الثلاثاء، 5 أبريل 2022

المساواة والتمكين| النسوية اليهودية.. قيادة الموجة الثانية (12)

المساواة والتمكين النسوية اليهودية.. قيادة الموجة الثانية (12)

محمود عبد الهادي

عام 1984، ركز "الكونغرس اليهودي الأميركي" حواره السنوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل في القدس على موضوع "المرأة كيهودية، واليهودية كنسوية" (شترستوك)

انطلقت الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة الأميركية أواخر الستينيات وخلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت في الولايات المتحدة اضطرابات عديدة، وتحولات كثيرة، وظهور عدة حركات فكرية واجتماعية، كحركة الحقوق المدنية، وحقوق السود، ومناهضة الحرب، وكان من بينها ما يعرف بالموجة الثانية لثورة الشواذ من أصحاب الميول الجنسية المنحرفة (المثليين والمتحولين)، والتي كانت تطالب بإيقاف أعمال العنف والتمييز الموجهة ضدهم، وإلغاء التشريعات المحرّضة على ذلك من القانون الأميركي. وقد كان للنسوية اليهودية والمثلية الجنسية اليهودية الدور البارز في قيادة هاتين الموجتين.

شكلت محاور الاهتمام والتركيز لدى الحركة النسوية اليهودية رؤية تحولت إلى ما يشبه منهج عمل، لتعزيز الفكر النسوي وإحداث التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمرأة اليهودية خاصة، والمرأة في جميع أنحاء العالم بشكل عام، الذي كان له أثر كبير في توجيه الفكر النسوي في الدول العربية، وخاصة في العقود المتأخرة.

إستراتيجية القيادة

شكّلت محاور الاهتمام والتركيز لدى الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة أبعاد الرؤية الإستراتيجية للتقدم والنجاح والسيطرة، وقد تحولت هذه الرؤية، إلى ما يشبه منهج عمل، لتعزيز الفكر النسوي وإحداث التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمرأة اليهودية خاصة، وللمرأة في جميع أنحاء العالم بشكل عام، والذي كان له أثر كبير في توجيه الفكر النسوي في الدول العربية، وخاصة في العقود المتأخرة.

ونتناول هنا أبرز أبعاد هذه الرؤية:

قيادة الحراك التحرري والحقوقي

في تلك الفترة، انتشرت مجموعات التحرر النسوية بشكل كبير في الولايات المتحدة، ومن بين تلك المجموعات التي ضمت أعدادا كبيرة من اليهوديات النسويات "اتحاد تحرير نساء شيكاغو"، و"ريدستوكينغز" في نيويورك، و"خبز وورود" في بوسطن، وكان عدد اليهوديات النسويات يصل في بعض مجموعات المدن الكبيرة، إلى 3 أرباع أعضائها. وساعدت مجموعة من النسويات اليهوديات في تقديم نظريات ونماذج للفكر والعمل النسوي الراديكالي الذي برر لهن الانخراط في الحركة النسوية في الولايات المتحدة، من دون حاجة إلى تقديم أنفسهن -في البداية- على أنهن يهوديات، مكتفيات بالرؤية العالمية للأخواتية المشتركة، بدلا من الهويات الخاصة، ومن بين هؤلاء النسويات اليهوديات شولاميث فايرستون، وإلين ويليس، وروبن مورغان، وأليكس كيتس شولمان، ونعومي وايسستين.

كان العديد من قادة ومفكري الحركة النسوية الأميركية في الستينيات من اليهوديات علمانيات إلى حد كبير، وكان لهن دور كبير في قيادة حركة حقوق المرأة في الستينيات وأوائل السبعينيات، لأنهن كن الأكثر تعليما بين جميع النساء الأميركيات. ولفترة طويلة، كانت النسويات اليهوديات من بين النشطاء الذين قادوا الحملات من أجل الحقوق المدنية ونزع السلاح النووي والسلام. كان الوعي "النسوي البدائي" يتصاعد من داخل حركة الحقوق المدنية، وربط نشطاء، مثل النسوية اليهودية بيلا أبزوغ، الحرب بالعنف ضد المرأة، واعتبار الحرب قضية نسوية.

وهكذا أصبحت المعرفة التنظيمية للنسويات اليهوديات وبناء التحالفات الماهرة أدوات أساسية في تطوير النسوية لتكون حركة جماهيرية. وقد انتخبت أبزوغ لعضوية الكونغرس عام 1970، وأعيد انتخابها عامي 1972 و1974، حيث قادت الكفاح في الكونغرس من أجل تعديل الحقوق المتساوية، ومن أجل الحرية الإنجابية. وكانت إحدى لحظات الذروة في حياتها المهنية في الكونغرس إحضار الحاخامة النسوية سالي بريساند لقيادة الصلاة اليهودية في افتتاح الكونغرس الأميركي عام 1971، وهي أول امرأة يهودية تقوم بذلك. وتَعتبر أبزوغ أن صِلتها بتراثها اليهودي شكّلت مسار حياتها المهنية والسياسية، بالرغم من كونها علمانية معروفة بشدة على أنها صهيونية عمالية. وقد ترأست أبزوغ وفد الولايات المتحدة الأميركية في أول مؤتمر دولي للمرأة في مكسيكو سيتي عام 1975.

واستمرت نشاطات الحركة النسوية اليهودية بوصفهن قائدات ومشاركات في الاحتجاجات المناهضة للعنف، والمطالبة بتعزيز حقوق الإنسان، وإصلاح نظام الهجرة، والمطالبة بالعدالة البيئية والحقوق العمالية، ومكافحة الفقر العالمي، والعنصرية، ومعاداة السامية، والتحرش الجنسي، والاعتداء الجنسي، في المجتمعين العام واليهودي.

القيادة الدينية والفقهية

سعت الحركة النسوية اليهودية إلى حق المساواة في المناصب الدينية بكل مستوياتها، وإلى تقديم تفسيرات فقهية نسوية للنصوص التوراتية. في لقاءات منفصلة مع الحاخامات وزوجاتهم، أصدرت نساء عزرات ناشيم "دعوة للتغيير"، طُرحت فيها الأجندة المبكرة للنسوية اليهودية. وشددت هذه الأجندة على "المساواة في الوصول" إلى الأدوار العامة في المكانة والشرف للنساء والرجال داخل المجتمع اليهودي، مع التركيز على القضاء على تبعية النساء في اليهودية، ومساواة حقوقهن في قوانين الزواج والطلاق، واحتسابهن في النصاب اللازم للصلاة الجماعية، وتدريبهن على مناصب قيادية في الكنيس كحاخامات وناشطات.

واستخدمت النسويات اليهوديات عددًا من الأساليب لطرح قضية المساواة بين الجنسين أمام المجتمع اليهودي؛ إذ قدم المتحدثون النسويون حججهم في عدد لا يحصى من المعابد اليهودية وشاركوا في نقاشات حية في مراكز الجالية اليهودية والاجتماعات المحلية والوطنية لمنظمات النساء اليهوديات. كما نقلت النسويات اليهوديات رسالتهن إلى جمهور أوسع من خلال الكلمة المكتوبة.

كما عملت "حركة الإصلاح" عام 1972 على ترسيم أول امرأة حاخامية في أميركا، وهي سالي بريساند، التي خرجت أول حاخامة لها عام 1975. كما تبعتها حركة "إعادة البناء"، حيث رَسّمت ساندي أيزنبرغ ساسو حاخامًة عام 1974. وكانت لجنة القانون اليهودي والمعايير التابعة لمجلس الحاخامين المحافظين، قد قضت عام 1973 بأنه يمكن احتساب النساء في نصاب الصلاة ما دام الحاخام المحلي وافق على ذلك.

أصبحت إيمي إيلبرغ -التي أكملت معظم متطلبات الرسامة- أول حاخامة محافظة عام 1985، وقد تم الترحيب بالنساء في تجمع المحافظين عام 1987.

في حين أن الكثيرات من الحركة النسوية اليهودية الأميركية ركّزن على فتح المزيد من الفرص الدينية للنساء، أثارت النسويات اليهوديات أيضًا قضايا تتجاوز قبول النساء في مناصب يحددها الرجال من الظهور والقوة. فمنذ الثمانينيات، عملت بعض قيادات النسوية اليهودية على إعادة تشكيل طبيعة القيادة والطقوس اليهودية بدلا من اتباعها ببساطة، كما عملن على تفسير النصوص اليهودية الكلاسيكية. كما أنشأن تفسيرًا نسويًا للنصوص التوراتية والتلمودية. وقد تحدت عالمات الديانة اليهودية، مثل جوديث بلاسكو، وراشيل أدلر، وإلين أومانسكي، المفاهيم التي يهيمن عليها الذكور في اللاهوت اليهودي، ولغته التي استندت إلى التصورات ووجهات النظر (الذكورية).

بحلول التسعينيات، تم إنشاء المركز اليهودي النسوي في لوس أنجلوس عام 1991 ليصبح مقرًا لمجموعة من دورات تعليم الكبار حول اليهودية من منظور نسوي. وشيئا فشيئا، تزايد عدد المؤسسات التي شرعت في تعزيز طقوس نسوية يهودية مبتكرة، وتوسيع دائرة القيادة الدينية النسوية.

تأصيل الفكر النسوي

حرصت النسوية اليهودية في الولايات المتحدة على أن يكون لها كذلك أدوار قيادية داخل الحركة النسوية في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى الآن. وأسهمن بدور كبير في العديد من الكتابات التي أصبحت معالم واضحة لأعضاء الحركة النسوية. من بين هذه المساهمات، أثرت مقالة النسوية اليهودية جوان والا سكوت بعنوان "النوع الاجتماعي كفئة في التحليل" على أجيال من العلماء، من خلال جعل النوع الاجتماعي مركزًا لفهم حياة المرأة. كما شكّل عمل أليس كيسلر هاريس عن المرأة في التاريخ الاقتصادي، وجهات نظر جديدة حول العمل الجنساني، وقدّم كتاب "لا عودة للخلف: تاريخ النسوية ومستقبل المرأة" للنسوية اليهودية إستيل فريدمان تاريخًا واسعًا للنسوية كسلسلة مستمرة من الإجراءات الفردية والجماعية.

هذه الكتابات وغيرها من كتابات النسويات اليهوديات أصبحت نقاطًا بارزة في البحث النسوي عامة في جميع التخصصات. كما لعبت النسوية اليهودية أيضًا دورًا بارزًا في تنظير التعددية الثقافية وسياسات الهوية. وعام 1984، ركّز "الكونغرس اليهودي الأميركي" حواره السنوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل في القدس على موضوع "المرأة كيهودية، واليهودية كنسوية"، وقد أدت المناقشات الواسعة النطاق إلى تأسيس "اللجنة الوطنية لمساواة المرأة"، تحت رعاية الكونغرس اليهودي الأميركي، مع بيتي فريدان وليونا حنين بوصفهما رئيستين مشاركتين. وكان هذا تمهيدا لعقد المؤتمر النسوي الدولي الأول لتمكين النساء اليهوديات، الذي عقد في القدس عام 1988، وشارك فيه 350 امرأة يهودية من أكثر من 20 دولة، وقد أُعطيت الكلمة الرئيسية للنسوية اليهودية وعضوة الكونغرس السابقة بيلا أبزوغ.

كما قدّمت النسويات اليهوديات وجهات نظر جديدة حول التفاعل بين النوع الاجتماعي والنسوية والحياة اليهودية في الأدب الشعبي. وكان من بين النساء اليهوديات الأخريات اللواتي ساعدن في تعريف النسوية المعاصرة ريبيكا والكر التي صاغت -في مقالتها بمجلة "السيدة" عام 1992 تحت عنوان "أن تصبح الموجة الثالثة"- مصطلحًا يستخدم على نطاق واسع لوصف المنظورات الناشئة لجيل أصغر من النسويات ما بعد الموجة الثانية. وقامت جاكلين فريدمان، مؤلفة العديد من الكتب الأكثر مبيعًا حول تمكين الحياة الجنسية للمرأة، بالتأسيس والإدارة التنفيذية لمشروع "المرأة والعمل والإعلام".

إن هذه السلسلة الطويلة من الأفكار والأعمال والفعاليات أثرت كثيرا في الفكر النسوي على مستوى العالم، وسرعان ما أخذت أصداؤها تتردد في جنبات المؤتمرات الدولية برعاية منظمة الأمم المتحدة، بل انعكست بوضوح على الفكر العربي والإسلامي، حيث بدأت الكثير من الأقلام تنقل هذه الأفكار وتسقطها على المجتمع العربي والشريعة الإسلامية.

يتبع… (تشريع الحرية الجنسية والإنجابية)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق