عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (٩)د.عبدالعزيز كامل
سنة الله في المتخالفين المخالفين
ليس هناك أخطر وأعظم ضررا على الدين من الاختلاف والفرقة بين المسلمين ، لأن ذلك يوهن قواهم، ويجرئ عليهم من عداهم وعاداهم ، ولذلك عظم النكير وتكرر التحذير في خطاب الوحي _ كتابا وسنة _ من كل خلاف يؤدي لشق الصفوف واختلاف القلوب واجتلاب الفتن ..
★.. وسنن الله القدرية الكونية لا تحابي المفرطين في سبل الائتلاف، والموغلين في أسباب الفرقةوالاختلاف، لمجرد نزاعات حزبية أو نزغات شخصية، أو عصبيات مذهبية خارجة عن منهاج السنة النبوية ، مهما كانت دعاوى اصحابها بحسن النية.
وقد لا يتصور بعضهم سوء العاقبة وأليم العقاب للمتخالفين المتفرقين في الدين ؛ إلا إذا تدبر ما تنزل به الكتاب المبين، وما نطق به الصادق الأمين ، صلى الله عليه وسلم .
★.. تأمل مثلا هذا التهديد والوعيد الشديد : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ آل عمران/ ١٥٦] .. وذاك العذاب العظيم مصحوب بمآل مهين للمتخالفين، و مقرون بتفخيم وتكريم للمتوافقين على الحق والدين.. { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [ آل عمران/ ١٥٦] ..
وقد نقل المفسرون هنا قول ابن عباس رضي الله عنهما : " تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة "
★.. وذهب الطبري إلى أن اسوداد الوجوه هنا ليس خاصا بالكفار، بل هو أيضا في المختلفين في أصول الدين من المنسوبين للمسلمين ، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لأصحابه : ( أنا فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجالٌ مِنكُم ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فأقُولُ: يا رَبِّ أصْحابِي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ ). أخرجه البخاري/٦٥٧٦
★.. ولأن كثرة الاختلاف عن هوى وتعصب يورث العداوة والبغضاء غالبا؛ فقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حتى في قراءة القرآن، فقال للمتخالفين في بعض وجوه القراءة : ( لَا تَخْتَلِفُوا، فإنَّ مَن كانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا) رواه البخاري/ ٣٤٧٦.
بل بين الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أن اختلاف المسلمين حتى في صفوف الصلاة يورث تقلب القلوب واختلاف الوجوه ، فقال : ( اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا ؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ) أخرجه مسلم/ ٤٣٢
★.. وقد اشتد خوف الصحابة من هذا التذير، ولم بستهينوا به ، وتبين ذلك من رواية الصحابي الجليل، النعمان بن بشير، عندما قال : ( أقبَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على النَّاسِ بوجهِه فقال: أقِيموا صفوفَكم، ثلاثًا، واللهِ لَتُقِيمُنَّ صفوفَكم أو ليُخالِفَنَّ اللهُ بينَ قلوبِكم، قال: فرأَيْتُ الرَّجُلَ يُلزِقُ مَنكِبَه بمَنكِبِ صاحبِه، ورُكبَتَه برُكبَةِ صاحبِه، وكعبَه بكعبِه) أخرجه أبو داود/٦٦٣ وصححه الألباني.
★..وما للصحابة وهم خير جيل ألا يخافوا من هذا النذير، وهم الذين خاطبهم الله تعالى بقوله
{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ..؟ الأنفال/٤٦
..لقد صبروا وثبتوا وامتثلوا قول الله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ } آل عمران/١٠٣
فاجتمعوا ولم يتفرقوا، حتى سادوا وقادوا، وحكى تفاصيل ذلك أهل التاريخ والتفسير والسير، ومنهم الإمام ابن كثير، حيث قال : " قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب" ..
اللهم آمين.
( يتبع بإذن الله)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق