فقه الجهاد ـ تجديد واجتهاد (1)الإسلام ومبدأ استخدام القوة
د. عطية عدلان
هل الإسلام يعتمد القوة سبيلاً لحسم الصراع مع الجاهلية، ولمواجهة قوى الباطل التي تعترض سبيله وتعوق مسيرته؟ هذا سؤال لا بد من طرحه، ولا مفر من الإجابة عليه لَدَى تناول موضوع الجهاد؛ فهو المدخل الذي يطمئن الداخل منه أنَّه أتى البيت من بابه، ولم يقفز عليه من أحد النوافذ أو يلج إليه من بعض الأنفاق، هذا هو السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل أن يطرحه أحد علينا، وأن نجيب عليه بأنفسنا ولا ندع أحداً يجيب عليه بالنيابة عنَّا، ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع الخلق، وأن نتكلم ونحن واقفون على أرضنا، لا على أرض مستعارة؛ فتميد بنا في أي (محطة) لا نتوقعها.
تمهيد
الجهاد هو: (بَذلُ الوُسعِ فِي القِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ مُبَاشَرَةً أَو مُعَاوَنَةً بِمَالٍ أَو رَأيٍ أَو تَكثِيرِ سَوَادٍ أَو غَيرِ ذَلِكَ)[1]، ولئن كان الجهاد أوسعَ مدلولاً من القتال؛ لكون القتال صورة من صور الجهاد في سبيل الله، فإنّه لأسباب عملية صار مصطلح الجهاد إذا أطلق يراد به القتال في سبيل الله.
وأبواب الجهاد في الفقه الإسلاميّ تتسع لتشمل كثيراً من الأحكام المنظمة لهذه الفريضة العظيمة، وكثير منها ليس من المحكمات، وإنما من موارد الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف، وأغلبها يقع في مساحة آثار الحرب الشرعية، كالجزية والخراج، والغنائم والفيء، والأسرى والمعاهدات، وغير ذلك؛ وليست هذه المباحث مستهدفة في هذا هذه الدراسة، وإذا تعرضنا لبعضها فسيكون فقط في سياق خدمة الموضوع الأصليّ الذي هو نفض الغبش الذي علق بهذه الفريضة.
وقد أثيرت حول القدر المحكم في أبواب الاجتهاد شبهات كثيرة، تستدعي الردود المفصلة؛ لذلك سوف نتعرض لها بالردّ، لكن على سبيل الإجمال وبالقدر الذي يكفي لإزالة الغبش وإماطة ركام الشبهات؛ لكون هذه الدراسة تستهدف التأصيل، وبالتأصيل الصحيح ينتفي الغبش، فإن تعرضنا للردود تعرضنا لها تبعاً، فالبحث إذا تمحض للردود أو غلبت عليه شغل الباحث والقارئ عن التأصيل الذي يغني في كثير من الأحيان عن الاشتغال برد الشبهات، إضافة إلى كون هذا المنهج يعكس حالة انهزامية ويضع الحق دائماً في موضع المدافع.
قِدَمُ الصراع بين الحق والباطل
إنَّك إن ألقيت نظرة سريعة في سور القرآن الكريم- مكّيِّه ومدنيِّه- لعادت إليك بحقيقة أولية غاية في البساطة والوضوح والصراحة والثبات، هذه الحقيقة مفادها أنَّ الحقّ يخوض صراعاً أزلياً سرمدياً مع الباطل؛ ومن ثمّ فلابدّ للحق من قوة تحميه، وتهيء الأوضاع لقبوله والتسليم له والعمل بمقتضاه، فإن أبيت إلا أن تنشد المزيد من الاطمئنان؛ فَأَعِدْ قراءة كتاب الله، وقف متأملاً عند قصص الأنبياء مع أقوامهم، ثم عند معالجات القرآن الكريم لمواقف الجاهلية مع الدعوة؛ لتزداد إيماناً وتسليماً بأنَّ الجاهلية في تحرك دائم ضد الإسلام، الذي لا يفتر هو الآخر عن طلبها والسعي في دحضها وإنهاء وجودها.
ولا تنس أن تطيل الوقوف والنظر في أمثال هذه الآيات الفاصلة الحاسمة في دلالتها على هذه الحقيقة الشاخصة: {لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد 25)، {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَولِيَاءَ الشَّيطَانِ إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء 76)، {حَتَّى إِذَا استَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُم قَد كُذِبُوا جَاءَهُم نَصرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأسُنَا عَنِ القَومِ المُجرِمِينَ} (يوسف 110)، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا} (البقرة 217).
{وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة 120)، {وَلَئِن أَتَيتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبلَتَهُم وَمَا بَعضُهُم بِتَابِعٍ قِبلَةَ بَعضٍ} (البقرة 145)، {وَانطَلَقَ المَلَأُ مِنهُم أَنِ امشُوا وَاصبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُم إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ} (ص 6)، {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} (الأنفال 36)، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوحَى إِلَيهِم رَبُّهُم لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسكِنَنَّكُمُ الأَرضَ مِن بَعدِهِم ذَلِكَ لِمَن خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاستَفتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)} (إبراهيم 13-15).
{وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ} (البقرة 251)، {وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج 40) {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة 21)، {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَلِينَ (171) إِنَّهُم لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ (173)} (الصافات 171-173)، {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعلَمُهُم} (الأنفال 60).
حقائق أولية
هذه الحقيقة الأولية البالغة البساطة والوضوح والصراحة والثبات؛ تنبثق منها وتتفرع عنها جملة من الحقائق، تدور في فلكها، وتتسم بسماتها الأربع (البساطة والوضوح والصراحة والثبات)، بدرجات متفاوتة حسب القرب والبعد، والالتصاق والافتراق، دون إخلال باجتماع هذه السمات والتئامها.
أول هذه الحقائق: أنّ القرآن المكيّ، الذي نزل أيام كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى في مكة دعوة خالية من كل أشكال العنف الماديِّ على الكافرين، لم يشتمل مطلقاً على ما يدل على أنّ الإسلام ضدَّ استخدام القوة، أو أنَّه دين لا يعتمد أسلوب فرض الوجود على الأرض بالقوة، وإنما اشتمل فقط على خطاب تكليفيٍّ للمؤمنين بالإعراض والصفح الجميل، وليس في هذا الخطاب نفيٌ لمبدأ القوة، لأنّه لم يأت معللاً بانتفاء المبدأ، وإنما جاء في مواضع عارياً عن هذا التعليل.
مثل قوله تعالى: {فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ} (الحجر 85)، أي: (فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً واعف عنهم)[2]، وفي أخرى جاء معللاً بالوقتية مثل قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنهُم حَتَّى حين} (الصافات 174)، أي: (اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر؛ ولهذا قال بعضهم: غَيَّا ذلك- أي جعل لذلك غاية- إلى يوم بدر عنهم)[3]، والمسلك الصحيح للتعامل مع هذا التنوع هو تفسير الآيات الواردة في هذه القضية في ضوء ما ورد منها معللاً بالتوقيت، فيكون المقصود بالعفو والصفح في قوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} أي: إلى حين استقرار النصر لك[4].
ولأجل هذا قال أغلب المفسرين من السلف بأن آية السيف نَسَخت كل ما سبقها من الآيات التي تتحدث عن الصفح والإعراض، إلا أنَّ المحققين لم يوافقوا المتأخرين من المفسرين في حملهم قول السلف بالنسخ على معنى النسخ في الاصطلاح، وهو رفع الحكم السابق بخطاب لاحق، لأنّ السلف لم يقصدوا بالنسخ ذلك المعنى الاصطلاحي المتأخر، وإنما قصدوا ما هو أعم منه وأشمل، مما تتسع له اللغة ولا يتسع له الاصطلاح، من ذلك أن يشرع الحكم لسبب ثم يزول السبب فيرتفع الحكم لزوال سببه[5]؛ لذلك فإنّ السابقين واللاحقين من السلف والمحققين لم يختلفوا في أنَّ الصفح الجميل لا يعود على مبدأ استخدام القوة بالإبطال أو التعطيل.
ولم يرد قَطُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينافي ذلك في الواقع العمليِّ للدعوة الإسلامية، بل ورد ما يدعمه ويقويه، فها هو يصدر عنه بعض ما يضمره إلى أن يحين وقته، عندما تعرضوا له بالأذى قال: «تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح» فأخذت القومَ كلمتُه، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم عليه ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، ويقول: (انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً)[6].
ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يصدر منه ما يخالف مبدأ استخدام القوة، حتى في الظروف التي يكون فيها مكروباً مستضعفاً، بل لم يضطره لذلك حرصه على تأليف الخلق أو خوفه من تفرق الناس عنه، ومن شواهد ذلك أنّه عرض نفسه في موسم الحج على القبائل، فأتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء»، فقال الرجل: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه عنهم[7].
فلم تشتمل إجابته على ما ينفي ما تبادر إلى فهمهم من أنَّ الإسلام لابد له من دولة وقوة، رغم حرصه على هدايتهم، كما لم ينف ذلك عندما عرض عليه الذين بايعوه عند العقبة هذا العرض: (والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟)، واكتفى بإعلامهم بأنَّ الأمر لم يصدر بعد بذلك، فكان جوابه: «لم نؤمر بذلك»[8].
ولو أنّنا دققنا النظر لاكتشفنا ما هو أبعد من ذلك في دلالته، فهناك آيات مكية كثيرة اشتملت على إشارات واضحة الدلالة على هذا المبدأ، فعلى سبيل المثال؛ سورة العاديات افتتحت بهذا القسم: {وَالعَادِيَاتِ ضَبحاً (1) فَالمُورِيَاتِ قَدحاً (2) فَالمُغِيرَاتِ صُبحاً (3) فَأَثَرنَ بِهِ نَقعاً (4) فَوَسَطنَ بِهِ جَمعاً (5) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} (العاديات 1-6)، فعلامَ أقسم الله تعالى بالخيل التي تعدو فتضبح في عدوها، وتصبح القوم قادحة للشرر، مثيرة للنقع، متوسطة للجمع؟ وكان جواب القسم هكذا: {إنّ الإنسان لربه لكنود}، ومحال ألا تكون هناك علاقة بين القسم والمقسم عليه؛ لأنَّ كلام الله آخذ بعضه برقاب بعض، والعلاقة هي علاقة السبب بالمسبب، فكنود وجحود البشرية وموقفها المتعنت تجاه الحق وأهله يستدعي العاديات ضبحاً المغيرات صبحاً؛ ليس فقط لحماية الحق ودعاة الحق، وإنما لذلك ولأمر آخر لا يقل أهمية عن حماية الحق وأهله، وهو تهيئة النفوس والأوضاع لقبول الحق والتسليم له.
وتأتي الإشارة أكثر وضوحاً في سورة القمر، حيث ذكر الله تعالى فيها قصص الأمم المكذبة للمرسلين، وذكر مصارعهم جميعاً، حتى إذا ما بلغ السياق أهل مكة المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا بالسنَّة الماضية تأخذ لوناً جديداً: {أَكُفَّارُكُم خَيرٌ مِن أُولَئِكُم أَم لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَم يَقُولُونَ نَحنُ جَمِيعٌ مُنتَصِرٌ (44) سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} (القمر 43-45)، فالأخذ- إذاً- هذه المرة سيكون بأيدي المؤمنين وجهادهم، وهذا المعنى لم يتضح للناس بشكل كامل إلا يوم أن التقى الجمعان ببدر ووثب رسول الله صلى الله في درعه صائحاً: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}.
الحقيقة الأولى:
حقيقة خلو الخطاب في مكة من كل ما يخالف مبدأ القوة، هذه الحقيقة لها دلالاتها المتعددة، أول هذه الدلالات أنَّ مبدأ اعتماد القوة لم يكن ردَّ فعل بسبب ملابسات تاريخيَّة، ولم يكن تطوراً في أدوات الصراع اقتضته مرحلة من مراحل الدعوة، وإنما كان منهجاً ثابتاً؛ يدفع بثباته هذا كل ما توسوس به نفوس المنهزمين من المسلمين، الذين يحاولون تبرير فريضة الجهاد- لاسيما جهاد الطلب- بملابسات تاريخية وظروف غير دائمة.
الدلالة الثانية تتمثل في رسوخ المبدأ وثباته؛ إلى حدّ أنّ الحاجة الملجئة بسبب ضغط الجاهلية وبطشها بقوم ليس لديهم منعة؛ لم تفلح في استدعاء خطاب يفتح للجاهلية باب الأمل في أن تتعايش مع الإسلام على أرض واحدة، ناعمةً بسلام تأخذه وتعطيه، وأمان يفرضه طمع كل فريق في البقاء وخوفه من الذهاب والفناء.
الحقيقة الثانية:
أنَّ مبدأ اعتماد القوة في الإسلام مبنيٌّ على أسباب شرعية وواقعية في ذات الأمر، فهو مُبَرَّرٌ شرعاً وواقعاً، فإذا تأملنا- على سبيل المثال- قول الله تعالى: {وَلَو شَاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعدِهِم مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنهُم مَن آمَنَ وَمِنهُم مَن كَفَرَ وَلَو شَاءَ اللَّهُ مَا اقتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة 253)، لتبين لنا واقع يبرر بوضوح تام وصراحة مفرطة اعتماد الإسلام لمبدأ القوة، فلولا أنَّ الناس اختلفوا إلى مؤمنين وكفار ما اقتتلوا؛ فاقتتالهم هذا نتيجة طبيعية لافتراقهم إلى مؤمنين وكفار؛ لأنَّ من طبيعة الجاهلية والإسلام أنهما لا يأتلفان حتى يأتلف النور والظلام، ولا يلتقيان حتى يلتقي الليل والنهار.
ومثل هذا أو قريب منه تجده في افتتاح سورة محمد التي سميت بسورة القتال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعمَالَهُم (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَبِّهِم كَفَّرَ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَأَصلَحَ بَالَهُم (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِم كَذَلِكَ يَضرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمثَالَهُم (3)} (محمد 1-3)، ثم انطلق السياق بعدها إلى غايته، وهي وضع استراتيجية القتال في المرحلة تلك، وهي الإثخان في الأرض قبل أخذ الأسرى وقبول الفدية: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَربَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثخَنتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَربُ أَوزَارَهَا}(محمد آية 4)، والشاهد هنا هو أنّ القتال الذي فرض هنا ووضعت لتنفيذه خطة واضحة بني على أصل واقعيّ يبرره ويفسره، وهو اختلاف الناس إلى مؤمنين وكفار.
وأوضح من هذا وذاك هاتان الآيتان: {وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ} (البقرة 251)، {وَلَولَا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج: 40)، أي: لولا دفع الله الناس (الكافرين المفسدين) بالناس (المؤمنين المجاهدين) لفسد دين الناس، ولفسدت كذلك دنياهم ومعايشهم.
الحقيقة الثالثة:
هي أنّ السعي لامتلاك أسباب القوة فرض على الأمّة لا يسقط ولا يتأجل، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم لَا تَعلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعلَمُهُم} (الأنفال 60)، والتدريب اللازم للمواجهة من الإعداد من أسباب القوة؛ وقد خرَّج مسلم وغيره عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: «{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»[9].
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغفل قط عن الإعداد بكل مستوياته، مرّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان»، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال: «ما لكم لا ترمون؟»، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ارموا فأنا معكم كلكم»[10]، وعن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلى مسجد بني زريق»[11].
وإذا كان الإنفاق في سبيل الله جهاد بالمال ينافس الجهاد بالنفس؛ فإنَّه ما قصد به إلا القيام بواجب الإعداد، ومن هنا ذمَّ الله تعالى المنافقين لكونهم بخلوا وضنوا بأموالهم فلم ينفقوا منها للإعداد، ولعل التأويل الصحيح لقوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلقُوا بِأَيدِيكُم إِلَى التَّهلُكَةِ} (البقرة 195)، مفاده: أنَّ عدم الإنفاق يفضي إلى ترك الإعداد وهو التهلكة الحقيقية.
الحقيقة الرابعة:
هي أنَّ حاجة الأمة الإسلامية للقوة مستمرة إلى نهاية الدنيا، قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَربَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثخَنتُمُوهُم فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَربُ أَوزَارَهَا}(محمد آية 4)، أي: حتى تضع الحرب أثقالها وآثامها التي لابد منها، والتي نضطر إليها من باب اختيار أهون الشرين، لكن متى تضع الحرب أوزارها؟ قال مجاهد وابن جبير: هو خروج عيسى عليه السلام[12]، وقال آخرون: يعنى حتى يترك أهل الحرب- وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا[13]، وقال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد: إنك تفعله دائماً[14].
وقد أورد بعض المفسرين في ثنايا تفسيرهم لهذه الآية هذا الحديث الذي يمضي على نفس المعنى: عن عروة بن الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة»[15]، وآخرون أوردوا هذا الحديث: عن جبير بن نفير، عن سلمة بن نفيل، قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل بوجهه، وقال: «كذبوا الآن، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني أفناًدا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام»[16].
الحقيقة الخامسة:
وهي أنَّ اعتماد الإسلام لمبدأ القوة ليس فقط لردِّ العدوان ولا لحماية الدعوة والدعاة، وإنما لذلك ولأهداف أخرى غاية في الأهمية، قد نص القرآن عليها نصاً، وهي دفع فتنة الكفر والشرك عن الأرض، وتهيئة النفوس والأوضاع لتتقرر سيادة الشريعة وهيمنتها، وليكون الدين كله لله؛ لذلك فرض ما يسمى في الفقه الإسلاميّ بجهاد الطلب أو الابتداء، وهو الجهاد الذي لا ينتظر عدوان المعتدين حتى يكون هو الطالب للمشركين – بعد إعلامهم بالدعوة- حتى ولو لم يقع منهم عدوان.
إنّ الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين في محكم كتابه في آيات محكمة لم تنسخ أمراً صريحاً واضحاً بقتال جميع أصناف الكفار، وجعل لهذا القتال غايةً ليست هي مجرد رجوع المعتدين عن عدوانهم، ولا مجرد حماية الأرض والذب عن العرض، ولا حتى مجرد حماية الدعوة والدعاة، وإنما هي- بإيجاز شديد- إنهاء الكفر والشرك أو إنهاء سلطانهما، وإدخال الناس في الإسلام أو في الطاعة لسلطان دولة الإسلام؛ وهذا يعني أن الأمةَ الإسلاميةَ مفروضٌ عليها الجهادُ ابتداءً، وأن عليها أن تطلب الأمم الكافرة بالجهاد وأن تبتدئها بالقتال؛ لأن هذه الغايات من شأنها ألا تتوقف على ردود أفعال، وألا تنتظر وقوع العدوان من المستهدفين بها، من هذه هي الآيات: قول الله تعالى من سورة البقرة: ﴿وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وقوله في سورة الأنفال: ﴿وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوا فَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَولَاكُم نِعمَ المَولَى وَنِعمَ النَّصِيرُ﴾ (الأنفال 39-40).
الوضع الطبيعي
واعتماد الإسلام لمبدأ استخدام القوة في خوضه للصراع مع الجاهلية هو الوضع الطبيعيّ، ففي كل مرة يقوم فيها صراع بين حق وباطل- مهما كانت درجة هذا الحق ومستوى القائمين عليه- يسوغ أهل الحق لأنفسهم استخدام القوة لدفع الباطل ورد العدوان، ولتحطيم قوى البغي والطغيان، وعلى كل من يعارضنا في هذا أن يراجع تاريخ الثورات التي حررت أوروبا من طغيان الحليفين البالغين في البغي والعسف مبلغاً أهان الإنسانية وألصق أنفها بالتراب: الكنيسة والقصر، وأن يسأل التاريخ: كيف تمَّ للشعوب الثائرة التحرر والخلاص؟
ففي باكورة الصدام بين المعسكرين: معسكر الثورة والحرية، ومعسكر الاستبداد والظلم؛ كان (الحل الذي اقترحه الإنسانيون في أوائل القرن الرابع عشر قد اتخذ صورة إحياء المثال الأعلى الذي تمثل في أن يكون المواطنون مسلحين ومستقلين… وقالوا بوجوب الدفاع عن فلورنسا، وأن يكون حكمها من قبل رجال يكونون مستعدين- لا لتقديم مهاراتهم السياسية فقط- بل وتقديم حياتهم عند الضرورة، بغية الحفاظ على الجمهورية وحريتها)[17].
ومع قيام الثورة الفرنسية كانت الشعوب قد أيقنت أن لا خلاص إلا بالقوة، فانظر كيف استلت حقها استلالاً بحد السيف، إلى حد قول (فشر) عن أحداث الباستيل: (بيد أنَّ الاستيلاء برغم تدنسه بالجريمة على ذلك السجن القديم الذي في أطراف باريس وهدمه كان عملاً سياسيّاً فذّاً ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا؛ مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وبشير لبزوغ فجر الحرية)[18].
ولا يخفى جهاد الأمريكان المسلح ضد الأسبان ثم الإنجليز؛ والذي استمر حتى تأكد الاستقلال واستقر، وحتى الثورة الإنجليزية التي يسمونها الثورة البيضاء ما صارت في المرحلة الثانية منها بيضاء إلا بسبب امتلاك البرلمان القوة الرادعة التي أرغمت الملك على الإذعان، أمَّا قبل ذلك فكانت الحروب الأهلية التي استمرت لعشر سنوات تطحن في خلق الله؛ لا لشيء إلا لأنَّ الثوار حينها لم يملكوا الحسم وإنما ملكوا فقط المقاومة.[19]
الهامش
[1] الدر المختار وحاشية ابن عابدين رد المحتار 4/ 121.
[2] تفسير الطبري جامع البيان 17/ 127.
[3] تفسير ابن كثير، ط: العلمية، 7/40.
[4] تفسير القاسمي 8/234
[5] راجع: مناهل العرفان، 2/254.
[6] مسند أحمد 11/ 609 برقم (7036) سيرة ابن هشام 1/ 290، البداية والنهاية 3/ 61، تاريخ الطبري 2/ 332.
[7] البداية والنهاية، ط: إحياء التراث 3/ 171.
[8] تفسير الطبري جامع البيان 17/ 127.
[9] صحيح مسلم 3/ 1522 برقم (1917)
[10] صحيح البخاري 4/ 38 برقم (2899)
[11] متفق عليه البخاري برقم (420) ومسلم برقم (1870)
[12] تفسير القرطبي 16/ 228.
[13] تفسير الزمخشري – الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 4/ 317.
[14] تفسير ابن عطية – المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 5/ 111.
[15] متفق عليه البخاري برقم (2852) ومسلم برقم (1871)
[16] رواه النسائي 6/ 214.
[17] أسس الفكر السياسي الحديث، (عصر النهضة)، الجزء الأول، كوينتن سكنر، ت: د. حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط: أولى 2012م، صــــــــــــ161.
[18] تاريخ أوربا في العصر الحديث، هربرت فِشر، ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله، ط: دار المعارف، مصر، ط: 6، صـــــ 12.
[19] الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق