الاثنين، 17 يوليو 2023

قراءة في مذكرات يهودي عربي

 قراءة في مذكرات يهودي عربي


عزام التميمي

في كتاب مذكراته الذي صدر مؤخراً تحت عنوان "عوالم ثلاثة ... مذكرات يهودي عربي" يقص علينا البروفيسور آفي شلايم حكاية عائلته التي تنحدر من أصول يهودية تمتد إلى عصر السبي البابلي قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام، كما يسرد علينا حكاية يهود العالم العربي مع الصهيونية، التي نشأت أصلاً في أوروبا كرد فعل على معاداة السامية، ثم تمكنت من إقامة دولة "يهودية" في فلسطين، مخلفة نكبات وكوارث إنسانية لم يكن الفلسطينيون ضحاياها الوحيدين.

يقصد آفي شلايم بالعالم الأول مسقط رأسه العراق، الذي كان نموذجاً للتعايش والتكامل بين المسلمين ومختلف الطوائف الأخرى، بما في ذلك اليهود على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية. ثم وجه لهذا التعايش ضربة قاضية قيام الكيان الصهيوني في 1948، الذي ما لبث أن تلاه خروج جماعي ليهود العراق باتجاه الدولة الصهيونية الوليدة في فلسطين في 1950/1951.

ولد آفي شلايم في بغداد في عام 1945 لعائلة يهودية ثرية، تعيش حياة رغيدة، مصدر رزقها التجارة وتُحسب على علية القوم في البلاد. سماه والداه أبراهام، ودوّن اسمه في شهادة الميلاد العراقية الرسمية إبراهيم، وكان يُنادى اختصاراً آبي. لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره عندما غادر مع والدته وشقيقتيه وبعض من أفراد العائلة الآخرين إلى فلسطين، ولذلك فإن الصورة التي يرسمها لقرائه عن العراق ما قبل الهجرة، يرجع الفضل فيها لما كانت تقصه عليه والدته من حكايات عن الأيام الجميلة في العراق، والتي ظلت تذكرها بحسرة وألم، ولم تتوقف عن الحنين إليها حتى وفاتها قبل بضع سنين. فالعراق، كما ينقل عن والدته وعن أقرانها، كان بالنسبة لهم جنة الله في أرضه مقارنة بجحيم الكيان الصهيوني الذي انتهوا إليه رغماً عنهم.

يذكر آفي أن والدته كانت دوماً تذكر بخير الجيران والأصدقاء المسلمين في بغداد، فسألها ذات مرة: "ألم يكن لدينا أصدقاء صهاينة". فنظرت إليه نظرة استنكار، وقالت: "الصهاينة أشكناز، لا علاقة لنا بهم".
وأما العالم الثاني فهو فلسطين التي أقام فيها الصهاينة دولتهم، واحتاجوا إلى جلب أكبر عدد ممكن من يهود العالم إليها، ومنهم يهود العالم العربي الذين جيء بمعظمهم عبر مزيج من حملات الترهيب والترغيب الصهيونية والإجراءات التي اتخذتها السلطات الحاكمة في بلاد العرب آنذاك لتسهيل خروجهم إما تواطؤاً وإما عداوة.

الجديد في مذكرات آفي شلايم تأكيده على أنه تمكن أخيراً من العثور على دليل صلب يثبت ضلوع الحركة الصهيونية في التفجيرات التي وقعت في بغداد في الفترة من 1950 إلى 1951 بهدف تخويف اليهود وحملهم على التسجيل لمغادرة البلاد


كانت الدولة الصهيونية الوليدة بحاجة ماسة إلى شعب يعمر الأرض التي أخليت من معظم سكانها الأصليين خلال الشهور التي سبقت الإعلان عن قيامها وأثناء الشهور القليلة التي تلت ذلك. في هذا العالم الثاني شعر يهود العراق الوافدون حديثاً، مثلهم في ذلك مثل يهود اليمن وشمال أفريقيا والمغرب العربي، بغربة شديدة، فأصحاب المشروع الذي أقام الدولة "اليهودية" ليسوا مثلهم في شيء، إنهم أشكناز، وهم يهود جاءوا من أوروبا يحملون فكرها وثقافتها وتحيزاتها. كان هؤلاء الأشكناز يزدرون كل ما له صلة بالعروبة أو بالإسلام، بما في ذلك السفرديم، أي اليهود الشرقيين، أو اليهود العرب.

بمجرد وصولهم إلى فلسطين، كان عدد كبير من اليهود العرب، تبدلت أسماؤهم بحيث تصبح أقرب إلى العبرانية منها إلى العربية، فأصبح أبراهام أفراهام، وينادى آفي بدلاً من آبي.

يقر آفي بأن عائلته كانت أوفر حظاً وأحسن حالاً في رحلة هجرتها مقارنة بكثير من اليهود القادمين من بلاد العرب، وذلك أن والدته كانت تحمل جواز سفر بريطانيًا، فلم تمر هي وأولادها بمراحل العبور المهينة التي كان يتعرض لها اليهود الآخرون، مثل الإقامة بعد الوصول في مخيمات عبور مؤقتة مكونة من الخيام أو العشش، والرش بمادة الدي دي تي عند الوصول، اعتقاداً من الأشكناز بأن هؤلاء السفرديم يأتون من مجتمعات متخلفة تنتشر فيها الأمراض والأوبئة.

وأما العالم الثالث فهو بريطانيا التي أرسل للدراسة فيها آفي وهو في سن السادسة عشرة تقريباً، وحصل فيها على تعليمه الثانوي ثم الجامعي بكل مستوياته. وفيها تطورت مواقفه وآراؤه وتبدلت قناعاته تجاه القضية الفلسطينية من شاب ليكودي داعم لليمين في الكيان الصهيوني، إلى داعية سلام يؤمن بحل الدولتين، وأخيراً إلى ناقد للصهيونية، يعتبرها مشروعاً استعمارياً استيطانياً عنصرياً، ونابذ لحل الدولتين لصالح حل الدولة الديمقراطية الواحدة التي من المفروض أن ينعم جميع مواطنيها بحقوق متساوية.

الجديد في مذكرات آفي شلايم تأكيده على أنه تمكن أخيراً من العثور على دليل صلب يثبت ضلوع الحركة الصهيونية في التفجيرات التي وقعت في بغداد في الفترة من 1950 إلى 1951 بهدف تخويف اليهود وحملهم على التسجيل لمغادرة البلاد بعد أن سنت الحكومة العراقية قانوناً يسمح لليهود بالهجرة مقابل التخلي عن جنسيتهم العراقية وعن كل ما يعود إليهم من ممتلكات داخل العراق. كان آفي يسمع من أهله، وعلى مدى زمن طويل، اتهامات للموساد بالمسؤولية عن تلك التفجيرات، ولكنه لم يجد في نفسه الاستعداد لتبني تلك الروايات لأنه لا يؤمن بنظرية المؤامرة، ولأنه لم يكن يجد فيما تيسر له من معلومات دليلاً قطعياً على ضلوع الصهيونية في تلك التفجيرات.

فتحت أمامه نافذة تطل على الدليل المنشود عندما كان ذات مرة يبحث في أرشيف الدولة الإسرائيلية عن معلومات ذات علاقة بدراسات يجريها لأحد كتبه. حيث عثر على ملفين عنوانهما "يهود العراق 1950" و"يهود العراق 1951". إلا أن الملفين كانا ما زالا محظورين على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً عليهما، وسبب الحظر كما قيل له تضمنهما لوثائق تعود إلى الموساد (المخابرات الإسرائيلية). تلك كانت البداية، حيث قاده فضوله إلى البحث في أماكن أخرى حتى وصل إلى شخص كان ضمن فريق الموساد الذي كان ينشط سراً داخل العراق. ومنه وصل إلى معلومات تفصيلية حول هويات الأفراد المسؤولين بشكل مباشر، لم يلبث بعيداً حتى أكدها له ملف أمني في أرشيف الشرطة العراقية، يتضمن تفاصيل التحقيقات التي أجرتها الشرطة حينذاك.

بل اكتشف آفي شلايم أن ضابط الموساد الذي كان يدير شبكة التخريب في العراق هو نفسه الذي كان يدير شبكة ما بات يعرف بفضيحة لافون في مصر، عام 1954، حيث قضت خطة الموساد بأن تقوم مجموعة من الشباب الإسرائيلي المدرب بتخريب بعض المؤسسات المحلية والمنشآت الأمريكية الموجودة في مصر بهدف زعزعة الأمن المصري وتوتير الأوضاع بين مصر والولايات المتحدة.

وفي هذا السياق يشير آفي في مذكراته إلى استخدام جهاز الموساد لليهود العرب ضمن شبكات تجسس زرعت في أكثر من بلد عربي، مستفيداً من تحدثهم بالعربية وإحاطتهم بأنماط الحياة والثقافة في المجتمعات العربية. ومن الحكايات المثيرة التي أوردها تلك التي تخص شخصاً من أفراد عائلته ظهرت عليه أمارات النبوغ والتفوق بعد وصوله من العراق إلى فلسطين المحتلة، فاستدعاه جهاز الموساد وعرض عليه التعاون معهم، محذراً إياه من أنه لو رفض التعاون فإن طريقه نحو النجاح في الحياة المدنية سوف يُسد.

لفق الموساد لهذا الشاب هوية شخص عراقي مسلم، وأرسله إلى مصر ليلتحق بجامعة الأزهر حيث درس الشريعة الإسلامية، وتمكن طوال فترة مكوثه في مصر من بناء علاقات مع عدد من الطيارين والعسكريين المصريين، كانت المعلومات التي جمعها منهم حيوية في تمكين الإسرائيليين من توجيه ضربة قاصمة شلت سلاح الجو المصري في الساعات الأولى من حرب 1967. بل ويحكي آفي شلايم كيف حاول الموساد تجنيد والدته، فرفضت، ولما حاول ضابط المخابرات التحرش بها ركلته، فوقع على الأرض. أفلتت والدته وتمكنت من الفرار، والفضل في ذلك يعود إلى أن إحدى ساقي الضابط الذي تحرش بها كانت صناعية.

انتهيت من قراءة آخر فصل في الكتاب وأنا في طريقي للقاء المؤرخ آفي شلايم في جامعة أكسفورد، حيث سجلت معه لقناة الحوار لقاء حول مذكراته. قلت له إنني وأنا أقرأ الكتاب كان يخيل إلي أنني أتابع أحداث فيلم سينمائي، وأنني أعتقد بحق أن روايته جديرة بأن تحول إلى دراما على شكل فيلم أو مسلسل، يحكي قصة يهود العراق، انطلاقاً من تجربة عائلته ومروراً بالمحطات الرئيسية في حياته منذ طفولته في بغداد ثم في فلسطين، في فترة الشباب التي شهدت خدمته في جيش الاحتلال، ثم دراسته في بريطانيا إلى أن برز كواحد من مجموعة من أهم المؤرخين المعاصرين اليهود المتخصصين في تاريخ القضية الفلسطينية، فيما يُعرف بالمؤرخين الجدد، ومن بينهم بيني موريس وإيلان بابيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق