أن تصبح إسرائيل تاريخًا
هل تصبح إسرائيل تاريخًا؟ ليست لديَّ إجابة عن السؤال، لكن لديَّ ما أقوله عن مسوغات طرحه، بعدما دخلت الحرب على غزة شهرها الثامن، وتعددت أصداؤها في أنحاء العالم المختلفة، وأحدثها ما جرى في 58 جامعة ومعهدًا علميًا في الولايات المتحدة. وهي المفاجأة التي لم تخطر على البال في ظل التوأمة التاريخية بين واشنطن وتل أبيب. ولم يكن هناك من تفسير لتلك المفاجأة سوى أنها دليل على قوة وعمق الزلزال الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ تجاوزت أصداؤه وهزاته الشرق الأوسط وأدخلتنا في عالم جديد لم تتبلور بعد كل قسماته، وإن لاحت في الأفق بعض مقدماته.
سنتوقف لحظة أمام مشهد التظاهرات الجامعية الأميركية، الذي أزعم أنه يساعدنا على ملاحظة خلفية السؤال الذي طرحته للتوّ، ذلك أنّها حدثت في أحد معاقل النفوذ الأميركي التي تمثل الشريك الرئيسي في حملة إبادة الفلسطينيين.
وأهمية تلك التظاهرات تكمن في أنها أعادت إلى الأذهان الأدوات التي لجأ إليها نشطاء الجامعات الأميركية منذ 1968 إزاء حرب فيتنام، وكذلك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ذلك أنهم لم يعارضوا فقط أهوال الحرب وفظائعها ولكنهم ضغطوا لسحب الاستثمارات من جنوب أفريقيا التي حظيت بدعم الغرب للأقليات البيضاء لنظامها العنصري والاستعماري، والتي ساهمت – ضمن عوامل أخرى- في عزلته واتساع الضغوط السياسية لمقاطعته الدولية، ومن ثم سقوطه بعد ذلك بسنوات.
وهذا هو الحاصل الآن في الحراك الطلابي بالولايات المتحدة الذي انتقلت أصداؤه إلى أرجاء أوروبا، وهو ما يعني أنّ أحداث الحرب حين فضحت الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام العالم الخارجي، فإنها خسرت الرأي العام الغربي، الذي يعدّ رصيدًا إستراتيجيًا لها.
وذلك يعدّ أحد تفسيرات الرد الهستيري الذي أقدمت عليه في غزة، وإدراكها لخسرانها قضيتَها، فإن أنصار إسرائيل في أميركا لجَؤُوا إلى إجراءات متطرفة لمواجهة منتقديها ومعارضيها، مثل عزل رؤساء الجامعات، وتهديد الطلاب في مستقبلهم التعليمي واحتمالات توظيفهم، وتأييد قمع الشرطة لهم، الأمر الذي ضاعف من غضب واستفزاز الحركة الطلابية. وقد غطى ذلك على الدعايات الإسرائيلية التي حاولت تشويه التظاهرات بالادعاء بأنها معادية للسامية، أو مموّلة من حماس وحزب الله، والزعم بأنّ الفلسطينيين مخرّبون وإرهابيون.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، لأن خسران الرأي العام الغربي استصحب تناميًا لدور اليهود الليبراليين الذين ظهرت لافتاتهم أثناء المظاهرات الجامعية رافعة شعار: «يهود مع فلسطين». وأتاحت هذه الأحداث فرصة لارتفاع بعض الأصوات الرافضة للصهيونية بينهم، والتي كانت ملتزمة الصمتَ سنواتٍ طويلةً. عبّرت عن ذلك الكاتبة الكندية الشهيرة نعومي كلاين في مقال لها بالغارديان (24/4) بعنوان: «نحن بحاجة إلى هجرة الصهيونية»، كتبت ما نصه: «نحن لا نحتاج ولا نريد صنم الصهيونية الكاذب، لكننا نريد التحرر من المشروع الذي يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا».
******
إن زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول فضح بشاعة وجه إسرائيل الذي لم يكن معلومًا للكافة منذ احتلالها فلسطين في 1948، كما أنه أسقط خرافات عدة جرى الترويج لها منذ ذلك الحين، أبرزها ما تعلق بجيشها «الذي لا يقهر»، أو ديمقراطيتها التي أخفت بؤس العنصرية في النظام الذي تفرضه على الفلسطينيين، لكنّ هناك أوجهًا أخرى لها لم تلقَ ما تستحقّه من اهتمام.
من ذلك بعض ارتدادات الحرب التي لا تزال تتفاعل داخل إسرائيل، منها ما برز بعد الهزيمة العسكرية من استقالات غير مألوفة في رئاسة جهاز الاستخبارات ورئاسة أركان الجيش وقادة الفرق. لكنني ألفت النظر إلى أمرين مسكوت عنهما، هما تنامي دور الصهيونية الدينية التي أصبحت قوة مؤثرة في القرار السياسي وممثلة في الحكومة والكنيست. والأمر الثاني يتمثل في التراجع الموجع في الاقتصاد الذي بات يهدّد مستقبل التنمية في دولة الاحتلال.
فالصهيونية الدينية بأطيافها المختلفة التي تحكم إسرائيل منذ 1977 تعتبر أنه لا وجود أصلًا لشعب فلسطيني، ومن ثم ترفض إقامة دولة فلسطينية لأسباب عقيدية، وتزعم أن شعب إسرائيل وحده صاحب «الحق الحصري» في الأرض. ومن ثم لا يجوز التنازل عن أجزاء منها. وذلك يعني أنه من الضروري العودة إلى احتلال غزة ونشر المستوطنات في أرجاء القطاع. وفي الوقت ذاته لا مكان لموضوع حل الدولتين الذي يعتبرونه من قبيل العبث السياسي والإعلامي، بينما يتحركون بهمّة على الأرض للحيلولة دون التفكير فيه من الناحية العمليّة.
ومثل هذه المواقف التي كان ينظر إليها باعتبارها راديكالية أو متطرّفة، أصبحت تتغلغل في أوساط التيار الرئيسي في المجتمع، ولم تعد هامشية أو محدودة، كما ذكرت إيناس إلياس في صحيفة «يسرائيل هيوم» 31 يناير/كانون الثاني الماضي، ونتيجة لذلك أصبح طلاب المدارس الدينية يمثلون مشكلة حادّة داخل إسرائيل.
فطلاب المدارس الدينية (60 ألفًا) يمثلون مشكلة داخل إسرائيل؛ لأنهم معفَون من التجنيد ويتقاضون راتبًا مقابل تفرغهم للدراسة والعبادة والدعاء لجيش الاحتلال بالنصر. لكن القوى المدنية تستنكر إعفاءهم من التجنيد وتكلف الجيش وحده بالقتال مع مكافأة الحريديين لتفرّغهم للدعاء. ولحاخامهم الأكبر يتسحاق يوسف تصريحاتٌ هدد فيها بسفر جماعي خارج البلاد في حالة إجبارهم على الالتحاق بالجيش، خصوصًا أنهم يمثلون قوة تصويتية وازنة تعتمد عليها أحزاب اليمين في انتخابات الكنيست.
******
أما أزمة الاقتصاد فهي أكبر. وهو ما عبّرت عنه دراسة نشرت في مجلة فورين بوليسي (في 30 يناير/كانون الثاني الماضي) بعنوان: «نهاية الازدهار في إسرائيل». وصاحبها هو ديفيد روزنبرغ المحرر الاقتصادي لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية. إذ ذكر أن الإسرائيليين كانوا قد اقتنعوا قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بأنهم تجاوزوا فكرة أسلافهم القائلة؛ بأن حربهم دائمة، ذلك أنهم اطمأنّوا إلى استقرار أوضاعهم بعدما تمّ تقليص الصراع، بحيث استقرت أوضاع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي دون منحهم دولة، خصوصًا بعدما تمّ التطبيع مع بعض دول الخليج، ودخلت إسرائيل في شراكات اقتصادية مع العديد من دول الإقليم والدول المجاورة.
وهو ما منحهم شعورًا بالأمان والثقة أدى إلى خفض الإنفاق الدفاعي من 15.6 % من الإنتاج المحلي الإجمالي في 1991 عشية اتفاق أوسلوا إلى 4.5 % عام 2022. وزادت نسبة الشباب الذين حصلوا على إعفاء من الجندية إلى أقل من 50 % عام 2021. وذلك تغير كبير في المواقف الإسرائيلية؛ بسبب اعتماد الجيش الإسرائيلي على التكنولوجيا والقوات الجوية بدلًا من الدبابات والمشاة للردع.
وفي رأي الباحث أن انخفاض العبء العسكري، وازدياد الشعور بالأمن والاستقرار أعطيا دفعة قوية للنموّ الاقتصادي أكبر كثيرًا من الزيادة في الإنفاق العسكري، إلا أن ذلك اختلف تمامًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
فتغطية تكاليف الحرب رفعت الإنفاق الدفاعي بنسبة تقترب من 80 % هذا العام، وهذه الزيادة سوف تستمرّ؛ لأن 7 أكتوبر/تشرين الأول علّم الإسرائيليين أن التكنولوجيا لها حدودها، وأن لا شيء يمكن أن يحل محل القوات البرية.
ولذلك لا مفرَّ من التوسع في زيادة التصنيع العسكري وتمديد مدة التجنيد وإنفاق المزيد من الأموال على مخزونات السلاح. وسوف يتردّد صدى هذه التغيرات حتمًا على الاقتصاد مما يؤثر على النمو الاقتصادي، وهو ما حدث في وقت مبكر من الحرب، لأن وكالات التصنيف الائتماني ستنادرد آند بورز وموديز وفيتش، خفضت توقعاتها لإسرائيل إلى سلبية.
******
بقيت عندي ملاحظتان؛ إحداهما أن الهجمة الوحشية التي تشنّها إسرائيل التي بلغت حدّ إقدامها على الإبادة الجماعية، يحركها شعورها الدفين بأنها مستعمرة استيطانية موشكة على النهاية. يؤيد ذلك بعض المؤرّخين النقديين – مثل إيلان بابيه وجوزيف مسعد- الذين يذكروننا بالسنوات الأخيرة لجميع مستعمرات المستوطنين التي تميّزت بوحشية طويلة الأمد من قبل المستعمرين. ذلك أنه كلما زادت مقاومة السكان الأصليين المستعمرين، خاصة خلال حروب التحرر الوطني، أصبح المستعمر أكثر وحشية، كما رأينا في جنوب أفريقيا، وناميبيا والجزائر.
الملاحظة الثانية؛ أستلهمها من فكرة أفول الدول العظمى والحضارات التي باتت من الموضوعات ذات الاهتمام من جانب الباحثين والمؤرّخين. ومن أشهر هؤلاء في زماننا المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي اليهودي إيمانويل توب الذي تنبأ بانهيار الاتحاد السوفياتي في مؤلفه الذي صدر عام 1976 بعنوان: «السقوط الأخير». وأتبعه بكتاب: «ما بعد الإمبراطورية» في 2021 الذي قدّم فيه حُججه على أفول أميركا كقوة عالمية مهيمنة. وبعد ذلك واصل طرحه في كتابه: «هزيمة الغرب» الذي عالج فيه حرب أوكرانيا وتداعياتها الأوروبية، وأسباب الهزيمة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي توقعها.
وحين نستعرض حلقات الضعف ومسلسل الهزائم التي منيت بها إسرائيل، فإن ذلك يسوغ لنا أن نستعيد فكرة الأفول التي ترشّح المشروع الصهيوني بجدارة لكي ينضمّ إلى صفحات التاريخ. إذ رغم أن إسرائيل لا هي إمبراطورية أو حضارة أو دولة عظمى، وإنما هي نبت شيطاني زرعه الغرب وتبنّته الولايات المتحدة بالإكراه في قلب العالم العربي، بعدما أصبح الآن في أضعف حالاته منذ نشأته.
وإذا رأينا البدايات بأعيننا في غزة خلال الأشهر الماضية، فقد صار من حقنا أن نتساءل عما إذا كان الوقت قد حان الآن لإعادة النظر في تصنيفها لكي تخرج من عداد دول هذا الزمان لتدرج محملة بسجلّها وخرافاتها ضمن صفحات التاريخ الغابرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق