نظرية الطوفان كما صاغها الملثم
وائل قنديل
هذه أطول مدّة غياب لصوتِ الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام وإطلالته المصوّرة على جمهورٍ عريضٍ استبدّ به القلق على المقاومة، بعد مرورِ عامٍ على ملحمةِ صمودٍ أسطوريٍّ بمواجهةِ إجرامِ العدو وتواطؤ الشقيق.
أتذكّر أنّه في الشهر الثالث من العدوان على غزّة، كان ملثّم القسّام قد اختفى صوتًا وصورةً لأسابيع روّج خلالها العدو وكارهو فكرة المقاومة أنّه لن يظهر مرّة أخرى، فخرج عليهم في اليوم العاشر من ديسمبر/ كانون الأوّل من العام الماضي، لتتدفقَ شلالاتٌ من السعادة تغمر كلّ بيتٍ عربي، تعبيراً عن شوقٍ وقلقٍ هائلين، اعتُبِر وقتها أنّه لم يكن شوقاً لنجم جماهيري، بقدر ما هو ظمأ شديد لكلماتٍ تُطمئن الناس على المقاومة وقدرتها على البقاء والصمود واجتراح مزيد من المعجزات القتالية والبطولات الشحيحة في هذه المرحلة القاحلة من تاريخ الأمّة.
يكتسبُ ظهور أبو عبيدة في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى أهميّةً تتجاوز طمأنة الناس على قدرة المقاومة القتالية، وتتخذ بعداً فكريّاً تأسيسيّاً يبدّد كلّ أكاذيب الدعايةِ الصهيونيّة عن الاقتراب من تحقيق حلمها بشرقِ أوسطٍ إسرائيلي، في ظلّ الضربات الأميركيّة الإسرائيليّة للسند الأكبر للمقاومة، حزب الله اللبناني، واغتيال زعيمه الشهيد حسن نصر الله والقيادات العليا، وكذا في ظلّ حالةٍ من الانسحاب الرسمي العربي الكامل من القضيّة ومن الصراع، واكتفائه بالمتابعة، بسعادةٍ بالغةٍ، حركة الثور الصهيوني الهائج في استهدافِ مفاصل المقاومة الرئيسية، وأيضًا تحت وابلٍ من الدعاية الإعلاميّة المكثّفة عن انكسارِ المشروع المقاوم برمّته.
منذ اغتيال نصر الله، والبدء بتكرار سيناريو تدمير غزّة ومحوها من الوجود في ضاحية بيروت الجنوبيّة، نشطت رياح التحليلات السامة عن نهايةِ زمن المقاومة، وبدء العدِّ التنازلي لتحويل مقاومة حزب الله إلى ذكرى، ثم شلّ قدرة إيران العسكرية، وإسكات المقاومة في اليمن والعراق، على نحو صنع سحابة سوداء من الإحباط والشعور بالهزيمة لدى قطاعاتٍ لا يُستهان بها من الجماهير العربيّة المُلتفة حول المقاومة.
في هذه الأجواء الكئيبة ظهر الملثّم أوّل أمس في يوم انطلاق الطوفان لكي يعصف في دقائق معدودات بملايين الساعات من السفسطة والتنظير والتحبيط والتثبيط والتهيئة لإعلان هزيمة المشروع والاستعلاء الأجوف عند الكلام عن المقاومة، ويقدّم السرديّة الحقيقيّة لسيرورة العمليّة التي بادرت إليها الفصائل الفلسطينية، في 7 أكتوبر.
أعاد ناطق القسّام تأكيد المرتكزاتِ الوطنيّة والفكريّة لطوفان الأقصى، الذي قلنا من بداياته إنّ ما جرى لم يكن حالة عراك مفاجئ بين طرفين، ولا مغامرة فلسطينيّة بنت اللحظة فجّرت جنوناً صهيونيّاً، كما لم يكن ردّة فعلٍ غير محسوبة على تصرّفٍ بعينه، كأن يقال إنّها جاءت ردًا على الإهاناتِ الإسرائيليّة للمسجد الأقصى فقط، أو كانت انفعالًا زائدًا ضدّ سفالة اليمين الصهيوني الحاكم، كما من المُعيب والمشين بالطبع أن يتخرّص بعضهم بربطها بمعادلاتٍ إقليميّة أكبر.
طوفان الأقصى، كما فهمناه وكما ذكّر به أبو عبيدة، هو معركة على طريق الحلم الأكبر والهدف الأسمى: معركة التحرير، والكفاح من أجل استعادة الأرض والتخلّص من احتلالٍ هو الأكثر خسّة وبشاعة في التاريخ، وبالتالي من العبث تصوّر أنّ الطوفان هو آخر المعارك، كما يهذي الكيان الصهيوني وهو يتحدّث عن أحلام اليوم التالي لتوقّف الحرب، وأوهام ما بعد القضاء على المقاومة الفلسطينيّة، وما تسمّى ترتيبات تفصيل السلطة الفلسطينية المسيطرة على قطاع غزّة، وفقاً لمقاساتِ الاحتلال وعلى هواه.
كان ضروريّاً أن تتجدّد إضاءة المعركة معرفيًا في توقيتٍ انفضّ فيه كثيرون عنها، وتحوّلوا إلى حالةٍ من نقدِ الخطاب المقاوم، والمحاسبة النظريّة لتيار المقاومة العربيّة، نبشًا في أخطاءٍ سابقة لأطراف منه، أو شماتًة أو تشفيًا، أو ادّعاءً لوصايةٍ فكريّةٍ على المشروع، وكأنّنا بصددِ حالةٍ من خيلاء الكهنوت الثقافي على المُمسكين بالسلاح، تمتدّ إلى اتهامهم وتقريعهم أحيانًا، وكأنّ المعركة تضع أوزارها والمسرح يُعَدّ لإنزال ستار النهاية، بينما الواقع ينطق بأنّنا بصدد مرحلةٍ تشتدّ فيها ضربات المقاومة البطولية، تستعيد بها وهجها الأوّل وجهوزيّتها المبكّرة.
والحال كذلك، ليس مطلوباً، وليس عدلاً، أن يستأذن المحاربون من أجل التحرير قبل أن يذهبوا إلى القتال، كما أنّه لا يليق ولا يستقيم منطقيًا وأخلاقيًا أن يُوصف أيّ إجراءٍ لحركةِ مقاومةٍ وطنيّةٍ ضدّ العدو بأنّه اعتداء، أو شنّ حرب، ذلك أنّه من الطبيعي أنّ كلّ مقاومةٍ في حالةِ حربٍ مشروعة من أجل تحرير أراضيها، هي وحدها التي تقرّر اختيار توقيتاتِ الهجوم والدفاع، من دون أن تجد نفسها متّهمةً بالخروج على إجماعٍ وطني، مُتوهَّم، أو تعريض أمن الوطن السليب المغتصب للخطر، خصوصاً إذا كانت السلطة في هذا الوطن جزءًا من منظومةِ أمن الاحتلال.
تظلّ المقاومة دوماً فعل ابتداء ومفاجأة ومباغتة، لا تخضع أبدًا لتهويماتٍ تنظيريّةٍ، وحساباتٍ مجرّدةٍ عن موازين القوى وفوارق الإمكانات، وما قاله الملثّم تجده في تاريخ كلّ المقاوماتِ الوطنيّةِ التي كافحت ضدّ الاستعمار، بالفعل وبردّة الفعل، وبكلِّ الوسائل والأسلحة، وهنا تأتي تجربة مقاومة الفرنسيين ضدّ الاحتلال النازي، ومقاومة الجزائريين ضدّ الاستعمار الفرنسي، ومقاومات الشعوب العربية ضدّ كلِّ أشكال الاحتلال العسكري، كتاباً مفتوحاً لمن يريد أن يقرأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق