عن عوار الإعلام الفلسطيني الرسمي
جعفر عباس
منذ فجر منظمة التحرير الفلسطينية، ككيان يقود النضال الفلسطيني سلما وحربا، على عهد رئيسها أحمد الشقيري، ثم ياسر عرفات، وصولا إلى محمود عباس، والإعلام الرسمي الفلسطيني في حال بؤس شديد، ذلك أنه ظل مكرسا لتمجيد كبار الأبوات والأغوات بلغة "بالدم بالروح نفديك يا......"، وصب اللعنات على معارضيهم من الفلسطينيين، دون كثير اكتراث بتوصيل الرسالة/ القضية، حتى إلى الرأي العام العربي الذي يناصر الحق الفلسطيني بالسليقة، بينما معظم العرب الذين يناصرون النضال الفلسطين،ي لا تتعدى معلوماتهم عن القضية "طراطيش كلام" عن وعد بلفور وحرب 1948 ومذبحة دير ياسين.
ومن ثم لا يثير الدهشة والعجب أنه على كثرة الحبر المراق لشرح القضية باللغة العربية، لم يرق كتاب إلى مرقى كتاب "البندقية وغصن الزيتون"، للصحفي البريطاني ديفيد هيرست، الذي صدر عام 1977، والذي صدرت منه ثلاث طبعات بلغته الأصلية (الإنجليزية) حتى الآن، وكان حريا بمنظمة التحرير أن تتولى إصدار النسخة العربية منه، ولكنها لم تفعل لأن الكتاب خلا من الهتاف المرغوب فيه، وحوى بعض النقد الموضوعي لقيادات فلسطينية لأسمائها شَنَّة ورَنَّة، وأجمعت كبريات الصحف في أوروبا وأمريكا على أنه أحد أهم المراجع عن القضية الفلسطينية. وأنه يثبت بالوقائع والمستندات أن إسرائيل كيان مفبرك، ويعدد جرائم ذلك البيان بالأدلة القطعية (صدرت ترجمات عربية عدة للكتاب بأسلوب القرصنة، أي دون إذن من المؤلف).
والشاهد، هو أن مختلف التنظيمات الفلسطينية أهملت أمر "العلاقات العامة"، التي يُعرِّفها قاموس أوكسفورد على أنها الفن القائم على أسس علمية، لبحث أنسب طرق التعامل الناجحة المتبادلة بين كل منظمة وجمهورها الداخلي والخارجي لتحقيق أهدافها، وفيما يلي الكيانات الفلسطينية، فجمهورها الداخلي هم الفلسطينيون والعرب، وجمهورها الخارجي هو حكومات وشعوب مختلف دول العالم.
وما هو حادث اليوم، هو أن الفلسطينيين، وتحديدا أهل غزة منهم، ظلوا يتعرضون لإبادة منهجية لقرابة عام كامل، ولولا أن قنوات شبكة الجزيرة الإعلامية موجودة حيث تسقط القذائف ويسقط الشهداء في غزة، لما عرف العالم الخارجي بأمر جرائم إسرائيل البشعة هناك، لأن كبريات قنوات التلفزة الغربية، تقوم بدور شاهد الزور؛ لأنها تقف عند النقطة التي تنطلق منها القذائف، أي تعمل رديفا للجيش الإسرائيلي، وصارت من ثم بوقا لأكاذيبه، ولكن وسائط التواصل على الإنترنت والهواتف الذكية فضحت تلك الأكاذيب، فكانت من ثم انتفاضة الغضب في الجامعات الأمريكية والأوروبية، التي تدين جرائم إسرائيل في غزة، وهو حراك للضمير الإنساني، ولا فضل لأداة علاقات عامة فلسطينية فيه.
بموازاة الانتفاضة الطلابية في دول الغرب، هناك قادة رأي ومفكرون أمريكيون ذوو قامات أكاديمية فارعة، كان حريا بالإعلام الفلسطيني الرسمي أن يرصد ما يقولونه ويكتبونه في الوسائط التي تخاطب الرأي العام الغربي، عن حقائق وجذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعن بشاعة ما ظلت إسرائيل تقترفه من جرائم على الأرض طوال الشهور الماضية، لتعيد تدويره بمختلف اللغات الحية لتتسع دائرة إدانة إسرائيل، بمنطق "والفضل ما شهدت به الأعداء"، باعتبار أن أولئك المفكرين مقيمون حيث الحكومات التي تغذي العدوان الإسرائيلي بالمال والسلاح.
تحظى مجلة فورين بوليسي (السياسة الخارجية) باهتمام واحترام الحكومات الأمريكية المتعاقبة، وخلال الشهور الأخيرة، نشرت المجلة مقالات محكمة السبك والحبك لأساتذة كبار في جامعات كبيرة مثل ييل وهارفارد وبرينستون، وعلى رأسهم بروفسور جون ميرشايمر، الذي ظل يردد بالقلم وبالصوت عبر شاشات التلفزة، أن إسرائيل لن تستطيع أن تحقق أهدافها المعلنة من حربها على غزة، وأنها وحليفتها الحكومة الأمريكية ستكونان في خُسْر، وهو ما يوافقه عليه بروفسر ستيفن والت أستاذ كرسي دراسات السياسة الدولية في جامعة هارفارد، الذي كان أول أمريكي قال؛ إن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة في غزة، وأن الحكومة الأمريكية ضالعة في تلك الجرائم، وتتستر على حقيقة أن النظام القائم في إسرائيل عنصري كما نظام الأبارتيد المباد في جنوب أفريقيا.
والشاهد هنا، هو أن هناك اليوم كتابا من كبار رواد الفكر السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا، يدينون الغزو الإسرائيلي لغزة بالصوت الجهور الهادئ، بعيدا عن الهتاف، وحري بكيانات النضال الفلسطيني أن تحتفي بما يصدر عنهم، وتعيد تصديره للعالم الخارجي، ليدرك أن هناك "شهود حق"، في مواجهة شهود الزور في قنوات "سي أن أن" و"بي بي سي" و"فوكس" التلفزيونية، والإصدارات الصحفية الممولة من اللوبي الصهيوني في أمريكا وأوروبا، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، ولكنه بحاجة إلى من يروج له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق