا أو أبًا أو أمًّا؟ هل يمكنك أن تجد لنا في جعبتك المليئة بالمتناقضات ما نؤلف به بين الموقفين ولو بـ”الفهلوة”؟ إنّ الإسلام ليس محلًّا للتناقضات؛ فاتسق مع الإسلام في خطابك لتسلم من التناقضات، وافهم خطاب الخالق ليستقيم خطابك للخلق.
اتجاه القوانين لا خرص ولا تخمين
لا تقع الكوارث دائمًا على قانون العقوبة، فقد تكون كذلك، مثلما وقع للأمم التي كذَّبت المرسلين: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا}، وقد تأتي على سنَّة التذكير، مثلما وقع للأمم المكذبة قبل أخذ الله لها: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، وقد تكون لمجرد الابتلاء والامتحان، الذي يقع بالخير والشرّ، ويشمل المؤمنين والكافرين ويعمّ الصالحين والطالحين، وتتنوع أغراضُه وحِكَمُه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
فإذا أتينا إلى سنّة أخذ الكافرين وجدناها تتخذ في كل مرحلة من تاريخ البشرية لونًا مختلفًا، فهي في الأصل ثابتة ولكنّها في الطريقة متغيرة، وأخذ الله للأمم المحاربة لله ورسوله سيكون بجهاد الأمة الإسلامية؛ لذلك وجدنا سورة القمر -بعدما قصَّت علينا بإيجاز مَصارِعَ الغابرين- انتهت إلى قريش؛ فأشارت إلى الآلية الجديدة التي سوف تتحقق بها سنة الله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، ثمَّ جاءت “الأنفال” بعدما تحققت النبوءة القرآنية في “بدر”؛ لتعقب بما يؤكد الظاهرة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}، فما وقع لهؤلاء في بدر جاء على السنة ذاتها التي وقع بها العذاب لأولئك المكذبين الغابرين، غير أنَّ الأسلوب اختلف، إنّه الناموس.
الشعوب مادّة الدعوة فلا تعادِها
ثمّ إنَّ صراعنا ليس مع الشعوب، وإنما مع الأنظمة وجيوشها وما وراءها من رأس مال مهيمن، تلك القوى التي تمارس الفتنة على أرض الله، وتأبى أن يكون الدين لله وأن تكون السيادة لمنهج الله؛ لذلك وضع القرآن للجهاد غاية محدَّدة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}؛ أمّا الشعوب فهي -من جهة التكييف الذي تنبني عليه الأحكام الدنيوية- كافرة، وأمَّا من جهة موقفها ومصيرها في الآخرة فالحكم على أعيانها موكول إلى خالقها سبحانه وتعالى؛ ويبقى أمر آخر لا علاقة له بالأحكام الدنيوية ولا بالمصير في الآخرة، وهو موقفنا منهم من حيث الخطاب والتعامل، فهذا شيء مختلف تمامًا؛ لذلك فرقت الآيات تفريقًا حاسمًا بينهم وبين من يستحقون المعاداة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
وبدلًا من الاسترسال في الشماتة بشعوب لم نقدم لها معروفًا؛ إذْ لم نُعَرّفْها بالإسلام، ينبغي لنا أن نتعلم من طريقتهم في التعاطي مع الكارثة؛ كيف أداروا الأزمة بأسلوب علميّ؟ وكيف تضامنوا وتكافلوا؟ وقبل ذلك كيف تعايش هؤلاء مع الطبيعة وقوانينها، وكيف تعاملوا معها بروح المغالبة والمواثبة؟ فهذه الروح التي استلهموها من عقيدة باطلة، لم نستطع نحن أن نستلهمها من عقيدتنا الباعثة، فإذا كان الفكر الحداثيّ القائم أصلًا على المنازعة لسلطان الله وسيادته قد أعطاهم هذه الروح؛ فإنَّ القرآن الكريم يُوَلّد من صلب العبودية لله الواحد القهار طاقةً دافعةً للمغالبة والمواثبة، مغالبة التحديات ومواثبة الصعاب والعقبات؛ من أجل العمارة التي هي في حقيقتها جزء من العبادة، هذه الروح تجدها طافية في هذه الآيات الباعثة: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها}، {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، {إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}، وغيرها من الآيات التي تبعث فينا روح التحدي الواثق؛ فأولى أن ننشغل بالبناء عن الهدم.
النّجْم لا يمارس الرّجْم
لا يليق الفرح بمصائب الخلق، لا يليق بأمّة أخرجت للناس، لا يليق بأمّة هادية مهدية نالت الخيرية ومُنحت الوسطية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ فلْنكُنْ على المستوى اللائق بدين الإسلام، ولْنَتَرَفَّعْ عن اللجاج وحُطام الكلام، والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق