السنة غير التشريعية والغلو العصرانيّ
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما حقيقة ما يسمى بالسنة غير التشريعية؟ وهل صحيح أنّ هناك سنة غير تشريعية؟! وما مدى صحة تقسيم السنة النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية؟ وهل لذلك التقسيم مستند من الشرع وأصل من الدين؟ وهل للقائلين به سلفٌ من الأمة اعتمدوا على قوله واتكأوا على مذهبه؟ وما مدى تأثير هذا التقسيم والتوسع فيه على الشريعة والعقيدة وأحكام الدين؟
هذا التقسيم الذي يُخرج كثيرا من الأحاديث عن نطاق التشريع، إذا انضم إليه الاعتقاد بأنّ العموم والإجمال هو السمة الغالبة على آيات القرآن؛ يجعل الطريق مفتوحاً تماما لإحداث المرونة الكافية والحركية الموفورة في الفقه الإسلاميّ؛ مما ينتج عنه سرعة التخلص من مشكلات الفقه القديم، مع القدرة على تجديد الخطاب الدينيّ بالشكل الذي يلبي حاجات الأمة ومتطلباتها في حياتها المعاصرة المليئة بالتحديات الجسام؛ هكذا اعتقد الذاهبون إلى هذا التقسيم؛ فهل صحيح ما ذهبوا إليه؟! وقبل ذلك هل المنطلقات صحيحة وسليمة؟ تساؤلات أخرى تثور لدى تناول هذا الموضوع الخطير؛ وهذا ما يدعونا إلى الاهتمام بالقضية.
وفي البداية ينبغي الاحتراز من الفهم الخاطئ بالتنبيه على أمور، منها أنّ الشريعة ليست بحاجة إلى افتعال آليات لإحداث المرونة والملاءمة والتكيف مع التغيرات والتطورات، وقبل ذلك ليست مطالبة بأن تخضع دائما للمتغيرات والتطورات؛ لأنّها نزلت لتكون لها الهيمنة لا لتخضع لأي هيمنة، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) (المائدة: 48)؛ فإذا كان الكتاب العزيز نزل مهيمنا على الكتب السابقة المنزلة من عند الله، وإذا كانت شريعته جاءت مهيمنة على الشرائع السماوية السابقة؛ فكيف بغيرها مما يستجد في حياة الناس ويتغير بتغير عوائدهم وأعرافهم؟!
إنّ شريعةَ الإسلام لها على كافَّةِ الشرائع والقوانين والأعرافِ قديمِها وجديدِها سطانٌ وسيادةٌ وهيمنة، وليست مطالبةً بالخضوع دوما والاستجابة أبدا لكل ما يحدثه الناس من تغيرات في ألوان حياتهم؛ وإلا لما تَعَبّدَنا الله بها ولما كان للعبادة معنى في حياة الناس، ولكنّها مع ذلك حنيفية سمحة؛ اشتملت في ذاتها على مقومات المرونة التي تجعلها صالحةً لكل زمان ومكان وقادرةً على استيعاب المستجدات والنوازل مهما تكاثرت وتوالت أو تباينت بتباين الظروف وتطاول الأزمان، ومن هنا لا يسوغ الافتئات عليها بإقحام آليات للمرونة والملائمة والتكيف ليست من طبيعتها ولا تستقيم مع أصولها وقواعدها، كما لا يسوغ إجبارها على الدوران مع كل جديد أو الدخول تحت هيمنة نظام تشكل في غياب الفطرة السليمة.
ذاك كان الأمر الأول من الأمور الاحترازية، أمّا الأمر الثاني فهو أنّ تجديد الدين لا يعني الخروج على أحكامه ولا التفلت من تعاليمه ولا التنكر لكل قديم جاءنا عن سلف هذه الأمة، التجديد لا يعني التبديل والتبديد، وإنّما يعني نفض ما ران على الدين من ركام الأيام مع الحفاظ عليه والمحافظة على بنيانه، فليس من التجديد ردّ الحديث الصحيح بزعم مخالفته للعقل، ولا الخروج على الحكم الشرعي الثابت بدعوى عدم ملائمته للزمان، ولا التأويل العنيف الذي يصل إلى حد التحريف والتصحيف لآيات القرآن أو أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن توافق قول فلان أو رأي علان.
أمّا الأمر الثالث والأخير فهو أن حديثنا عن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية لا يعني أنّ السنة النبوية قد آل بها الأمر إلى أن تتزحزح عن مكانها كمصدر للتشريع بعد كتاب الله تعالى، حتى عند القائلين بهذا التقسيم والمتوسعين فيه، فالكلّ يقر للسنة بمكانتها في التشريع، لكنّ الخلاف المستحدث في زماننا يدور حول المساحة التي تعمل فيها السنة، أهي كافة ألوان النشاط البشريّ أم إنها فقط محصورة فيما يتعبد به الإنسان ويتوجه به إلى ربه تبارك وتعالى؟!
والذين قسموا السنة إلى تشريعية وغير تشريعية قصدوا بالسنة معناها عند الأصوليين، وهي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فالتشريعية عندهم هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي صدرت عنه باعتباره رسولا مبلغا دين الله تعالى، وغير التشريعية هي أقواله وأفعاله وتقريراته التي صدرت عنه باعتباره بشرا دون أن يكون لها صلة بالرسالة، والبعض جمع الأقوال والأفعال والتصرفات في مصطلح عام هو (تصرفات الرسول).
وقد اختلف أصحاب هذا التقسيم ما بين موسع ومضيق في دائرة السنة غير التشريعية، فمن هؤلاء من ضيق دائرتها حتى اقتصرت على ما اقتصر عليه الأصوليون من الأنواع التي لا تدل عندهم إلا على الإباحة، كالتصرفات الجبلية والأمور الدنيوية وغيرها، والبعض الآخر توسع فأدخل في السنة غير التشريعية تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء والإمامة، واشتط البعض فجعلها شاملة لما ورد في أبواب المعاملات المالية وغيرها مما ليس من قبيل العقائد والعبادات والأخلاق.
ولسنا معنيين في بحثنا هذا بمناقشة أصل القضية إلا بقدر ما يخدمنا في مواجهة الغلو الذي وقع تحت غطائها؛ لأنّ التقسيم في ذاته لا يضر لولا استثماره في إقصاء كثير من السنة عن التشريع؛ بزعم أنّها دنيوية لا دينية، وقد انبنى على هذا الغلو مذاهب في السياسة الشرعية كلها تلتقي على سلب الحجية عن كافّة تصرفات الرسول بالسياسة، حتى صار هذا الميدان عاريا عن التشريع؛ بما يترتب عليه ضرورة ملء المساحات الشاسعة في هذا الميدان بما استجد من تجارب الخلق في الغرب والشرق!
وقد كان من أبرز الأسماء التي تعرضت لهذا التقسيم: الدكتور محمد عمارة رحمه الله، والدكتور سليم العوا حفظه الله، وفضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أطال الله عمره، مع مجموعة أخرى من الباحثين من أبرزهم سعد الدين العثماني رئيس وزراء الحكومة المغربية، وغيرهم، وهؤلاء جميعا مع تباين أقوالهم توسيعا وتضييقا اعتمدوا على جملة من الأحاديث، مع قطوف متناثرة من أقوال بعض العلماء.
الأحاديث التي اعتمد عليها القائلون بالتقسيم
اعتمد القائلون بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على جملة من الأحاديث كلها واردة في التصرفات الدنيوية المحضة، أهم هذه الأحاديث ما يلي:
عَنْ عَائِشَةَ، وأَنَسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ» قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ؟» قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»()، وعن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل، يقولون: يلقحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً» فتركوه، فنفضت أو فنقصت، قال فذكروا ذلك له فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»() وروى مسلم عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»()
وعن أنس قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصواتا فقال: ” ما هذا؟ ” قالوا: يلقحون النخل، فقال: “لو تركوه فلم يلقحوه لصلح” فتركوه فلم يلقحوه، فخرج شيصا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما لكم؟”، قالوا: تركوه لما قلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي”()، وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتا، فقال: «ما هذا الصوت؟» قالوا: النخل يأبرونه، فقال: «لو لم يفعلوا لصلح»، فلم يؤبروا عامئذ، فصار شيصا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن كان شيئا من أمر دنياكم، فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي»().
وعن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل، فقال: «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظن يغني ذلك شيئا» قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل»().
وعن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نخل فرأى قوما في رءوس النخل يلقحون فقال: «ما تصنعون أو ما يصنع هؤلاء؟ قال: يأخذون من الذكر ويجعلون في الأنثى فقال: ما أظن هذا يغني شيئا فبلغهم ذلك فتركوه فصار شيصا، فقال: أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وإني قلت لكم ظنا ظننته، فما قلت لكم قال الله عز وجل فلن أكذب على الله تبارك وتعالى»()، وعن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل، يقولون يلقحون النخل، فقال: «ما تصنعون؟» قالوا: كنا نصنعه، قال: «لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا» فتركوه، فنفضت أو فنقصت، قال فذكروا ذلك له فقال: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»().
فهذه كلها روايات الحديث المشهور: (حديث تأبير النخل) وفيه عبارات صريحة في نفي التشريع عن تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة، والحديث صحيح لا شك فيه، والاختلاف الظاهر في رواياته ليس من قبيل الاضطراب في المتن الذي يُرَدُّ به الحديث؛ لأنّه ليس بعيداً أن تكون الحادثة قد تكررت، بأن تكرر من رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجيه لأقوام متفرقين بترك التأبير، ثم لمّا خرج عند الجميع شيصا تكرر منه التعليق على ذلك بسبب تعدد الجهات التي تعامل معها، وبهذا يكون اختلاف العبارات عنه طبيعيا؛ لاسيما وأنّ الاختلاف لفظيّ لا يترتب عليه اختلاف في المعنى المراد، كما أنّه من المشهور إنّ الصحابة أرسلوا عن الصحابة، ورووا كثيرا من الأحاديث بالمعنى، فإذا اختلفت بعض تعبيراتهم عن الحدث ولم تختلف في المقصد والمعنى فلا يمكن أن نسمي ذلك اضطرابا.
ونحن إن أمعنّا النظر في كل عبارة في سياقها من الروايات فسوف يتأكد لنا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قصد إلى تعليم أمته أنّ أمور الدنيا موكولة إلى الناس وتجاربهم وعقولهم وخبراتهم، أمّا أمور الدين فهي التي توكل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو كان التشريع متطرقا لأمور الدنيا ما قال لهم: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» ولو كان توجيهه لهم بترك التأبير صادرا من موقع البلاغ لما قال لهم: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر»، ولو كانت أمور الدين والدنيا سواء لما فصل هذا التفصيل: «إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي» «إن كان شيئا من أمر دنياكم، فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإليَّ» ولو كان ما أدلى به إليهم من النصح تشريعا لما تطرق إليه الظنّ ولما قال: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل» أو: أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم، وإني قلت لكم ظنا ظننته، فما قلت لكم قال الله عز وجل فلن أكذب على الله تبارك وتعالى»؛ فالمسألة واضحة وضوح الشمس ليس دونها سحاب.
وهذا في الحقيقة من دلائل عظمة هذا الدين ومن أسباب سلامته وبقائه؛ لأنّ الله تعالى خلق الإنسان وجعله في الأرض خليفة، ووهبة العقل وسائر المواهب التي تؤهله للقيام بعمارة الأرض، فلو تكفل الوحي بما يناط بالعقول لكان في ذلك إلغاءٌ لدور العقل، ولكان ذلك مخالفا لسنة الله تعالى التي خلق عليها هذا الإنسان والتي بموجبها استخلفه، والوحي لا يمكن أن يناقض الفطرة، فالدين والفطرة من مشكاة واحدة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
وبقاء الدين ودوامُ عطائه مرهون بهذه الخاصية الرشيدة؛ لذلك وجدنا الإنسانية في أوربا إبّان عصر النهضة تنقلب على الدين المسيحيّ الذي تدخل في شئون الدنيا ونسب إلى النصوص المقدسة ما لم يكن منها مما تعلق بدنيا الناس وعلومهم الكونية، فانتهى دور الدين المسيحي في المجتمع المسيحيّ تماما، وإن بقي نِحْلةً يتحنث بها بعض المنتسبين إليها تلبية لحاجات نفسية، ويتعصب لها آخرون بدافع العنجهية والعنصرية، لكنّ الحقيقة الواضحة هي أنّ دور الديانة المسيحية بين أهلها قد انقضى ووَلَّى بانقضاء العصر الوسيط وإقبال العصر الحديث.
وهناك أحاديث أخرى غير حديث تأبير النخل هذا، تفيد نفس النتيجة أو قريبا منها، من هذه الأحاديث ما رواه عروة عن عائشة عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم»()؛ فلو كان همّ النبيّ صلى الله عليه وسلم للنهي عن الغيلة أو تركه للنهي بعد ذلك تشريعا لما تأثر بفعل فارس والروم أو تركهم؛ إذ ليست تجاربهم مصدرا للتشريع.
ومنها ما رواه ابن عباس أن خالد بن الوليد، أخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة فوجد عندها ضبا محنوذا، فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمتن له، هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ»()؛ فلو كان هذا التصرف بترك الأكل تشريعاً لما جاز لخالد أن يأكل منه ولما اقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله؛ فإنما أقطع له قطعة من النار؛ فلا يأخذها»() وفي رواية: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها»()؛ فمن سياق الحديث يتضح أنّ نظر القاضي في حجج الخصمين ليس تشريعاً.
على هذه الأحاديث اعتمد القائلون بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على اختلافهم في تقدير مساحة السنة غير التشريعية ومقدار ما تتسع له، كما أنهم جميعا اعتمدوا على أقوال لبعض الأصوليين والفقهاء، يجدر أن نوردها هنا ثم نورد النتائج التي توصلوا إليها من النظر في الأحاديث وفي أقوال الفقهاء والأصوليين، ثم بعدها ننظر كيف يمضي بنا الحديث.
أقوال الفقهاء والأصوليين التي بنوا عليها رأيهم
نقلوا عن الإمام القرافي المالكي تمييزه بين تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتوى وتصرفه بالقضاء وتصرفه بالإمامه، ففي كتابه الشهير: “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ” قال رحمه الله: “ما الفرق بين تصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالفتيا والتبليغ، وبين تصرفه بالقضاء، وبين تصرفه بالإمامة؟ وهل آثار هذه التصرفات مختلفة في الشريعة والأحكام أو الجميع سواء في ذلك؟ وهل بين الرسالة وهذه الأمور الثلاثة فرق أو الرسالة عين الفتيا؟ … جوابه: أن تصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك تعالى … وتصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالة هي أمر الله تعالى له بذلك التبليغ. فهو – صلى الله عليه وسلم – ينقل عن الحق للخلق في مقام الرسالة: ما وصل إليه عن الله تعالى. فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن الله تعالى. وورث عنه – صلى الله عليه وسلم – هذا المقام المحدثون رواة الأحاديث النبوية وحملة الكتاب العزيز لتعليمه للناس، كما ورث المفتي عنه – صلى الله عليه وسلم – الفتيا …
وأما تصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالحكم فهو مغاير للرسالة والفتيا. لأن الفتيا والرسالة تبليغ محض واتباع صرف، والحكم إنشاء وإلزام من قبله – صلى الله عليه وسلم – بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: “إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؟ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه إنما أقتطع له قطعة من النار! ” دل ذلك على أن القضاء يتبع الحجاج وقوة اللحن بها، فهو – صلى الله عليه وسلم – في هذا المقام منشئ، وفي الفتيا والرسالة متبع مبلغ، وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب، لا أنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى، لأن ما فوض إليه من الله تعالى لا يكون منقولا عن الله تعالى …
وأما تصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس، وهذا ليس داخلا في مفهوم الفتيا ولا الحكم ولا الرسالة ولا النبوة، لتحقق الفتيا بمجرد الإخبار عن حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقق الحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة، لا سيما الحاكم الذي لا قدرة له على التنفيذ كالحاكم الضعيف القدرة على الملوك الجبابرة، بل ينشيء في نفسه الإلزام على ذلك الملك العظيم، ولا يخطر له السعي في تنفيذه، لتعذر ذلك عليه …
فما فعله – عليه السلام – بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا باذن إمام الوقت الحاضر، لأنه – صلى الله عليه وسلم – إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعا مقررا لقوله تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون}.
وما فعله – عليه الصلاة والسلام – بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود، والتطليق بالإعسار عند تعذر الإنفاق والإيلاء والفيئة. ونحو ذلك: فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر، اقتداء به – صلى الله عليه وسلم -، لأنه – عليه السلام – لم تقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمته بعده – صلى الله عليه وسلم – كذلك.
وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ، فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا إذن إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مبلغ لنا ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلى بين الخلائق وبين ربهم”»().
وفي كتابه الفروق قال رحمه الله تعالى: “الفرق بين تصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالقضاء وبين تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين تصرفه بالإمامة: اعلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو – صلى الله عليه وسلم – إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته – صلى الله عليه وسلم – منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى ثم تصرفاته – صلى الله عليه وسلم – بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله – صلى الله عليه وسلم – أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه وكل ما تصرف فيه – عليه السلام – بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به – عليه السلام – ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك وما تصرف فيه – صلى الله عليه وسلم – بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به – صلى الله عليه وسلم – ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه – صلى الله عليه وسلم – بوصف القضاء يقتضي ذلك”().
كما نقلوا عن القاضي عياض رحمه الله تقسيمه خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما طريقه البلاغ وما هو خارج عن ذلك، حيث يقول: “وأما ما يكون بغير قصد وتعمد، كالسهو، والنسيان في الوظائف الشرعية، مما تقرر الشرع بعدم تعلق الخطاب به، وترك المؤاخذة عليه.. فأحوال الأنبياء في ترك المؤاخذة به وكونه ليس بمعصية لهم مع أممهم سواء، ثم ذلك على نوعين: ما طريقُهُ البلاغ وتقرير الشرع وتعلق الأحكام وتعليم الأمة بالفعل وأخذهم باتباعه فيه، وما هو خارج عن هذا مما يختص بنفسه، أما الأول: فحكمه عند جماعة من العلماء حكم السهو في القول في هذا الباب.. وقد ذكرنا الاتفاق على امتناع ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم وعصمته من جوازه عليه قصدا أو سهوا، فكذلك قالوا: الأفعال في هذا الباب لا يجوز طُرُوُّ المخالفة فيها، لا عمدا ولا سهوا، لأنها بمعنى القول من جهة التبليغ والأداء، وطرو هذه العوارض عليها يوجب التشكيك، ويسبب المطاعن … أما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينية وأذكار قلبية، مما لم يفعله ليتبع فيه؛ فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، ولحوق الفترات والغفلات بقلبه، … ولكن ليس على سبيل التكرار، ولا الاتصال، بل على سبيل النّدُور”().
ونقلوا كذلك عن ابن قتيبه الدينوري ذلك التقسيم: “والسنن -عندنا- ثلاث: الأولى: سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى، كقوله: “لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها”، و(يحرم من الرضاع، ما يحرم من النسب) … والسنة الثانية: سنة أباح الله له أن يسنها، وأمره باستعمال رأيه فيها فله أن يترخص فيها لمن شاء، على حسب العلة والعذر، كتحريمه الحرير على الرجال، وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه، لعلة كانت به … ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) ثم أتاه العباس شفيعا، في أخي مجاشع بن مسعود، ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال: “أشفع عمي ولا هجرة” ولو كان هذا الحكم نزل لم تجز فيه الشفاعات وقال: (عادي الأرض، لله ولرسوله، ثم هي لكم مني، فمن أحيا مواتا فهو له) وقال في العمرة: (ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأهللت بعمرة) وقال في صلاة العشاء: (لولا أن أشق على أمتي، لجعلت وقت هذه الصلاة، هذا الحين) ونهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وعن زيارة القبور، وعن النبيذ في الظروف، … فهذه الأشياء تدلك على أن الله عز وجل، أطلق له صلى الله عليه وسلم أن يحظر وأن يطلق بعد أن حظر، لمن شاء، ولو كان ذلك لا يجوز له في هذه الأمور، لتوقف عنها، كما توقف حين سئل عن الكلالة، وقال للسائل “هذا ما أوتيت، ولست أزيدك حتى أزاد … والسنة الثالثة: ما سنه لنا تأديبا، فإن نحن فعلناه، كانت الفضيلة في ذلك، وإن نحن تركناه، فلا جناح علينا إن شاء الله كأمره في العمة بالتلحي، وكنهيه عن لحوم الجلالة، وكسب الحجام”().
وعن الدهلوي في حجة الله البالغة نقوا قوله: “اعلم أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودون في كتب الحديث على قسمين، أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} منه علوم المعاد وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق، وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد، واجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطأ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطا من المنصوص كما يظن، بل أكثره أن يكون علمه الله تعالى مقاصد الشرع وقانون التشريع والتيسير والأحكام، فبين المقاصد المتلقاة بالوحي بذلك القانون، ومنه حكم مرسلة ومصالح مطلقة لم يوقتها، ولم يبين حدودها كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالبا الاجتهاد بمعنى أن الله تعالى علمه قوانين الارتفاقات، فاستنبط منها حكمه، وجعل فيها كلية، ومنه فضائل الأعمال ومناقب العمال، ورأى أن بعضها مستند إلى الوحي وبعضها إلى الاجتهاد، وقد سبق بيان تلك القوانين، وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه وبيان معانيه.
وثانيهما ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر) وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: (فانى إنما ظننت ظنا، ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا، فخذوا به، فإني لم أكذب على الله) فمنه الطب، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم ” عليكم بالأدهم الأقرح ” ومستنده التجربة، ومنه ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة دون العبادة وبحسب الاتفاق دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكره قومه كحديث أم زرع وحديث خرافة وهو قول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له حدثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ” كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمر اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش وتعيين الشعار، وهو قول عمر رضي الله عنه: ما لنا وللرمل كنا نتراءى به قوما قد أهلكهم الله، ثم خشي أن يكون له سبب آخر، وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله سلبة) ومنه حكم وقضاء خاص، وإنما كان يتبع فيه البينات والايمان وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (الشاهد يرى ما لا يراه الغائب)”().
وأخيرا نقلوا عن ابن القيم قوله في إغاثة اللهفان: “الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه، والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها. فإن الشارع بنوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر فى المرة الرابعة، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدى العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية. وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب”().
وتلك كانت الأقوال التي نقلوها عن بعض العلماء واعتمدوا عليها في تقسيم السنة اللنبوية إلى تشريعية وغير تشريعية، بل واعتمد عليها المغالون منهم في توسيعهم لدائرة السنة غير التشريعية؛ بغرض إخراج ما كان في أبواب القضاء والسياسة جملة من دائرة الحجية؛ فإلى أيّ مدى ذهبوا؟ للنظر ..
قطوف من أقوال القائلين بالتقسيم والمتوسعين فيه
اختلفت أقوال القائلين بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بعد اتفاقهم على أصل القول بالتقسيم؛ وسبب هذا التباين في أقوالهم هو درجة التوسع في السنة غير التشريعية، وها هي قطوف وخلاصات من أقوالهم نسوقها بنصها:
بعد أن ساقا ما سقناه من الأحاديث وأقوال الفقهاء؛ قَسَّم الدكتور سليم العوا والدكتور محمد عمارة السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ثم قالا: “وسنة غير تشريعية تتعلق باجتهادات الرسول في فروع المتغيرات الدنيوية، سواء في السياسة أو الحرب أو المال، وكل ما يتعلق بإمامته للدولة الإسلامية أو بقضائه في المنازعات الذي هو اجتهاد مؤسس على حجج أطراف النزاع، وليس فيها وحي معصوم، وفيها ومعها يجوز الاجتهاد الذي يأتي بجديد الأحكام”()، ثم استطرد قائلاً: “فهي إذن – السنة غير التشريعية – اجتهاد لا تبليغ رسالة، ولا فتيا في الرسالة تُستأنف من جديد، ويتوقف إمضاؤها على تحقيق المقاصد التي استهدفتها، فإن حققتها أمضيت كما هي، وإلا – بأن غابت شروط إعمال حكمها – كان الاجتهاد الجديد هو الواجب الإسلاميّ الكفيل بتحقيق مقاصد الشريعة في هذا المقام”().
ويركز الدكتور العوا على التصرفات بالإمامه قائلا: “أمّا تصرفه بالإمامه فهو تصرفه صلى الله عليه وسلم في شئون السياسة العامة للدولة بما تقتضيه المصلحة بعد أن فوضت إليه، ومن هذا قسمة الغنائم وتوزيع الجيش، وتوزيع الإقطاعات من الأراضي والمعادن، وعقد المعاهدات وتعيين الولاة في الأمصار والبلدان البعيدة”()، ويستطرد قائلا: “فذلك كان فهم الصحابة رضي الله عنهم لسياسة التشريع في دين الله، تحقيق لمصالح الناس في المقام الأول، ودرء للمفاسد عنهم؛ فكلما وجدوا بابا لتحقيق هذه المصالح أو درء هذه المفاسد ولجوه غير هيابين ولا مترددين”().
فتصرفات النبيّ صلى الله عليه وسلم واجتهاداته في أبواب القضاء والسياسة والحرب والمال مجرد اجتهادات، طابعها بشريّ بحت، فإذا تغير الزمان وظهرت الحاجة إلى تغييرها فلا حرج من التغيير باجتهاد جديد، المهم فقط هو أن يحقق الاجتهاد الجديد المصلحة التي تغياها اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا حجية للسنة الواردة في كل هذه الأبواب.
وفي كتابه المتميز “معالم المنهج الإسلامي” يقول الدكتور عمارة رحمه الله: “فالنصوص الدينية التي جاءت بها الرسالة لتحقق مصالح العباد في فروع المتغيرات الدنيوية ليست – كما تشهد بذلك بداهة الفطرة – ليست مرادة لذاتها، وإنّما هي مرادة لعللها وغياتها ومقاصدها، وهي تحقيق مصالح العباد، فهي – أي أحكامها المستنبطة منها – تدور مع هذه العلة الغائية – المصلحة – وجودا وعدما، ويشهد على ذلك اتفاق أهل الاختصاص في فكرنا الإسلاميّ على ضرورة الاجتهاد مع الأحكام التي ارتبطت بعلة تغيرت أو بعادة تبدلت أو بعررف تطور، حتى ولو كانت هذه الأحكام مستندة إلى نص”()، ويستطرد قائلا: “”إنّ هذه النصوص التي تتعلق أحكامها بالتنظيم الإسلاميّ لحركة الواقع الإسلاميّ في فروع المتغيرات الدنيوية؛ ستظل دائما وأبدا تدور مع علتها وحكمتها – وهي مصلحة العباد – وجودا عدما” … وضرب مثالا لذلك تعليق عمر لسهم المؤلفة قلوبهم ولحد السرقة عام الرمادة”().
ويبدو في كلام الدكتور عمارة أنّ الأمر لا يقف فقط عند حدّ الأحكام المأخوذة من السنة والواقعة في مساحة القضاء والسياسة وحسب، بل يتسع ليشمل الأحكام التي تنظم الحياة، فيفهم من سياق كلامه أنّه لا يستثني من ذلك إلا ما كان في مساحة العقائد والعبادات، وكذلك يتوسع ليدخل مع التصرفات النبوية كافة “النصوص الدينية” ويجعل كل هذه الأحكام دائرة على عللها ومقاصدها وعلى تحقيق المصالح التي تتغير وينبغي أن تتغير الاحكام بتغيرها؛ فهو بهذا يقترب كثيرا من قول كثير من العلمانيين الذين تصدى لهم كثيرا؛ حيث جعلوا المصلحة والمقصد الشرعيّ أصلا ثابتا بينما الأحكام تتغير أبدا لتوافق المقصد وتحقق المصلحة.
ويقول حسن عبد القادر في مقال له بمجلة البنوك الإسلامية العدد التاسع صــ45: “فلأي شيء حمل المتأخرون جميع أوامره عليه الصلاة والسلام فيما يرجع إلى المعاملات الدنيوية على الباب الثاني (تعبد) دون الأول الناظر إلى المصالح الدنيوية؟! لأي شيء لم يحملوا أوامره ونواهيه المتعلقة بالأمور الدنيوية كالبيع والإجارة والشركة والسلف والقرض والزراعة ونحوها على أنها أوامر إرشادية سياسية بحسب ما يقتضيه مقام كل أمر أو نهي؟!”().
أمّا الدكتور سعد الدين العثمانيّ فقد وضع كتابا خاصا بتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة، سماه: “تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة الدلالات المنهجية والتشريعية”، وفيه أَّسَّسَ لنزع الحجية والعصمة عن جميع السنة الواقعة في المساحة السياسية، بالحديث عن تنوع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين دينية ودنيوية، وأكثر من سوق نصوص للعلماء والأصوليين في هذا الصدد؛ ليخرج في النهاية بجملة مفادها: “ما دامت الممارسة السياسية النبوية ذاتها نسبية فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية، وإذا كنا مأمورين بالاقتداء في مجال التصرفات النبوية السياسية بالمنهج العام دون الجمود على الأحكام الجزئية؛ فإن الاقتداء الذي أمرنا به للخلفاء الراشدين لا يمكن إلا أن يكون أيضاً اقتداء بمنهجهم في التعامل مع كل نوع من التصرفات النبوية وأسلوب تفاعلهم مع الواقع الإسلاميّ المتغير، أما الأشكال المؤسساتية والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية فإنها نتاج بشريّ محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية والمناخ الثقافيّ لعصرها، ويجب ألا تتحول لجزء من الدين الذي يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم”، واستمر في التسويق لنظريته في كتب ومقالات ومؤتمرات، حتى انتهى إلى نتيجة مفادها أنّ السنة التي هي وحي استثناء من التصرفات النبوية، فيقول بصراحة: “وغاية ما تفيده أقوال كبار العلماء أن من تصرفاته صلى الله عليه وسلم ما هو وحي من الله تعالى”()، وأشاد الدكتور العثمانيّ بمذهب مالك في كتابه “جهود المالكية …” ()؛ لكونه أرشد المذاهب وأسبقها إلى هذا التمييز.
تدبر النصوص النبوية التي اعتمدوا عليها
فأمّا حديث تأبير النخل فهو من أروع الأحاديث التي تُقَرِّر أصلا كبيرا في هذا الدين العظيم، وهو أنّ أمور الدنيا موكولة إلى العقول البشرية والعلوم الإنسانية والخبرات والتجارب، موكولة للإنسان الخليفة يجتهد فيها بما وهبه الله تعالى من العقل والحكمة والنظر، وأنّ الشريعة لا تتدخل في تفاصيلها وإنّما فقط بالحياطة الخارجية عبر قواعد عامة تضبط السلوك والتصرف بما يعظم المنفعة ويدفع المضرة، وهذا – كما أسلفنا – من أعظم وأهم خصائص الشريعة الإسلامية العظيمة.
لكن ما هي على وجه التحديد الأمور الدنيوية؟ هذا هو السؤال الجوهريّ الذي يحمي العقل والفهم من الانزلاق في هذه المسألة الخطيرة، فإنّه من المستحيل شرعاً أن يكون البيع والشراء والرهن والهبة والشركة والمضاربة والحجر والتفليس والدين والقرض من الأمور الدنيوية بإطلاق، مع أنها ليست من العبادات ولا العقاد ولا الشعائر التعبدية، ومثلها مسائل المعاهدات والمهادنات والتحالفات والجهاد والفيء والغنائم وما شابهها، ومثلها عقد البيعة للإمام وعزله عند الاقتضاء والشورى وغيرها، ومثلها القضاء وشروط القاضي والبينات والدعاوى وغيرها، يستحيل أن تكون هذه الأمور التي ليست من أمور الآخرة وليست من الشعائر أن تكون بإطلاق من الأمور الدنيوية، من المستحيل أن تكون كتأبير النخل ينطبق عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
ومن يقول بهذا فيلزمه أن يحدد موقفه بوضوح من الآيات الكريمة الواردة في مثل هذه الأمور، كقول الله تعالى في هذه الآيات: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 275) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29) (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283) (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنفال: 41) (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال: 58) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) (المائدة: 106) (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 5) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38) (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
فكل هذه الأمور من البيع والشراء والرهن والربا وقطع يد السارق وعقوبة المحارب والإشهاد والمعاهدات وتخميس الغنائم وغيرها، مما تعرضت لبيان حكمه آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، هي في حقيقتها أمور من قبيل تنظيم المجتمع وترتيب أحوال الخلق وتنظيم العلاقات بين الناس، وليست من قبيل العبادات والأمور الأخروية؛ فهل نقول إنّها من الأمور الدنيوية على المعنى الذي ورد به الحديث؛ فيكون الناس أعلم بها من الرسول بل من الله الذي أنزل حكمها في كتابه؟! أم نقول إنّ ما جاء في القرآن من هذه الأمور يكون حكما تشريعيا وما جاء في السنة لا يكون حكما تشريعيا؟ وكلا القولين ظاهر البطلان والبوار.
إنّ الجانب الدنيوي في البيع يكون مثلاً في طريقة المساومة وفن عرض السلعة والأدوات التي يستعملها في نقل السلعة ورصفها وعرضها، والأسواق التي تنظمها من الجهة التقنية والتنظيمية وما شابه ذلك، أمّا شروط صحة البيع والمحرمات من البيوع وغير ذلك مما تعرض له القرآن والسنة ببيان الأحكام، كنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر والربا، وعن بيع وتداول ما يحرم أكله، فهي قطعا ليست من الأمور الدنيوية على المعنى الذي جاء في حديث تأبير النخل، وقس على ذلك كل ما ذكرناه وما لم نذكره من الموضوعات التي تعرض القرآن والسنة لبيان أحكامها بالحل أو الحرمة أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة أو الصحة أو البطلان.
لذلك وجدنا الأئمة وهم يتعرضون لشرح الحديث ينبهون إلى ذلك الفارق الواضح رغم دقته، فيقول الإمام القاضي عياض: “ومعنى قوله: (من رأيي) يعنى فى أمر الدنيا، لا فيما رآه أو قاله من قبل نفسه فى اجتهاده فى الشرع والسِّيَرِ”()، وقال أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي: “وقوله: (إذا أمرتكم بشيء من رأيي) يعني به في مصالح الدنيا كما دل عليه بساط هذه القصة، ونصُّه على ذلك، ولم يتناول هذا اللفظ ما يحكم فيه باجتهاده إذا تنزلنا على ذلك، لأنَّ ذلك أمر ديني تجب عصمته فيه، كما إذا بلغه نصًّا، إذ كل ذلك تبليغ شرعه، وبيان حكم دينه، وإن اختلفت مآخذ الأحكام()، وقال الإمام النووي: “قوله صلى الله عليه وسلم من (رأيي أي) في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعا يجب العمل به وليس إبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله”().
لا يحضرني الآن معيار ثابت للتفريق بين ما هو دنيوي وما هو شرعيّ من هذه الأمور، لكن بالاستقراء نستطيع أن نقول: إنّ الفرق بين الأمور الدنيوية وبين الأحكام الشرعية التي هي من “العاديات” كالفرق بين تأبير النخل وبين “المزابنة”، وكالفرق بين زراعة القمح في الشتاء لا في الصيف وبين “المحاقلة”، وكالفرق بين صك النقود وطباعة أوراق البنكنوت وبين “الصرف”، وكالفرق بين وسائل وأساليب التحقيق وبين “الدعاوى والبينات”، وكالفرق بين صناعة السلاح وبين “الجهاد”، وهكذا ..
فتأبير النخل وزراعة القمح وصك النقود وصناعة السلاح وما شابهها من الأمور الدنيوية، التي تركت في الأصل للتجربة البشرية، ولا تتدخل الشريعة إلا بالحياطة الخارجية التي تحفظ النشاط البشريّ من الانزلاق، وتعظم من الاستفادة به، أما المزابنة، والمحاقلة، والصرف والجهاد والإعداد له والدعاوى والبينات والمعاهدات وغير ذلك فهي من “العاديات”، التي هي من أمور الدين وإن لم تكن من العبادات، والتي تنظمها الأحكام الشرعية وإن كان الأصل فيها العفو، وخذ على ذلك مثالاً واحداً: تأبير النخل من الأمور الدنيوية، ولكن المزابنة وهي نوع من بيع منتج ذلك النخل ليست من الأمور الدنيوية، وإلا لقال الرسول عن المزابنة أنتم أعلم بأمور دنياكم مثلما قال عن التأبير، وقس على ذلك في كل الأبواب التي ليست من العبادات ولكنها احتلت في كتب الفقه مساحات تبلغ أضعاف ما احتله العبادات.
وقل مثل ذلك في سائر الأحاديث التي اعتمدوا عليها، فمثلا حديث أم سلمة مرفوعاً في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعني أنّ القضاء كله من أمور الدنيا على المعنى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وإنّما القضاء اشتمل على ما هو من أمور الدنيا وما هو من قبيل العاديات التي هي منطقة تشريع بلا خلاف؛ فسماع الدعوى أمر من أمور الدين، ومن أحكام القضاء في الإسلام، وكذلك وجوب الحكم بما توافر من أدلة مادية ظاهرة، وتنظيم الدعاوى وترتيب البينات، لكن قدرة القاضي على الوصول إلى الحقيقة من خلال سماعه للدعوى ومهارته في اكتشاف اللحن في الحجاج أمر دنيوي، وكذلك أساليب ووسائل التحري وما يتعلق بها من تقنيات ونظم وأوضاع تنظيمية، واطلاع الحاكم الذي يقضي في المنازعات على بواطن الأمور ليس ممكناً، وليس الحاكم مسلطاً على بواطن الأمور، “وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر) معناه التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئا، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر”().
هذه الأمور الدنيوية يوجد منها في عالم السياسة وفي النظم السياسية الكثير المتنوع، فأغلب ما يدخل في باب الآليات والأدوات وما هو من قبيل الأمور التقنية المادية هو من أمور الدنيا، ومناهج الإدارة للدولة ومؤسساتها، وكذلك أساليب التعامل الدبلوماسي، وما شابه ذلك مما هو موكول إلى قدرات البشر يُعَدُّ من أمور الدنيا، وما دامت كذلك فليست مما يشمله التشريع، وإنما هي متروكة للإبداع الإنسانيّ، وللحكمة الإنسانية، وللتجارب البشرية المتراكمة، وهكذا، أمّا الأحكام الشرعية فشأن آخر؛ فإنّ: “شؤون الدنيا يتعلق بها أمران، الأمر الأول: ما يختص بكيفية هذه الشئون من ناحية الصنع والإدارة؛ فهي متروكة للمختصين، وأمّا الأمر الثاني: فهو ما يتعلق بالناحية التكليفية، من حيث الحل والحرمة فهذا خاص بالشرع“().
فأسس النظام الإسلاميّ كالعدل والشورى وسيادة الشريعة وسلطان الأمة من الأمور الدينية، وكذلك الأحكام الشرعية التي تحقق هذه الأسس في واقع الناس وتنظمها كالأحكام المتعلقة بتحقيق العدالة في الحكم والقضاء والاقتصاد وتوزيع الثروة وغير ذلك؛ جميعها من الدين وليست من أمور الدنيا، وكذلك الأحكام المؤطرة والمنظمة لمؤسسات النظام الإسلاميّ والتي اسْتُخْلِصت من السنة القولية والعملية ومن سنة الخلفاء الراشدين التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدّة؛ كلها من أمور الدين لا من أمور الدنيا، وكذلك الأحكام التي تنظم الممارسة السياسية داخليا وخارجيا بما يتفق مع مقاصد الشريعة وأسس وقواعد النظام الإسلامي، مثل أحكام الحرب وآثارها والمهادنات وشروطها، كل ذلك من أمور الدين لا من أمور الدنيا.
فإذا أخذنا مؤسسة الخلافة مثالا لأمر يشتمل على أمور دينية شرعية تنظمها أحكام الشريعة وأمور دنيوية متروكة لاجتهاد العقول وللتجربة البشرية؛ فإننا نجد أنّ شروط من يتولى الخلافة وطريقة توليته ووجوب طاعته وشروط هذا الوجوب، وواجباته تجاه الرعية، وتنظيم العلاقة بينه وبين الرعية، وما يجب له وما يجب عليه داخليا وخارجيا، وأحكام إنهاء ولايته أو انتهائها، وغير ذلك من أمور الدين التي يجب أن تؤخذ من النصوص الشرعية أو من الاجتهاد الشرعيّ، أمّا الأمور التقنية وآليات الاختيار ومؤسسات الخلافة المادية والتقنية والتنظيمية، وأساليب إدارته وبروتوكولات دبلوماسيته وغير ذلك فهذه أمور دنيوية، فمن حق الأمة أن تستبدل بالبيعة صناديق الانتخاب بشروط معينة تجعلها متفقة مع أحكام الشريعة، ومن حقها بل من واجبها كذلك أن تطور المؤسسات فنيا وتقنيا وماديا وتنظيميا بما يناسب الزمان ويساعد على تحقيق مقاصد الشريعة الغراء.
وإذا كان في تاريخ الخلفاء خطأ قد وقع يستحق أن نقف عنده وننسبه إلى ذلك الجيل الطهور فهو غفلة الأمة عن واجب كبير من واجبات الوقت، وهو نقل مؤسسات الدولة الإسلامية – وعلى رأسها مؤسسة أهل الحل والعقد ومؤسسة السلطة التشريعية – من الطور البسيط الذي كان مناسباً وكافياً للحياة البدوية البسيطة إلى الطور الحضاري المعقد الذي يواكب انفتاح الأمة الإسلامية على العالم من حولها ويلبي الحاجة التي فرضتها سرعة الفتوح، وذلك عبر تطوير الجوانب الفنية في هذه المؤسسات ووضع آليات جديدة تستجيب للطفرة الكبيرة التي حدثت بعد الفتوح الهائلة، سواء كان ذلك بالابتكار أو بالاقتباس.
ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في غاية اليقظة يوم أن افتتح مسيرة مباركة لم تكتمل بعده إلا في عهد عبد الملك بن مروان؛ بما وضعه من دواوين، وبما أدخله على بيت المال من تعديلات في اللوائح التنظيمية والقرارات الإدارية، التي تعد من قبيل الأمور الدنيوية، والسبب في توقف هذه المسيرة هو الفتنة التي عاجلت الأمة فأذهلتها عن كثير من واجبتها، وأعتقد – إلى درجة اليقين – أن مؤسسة كمؤسسة أهل الحل والعقد لو وضع لها ما ينظم عملها من تراتيب إدارية ولوائح تنظيمة وغير ذلك من الأمور الدنيوية التي إن اتخذت حكم الوجوب فإنما هو من قبيل مالا يتم الواجب به فهو واجب؛ لو كان ذلك لما وقع الانحراف الذي غير – بشكل جذريّ – مسار السياسة في الإسلام، ولكان للأمة في عالم السياسة شأن لا يدانيه شأن.
ولا شك أن آليات اختيار الحاكم وانتخابه، وآليات إدارة الشورى، وكذلك كل ما يمكن أن يقتبس من الغير إذا احتاجت الأمة إليه كالفصل بين السلطات وتوقيت عقد الإمامة وغير ذلك، ومثله جميع ما يدخره الزمان من مبتكرات العقل البشريّ في ميدان الآليات والأدوات؛ كل هذا ممّا تركته الشريعة الغراء للاجتهاد البشريّ والخبرة الإنسانية في إطار تحقيق المصلحة، وكل هذا من أمور الدنيا.
توجيه أقوال العلماء
بداية ينبغي – سواء اتفقنا أو اختلفنا مع تقسيم القرافيّ – أن نقرر وأن نُقِرَّ بأنّ تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا تخرج مخرج الشرع لا يثبت بها شرع، فقد قال العلماء: إنّ “ما لم يخرج من أفعال الرسول مخرج الشرع لا يثبت فيه الشرع”()، لكنْ هل هذا يعني أنّ تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية اتجاه يمكن أن يوافق عليه العلماء؟ هذه مسألة أخرى؛ لأنّ ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير وجه التشريع ليس هو الأصل، بل هو استثناء من الأصل، وما كان استثناء من الأصل لا يكون قسيمه، فالأصل أنّ الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة وشريعة، وجعله أسوة وقدوة للناس في أقواله وأفعاله وجميع تصرفاته، فإذا كانت رسالة الإسلام عامة وشاملة، وإذا كانت شريعة الإسلام لها سلطان على كافة مناحي الحياة، مع كون رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة؛ فإنّ ذلك يعني أنّ الأصل في جميع تصرفاته أنّها تشريع، إلا ما استثني، والذي يستثنى لا يستثنى إلا بدليل أو قرينة تنقل التصرف إلى غير مساحة التشريع.
ومن هنا فإنّ الأصل في التصرفات النبوية في أي باب أنّها حجة، هذا هو الأصل، والذين نازعوا في حجيتها خارج دائرة العبادات قلة نادرة لا أحسبها تقلل من قيمة الإجماع، يقول الآمديّ: “إذا فعل النبي عليه السلام فعلاً ولم يكن بياناً لخطاب سابق، ولا قام الدليل على أنه من خواصه، وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة إما بنصه عليه السلام على ذلك وتعريفه لنا أو بغير ذلك من الأدلة، فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا متعبدون بالتأسي به في فعله واجباً كان أو مندوبا أو مباحا، ومنهم من منع من ذلك مطلقا، ومنهم من فصل كأبي علي بن خلاد، وقال بالتأسي في العبادات دون غيرها، والمختار إنما هو المذهب الجمهوري ودليله النص والإجماع، أما النص فقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا}، ولولا أنه متأسى به في فعله ومتبع، لما كان للآية معنى، وهذا من أقوى ما يستدل به هاهنا، وأيضا قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة، فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع، وأيضا قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}، ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم، وهو الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر، والمتابعة والتأسي في الفعل على ما بيناه في المقدمة: هو أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل من أجل أنه فعل، وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله كرجوعهم إلى تزويجه لميمونة، وهو حرام وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى”().
ويقول الإمام الطاهر بن عاشور: واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها اختصاصاً برسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته، حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}، فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأقوال والأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة صادراً مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك“().
وتقسيم الإمام القرافيّ رحمه الله لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي نقلناه عنه آنفاً لا يعني أنّه يقرّ بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ولم يقصد قط ما قصده هؤلاء المعاصرون من إخراج تصرفاته بالإمامة والقضاء عن دائرة الحجية، وإنما الذي قصده تحديدا هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها، فما كان من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء فلا يوكل إلى آحاد الناس التصرف بها إلا عن طريق قاضي الوقت (الحاكم) وما كان منها بالإمامة فلا يصح لآحاد الناس أن يتصرفوا فيها إلا عن طريق الإمام في الوقت، أما ما كان بطريق البلاغ أو الفتيا فموكول إلى كل فرد التصرف به مباشرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقف على إمام أو حاكم، وهذه بعض أقوال الإمام القرافيّ أسوقها هنا للتأكيد على هذا المقصد.
يقول الإمام القرافيّ: “فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الأقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرِّراً لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون). وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود … فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر … وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا نظر إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكم بذلك السبب، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم”()
ويقول أيضاً: “من أحيا أرضا ميتة فهي له” قال أبو حنيفة: هذا منه صلى الله عليه وسلم تصرف بالإمامة؛ فلا يجوز لأحد أن يحي أرضا إلا بإذن الإمام … وقال مالك والشافعيّ: هذا منه صلى الله عليه وسلم تصرف بالفتيا … فعلى هذا لا يتوقف الإحياء على إذن الإمام”() ويقول: “من قتل قتيلا فله سلبه ” قال مالك: هذا تصرف من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإمامة، فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام في ذلك قبل الحرب … وقال الشافعيّ: هذا تصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الفتيا؛ فيستحق القاتل السلب بغير إذن الإمام”()
ويقول في الذخيرة:”المسألة مبنية على قاعدة، وهي أنه – صلى الله عليه وسلم – له أن يتصرف بطريق الإمامة؛ لأنه الإمام الأعظم، وبطريق القضاء؛ لأنه القاضي الأحكم، وبطريق الفتيا؛ لأنه المفتي الأعلم، ويتفق العلماء في بعض التصرفات وإضافته إلى أحد هذه العبارات ويختلفون في بعضها كقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان – لما شكته له بالبخل – (خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف) قال مالك وجماعة: هذا تصرف بالفتيا لأنه الغالب على تصرفه التبليغ فمن ظفر بحقه من خصمه العاجز عنه أخذه من غير علمه، ويؤكد أنه لم يلزمها بإثبات دعواها ولا بإحضار خصمها، ولو كان تصرف بالإمامة أو بالقضاء لتعين ذلك، وقال قوم هذا تصرف بالقضاء فلا يأخذ أحد من مال خصمه شيئا إلا بإذن القاضي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في تلك الواقعة بالقضاء، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله سَلَبُه) قال: هذا تصرف بالفتيا لأنه غالب تصرفه، وقال مالك: هذا تصرف بالإمامة؛ فلا يستحق أحدٌ سَلَباً إلا بإذن الإمام، وخالف أصله السابق لما تقدم تقريره في الجهاد، وكذلك اختلف ههنا هل هو تصرف بالفتيا فلا يحتاج الإحياء إلى إذن الإمام أو بالإمامة فيحتاج؟”().
إِذَنْ “فالمقصود من كلام القرافيّ البحثُ عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا للاختصاصات وتوزيعا للسلطات وحصرا لما يدخل في اختصاص كل سلطة“()، وبيان الطريقة التي يتم بها تطبيق كل نوع من الأحكام التي شرعت بالكتاب والسنة، وليس المقصود إدخال بعضها في دارة التشريع وإخراج البعض الآخر من دائرة التشريع.
ويزيد الإمام ابن فرحون المسألة وضوحاً فيستطرد بضرب أمثلة لأحكام شرعية لا يمكن العمل بها – وإن كانت بتشريع القرآن والسنة – إلا من خلال القاضي أو الحاكم، فيقول: “الأحكام على أربعة أقسام، القسم الأول: لا بد فيه من حكم الحاكم وهو ما يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد في تحرير سببه ومقدار مسببه، وذلك كالطلاق بالإعسار والطلاق بالاضطرار والطلاق على المولى؛ لأنه يفتقر إلى تحقيق الإعسار، وهل هو ممن يلزمه الطلاق بعدم النفقة أم لا، كما لو تزوجت فقيرا علمت بفقره فإنها لا تطلق عليه بالإعسار بالنفقة، وكذلك تحقيق حاله، وهو هل هو ممن يرجى له شيء أم لا؟ ، وكذلك تحقيق صورة الإضرار، وكذلك يمين المولى، ينظر هل هي لعذر أو لغير عذر؟ كمن حلف أن لا يطأها وهي مرضع خوفا على ولده فينظر فيما ادعاه، فإن كان مقصوده الإضرار طلقت عليه، وإن كان لمصلحة لم تطلق عليه، وكذلك التطليق على الغائب، وكذلك التطليق على المعترض ونحو هؤلاء … ومما يفتقر إلى حكم الحاكم تفليس من أحاط الدين بماله … وكذلك قسمة الغنائم، وإن كانت معلومة المقادير، وأسباب الاستحقاقات فلا بد فيها من الحاكم، ولو فوضت لجميع الناس لدخلهم الطمع، وأحب كل إنسان لنفسه من كرائم الأموال ما يطلبه غيره، فكان ذلك يؤدي إلى الفتن، وكذلك جباية الجزية وأخذ الخراجات من أراضي العنوة لو جعلت إلى العامة لفسد الحال، فلا بد فيها من حكم الحاكم، وكذلك التعزيرات؛ لأنها تفتقر إلى تحرير الجناية وحال الجاني والمجني عليه، فلا بد فيها من الحاكم، وكذلك ما جرى هذا المجرى كاستيفاء القصاص. وكثير من الأحكام، يطول تتبعها“().
وما يقال في هذا التقسيم الذي قال به القرافي وغيره، يقال في سائر التقاسيم التي قصد بها العلماء ترتيب الاستدلال وتنظيم التنزيل، كتقسيم الشاطبي وغيره حيث قسموا الأعمال إلى عبادات الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني وإلى عاديات الأصل فيها الالتفات إلى المعاني، فالعبادات لا ينظر فيها للعلة إلا في حالات قليلة، أغلبها فيما لم يتمحض للتعبد، ومن ثم فاستعمال القياس فيها نادر، والتعويل فيها على النص هو الأصل؛ لأن الأصل التوقيف، ولأن تفاصيل العبادات في الغالب غير معقولة المعنى، أي أن العقل من حيث الأصل لا يستقل بإدراك علة ورودها على النحو الذي وردت عليه، فمثلاً إدراك الحكمة في أن تشتمل الركعة على ركوع واحد وسجودين، أو في أن تأتي صلاة المغرب ثلاثاً بينما العشاء أربعاً، وأن تكون صلاة الليل جهرية والنهار سرية، وهكذا، أما العاديات فالأصل فيها الالتفات إلى المعاني، لذلك فالعلة فيها مدار الأحكام، والقياس فيها كثير وغزير، ولا يتوقف فيها على ورود نص، وإنما عند عدم النص يستعمل القياس، إلى غير ذلك من النتائج التي تنظم الفقه والتفقه، وترتب الأحكام على نحو غير مضطرب.
أما أنّ هذه العاديات توكل إلى البشر والحكمة البشرية وغير ذلك مما ينتهي إليه فقه العثمانيّ وغيره فهذا ما لا يمكن أن يقول به أحد من علماء هذه الأمة، ولا يمكن أن تجد له في الشريعة مسلكاً، ولن تبلغه إلا بسلوك السبل المعوجة التي ليست من ديننا في شيء، من مثل ما سلكه الدكتور وهو يلبس على القاريء بذلك الإلصاق الغريب الذي يؤدي إلى خلط المفاهيم، وهو إلصاق كلمة (دنيوية) مع مصطلح (العاديات) وأحياناً كلمة (مدنية) وهو إلصاق ستراه في سائر ما كتب في هذا الشأن مستمراً لا يكاد يتخلف إلا في القليل النادر.
إنَّ تقسيمَ بعض المعاصرين للتصرفات النبوية إلى تشريعية وغير تشريعية، وإخراجَهم التصرفاتِ النبوية في أبواب الإمامة والقضاء من الحجية، وحصرَهم السنة التشريعية في أبواب الشعائر والأخلاق والعقائد، هذا التقسيم المبتدع المحدث لا علاقة له بالتقسيم الآخر الذي ذكره القرافيّ وغيره مما اعتمدوا عليه واتخذوه متكأً لقولهم، والذي يؤكد ذلك – إضافة لما أسلفنا – أنّ هناك من التصرفات بالعبادة والقربة ما اعتبره بعض العلماء خارجاً عن التصرفات التشريعية، لكونه وقع اتفاقاً أو لسبب آخر غير التأسي.
من ذلك – مثلاً – ما رواه مسلم عن عائشة أنها قالت: «نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج»() ومن هنا اختلف العلماء في استحبابه واعتباره من سنن الحج، والمنقول “أن أبا بكر وعمر وابن عمر والخلفاء رضي الله عنهم كانوا يفعلونه، وأن عائشة وابن عباس كانا لا ينزلان به، ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود؛ فحصل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب الشافعي ومالك والجمهور استحبابه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين وغيرهم، وأجمعوا على أن من تركه لا شيء عليه”()
وعن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رمل بالبيت، وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وكذبوا؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، وكذبوا، ليس بسنة، إن قريشا قالت: زمن الحديبية: دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يقدموا من العام المقبل، يقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ” ارملوا بالبيت ثلاثا “، وليس بسنة. قلت: ويزعم قومك أنه طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا. فقلت: وما صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا، قد طاف بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا، ليس بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله، ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه ولا تناله أيديهم …”()
فالتصرفات غير التشريعية هي التصرفات التي هي من أمور الدنيا، في أيّ قسم من أقسام الدين وقعت، وهي غالباً ما تكون في نوعين من التصرفات:
1- أمور سبيلها التجربة والدربة في الحياة، والخبرة بأحوالها فيما اعتاده الناس، كشئون الزراعة والطب، فهذه يجتهد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاد غيره، ويخطيء ويصيب، وليست شرعا …
2- أمور أخرى سبيلها التدبير الإنساني اعتمادا على الظروف الخاصة، كتوزيع الجيوش في المواقع الحربية، وتنظيم الصفوف في الموقعة، واختيار أماكن النزول، وطرق الكر والفر، فهذه كذلك ليست شرعا يتعلق به طلب الفعل أو الترك، ولكنها من الشئون البشرية التي لا يكون مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تشريعا ولا مصدر تشريع…()
وإذا كان تقسيم القرافيّ لا يصلح متكأً لهم فإنّ سائر النقول التي نقلوها عن غيره كابن قتيبة والدهلوي وغيرهما لا تصلح من باب أولى؛ فما صرح واحد من هؤلاء جميعا بشيء مما فهمه هؤلاء، وليس في كلامهم ما يدل من قريب أو بعيد إلى ما ابتدعوه من التقسيم للسنة إلى تشريعية وغير تشريعية، ومما يؤكد أنّ تقسيمات الأوائل لا تعني مطلقاً ما ذهب إليه هؤلاء المتكلفون أنّ علماء الأمة قاطبة – وفي القلب منهم القرافيّ وغيره ممن تكلموا في هذه التقاسيم – لم يظهر على مسلكهم في التصنيف الفقهي ما يدل على أنّهم قصدوا ذلك المعنى البعيد؛ فهل يصح أن يقرروا في الأصول شيئاً لا يلتزمونه في الفروع قط، إلى حدّ أن يكون عاماً طامّاً لا يتخلف عند أحد منهم ؟!
فها هم جميعاً يصنفون في الفقه، فيتطرقون إلى أحكام الإمامة والموادعات وآثار الحرب والجهاد والقضاء وغير ذلك بذات الطريقة التي يتناولون بها كافة أبواب الدين، معتمدين على ذات المصادر: الكتاب والسنة والإجماع القياس وغير ذلك، وسأضرب مثالاً بالقرافيّ نفسه وأسوق نصاً من كلامه في الذخيرة، يتعرض فيه لفقه الإمامة دون أن يشير من قريب أو بعيد إلى أنها تجربة تاريخية نسبية أو أنّ تصرفات الرسول والخلفاء غير تشريعية، فها هو يقول: “ولنقتصر من الولايات على مهماتها وهي سبعة، الولاية الأولى: الخلافة العظمى، وهي الولاية، وهي واجبة إجماعاً، إلا الأصم، ووجوبها على الكفاية، أما وجوبها فلقوله تعالى {أطيعوا الله واطيعو الرسول وأولي الأمر منكم} فطاعتهم فرع وجودهم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولما في مسلم اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشياً ولأن عدمها يفضي إلى الهرج والتظالم وذلك يجب السعي في إزالته، ولا طريق في مجرى العادة إلا الإمامة، وأما كونها على الكفاية فلأن القاعده أن كل فعل تكرر مصلحته بتكررها فهو على الأعيان وما لا فعلى الكفاية، فالأولى كالصلوات مقصودها الثناء على الله تعالى وتعظيمه وذلك يتكرر بتعدد المصلين فشرعت على الأعيان تكثيرا للمصلحة، والثاني كإنقاذ الغرقى فإن النازل لك بعد الإنقاذ لا يحصل مصلحه؛ فشرعت على الكفاية نفيا لفعل العبث … قال ابن بشير … وشروط المختارين للإمام ثلاثة: العلم بشروط الإمامة، والعدالة، والحكمة والرأي الموديان للمقصود … قال ابن بشير وشروط الإمام ثلاثة: النجدة، وشرائط الفتوى، والكفاية في المعضلات، وقال المارودي من الشافعية شرائطها سبعة … ويقدم أهل الحد والعقد أكثر المستحقين فضلا وأكملهم شرطا ممن يسرع الناس إلى طاعته، فإذا عينوه عرضوها عليه، فإن أجاب بايعوه، ولزم جميع الأمة الدخول والانقياد … فإن ظهر بعد بيعة الأفضل من هو أفضل منه لم يعدل عن الأول لصحة عقده وإن ابتدأ بالمفضول لغيبة الأفضل أو مرضه أو كون المفضل أطوع في الناس صح أو لغير عذر فقال الجاحظ وغيره لا ينعقد لفساد الاجتهاد بالتقصير وقال الجمهور ينعقد كما يجوز ذلك في القضاة يولي المفضول ولحصول شرائط الصحة ولأن الزيادة من باب التتمة لا من باب الحاجة … قال ابن بشير وهل ينعقد بغير بيعة لأن مقصود العقد الاختيار وهذا متعين أو لا بد من العقد قاله الجمهور كالقضاء لا بد له من عقد ويأثم أهل العقد إذا امتنعوا وقال الفريق الأول يصير المنفرد قاضيا من غير عقد كما يصير المنفرد بشروط الصلاة إماما والفرق أن القضاء ولاية خاصة يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته والولاية حق عام لا يجوز عزل المتصف بشروطها بعد ولايته”().
أرأيت كيف يسلك الرجل في باب الإمامة ذات المسلك في سائر أبواب الشريعة من الاستدلال بالكتاب والسنة والقياس، ومن النص على أحكام شرعية كالوجوب والحرمة الجواز والشروط وغير ذلك؟! فأين إذن أثر التقسيم إلى سنة تشريعية وغير تشريعية إن كان ذلك قصده؟! كان المفترض بموجب ذلك أن يقول ويطيل القول في أنّ ما فعله الرسول الخلفاء إنّما فعلوه بموجب العادة ومقتضى التجربة البشرية، ولا حجية فيه، وأنذ الناس يجب أن يقيموا حكمهم بما تقتضيه تجاربهم.
وهذه أمثلة لآخرين ممن اتكأ هؤلاء على تقاسيمهم، فالقاضي عياض في صدد شرحه لحديث عمر موقوفا: (إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن اترك فقد ترك ممن هو خير مني) كان من المفترض بموجب ما نسبوه إليه من القصد والمعنى والمراد من تقسيمه أن يعلق بأنّ الاستخلاف وغيره من تلك الأساليب الواردة عن الصحابة اجتهادات دنيوية صلحت لزمانهم بحكم العادة والتجربة، ولكل زمان اجتهاداته، فيجب أن نختار ما يصلح لنا في زماننا إن كان الملك أو الخلافة أو غير ذلك، لكنّه لم يقل شيئا كهذا الذي لو تعرض له هؤلاء لأوغلوا في تصريفه على نحو يبتعد بالحديث عن معناه وما يستفاد منه من أحكام، وإنّما قال رحمه الله تعالى تعليقا على الحديث: “فيه أن الاستخلاف غير لازم؛ إذْ لم يفعله النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه جواز انعقاد الخلافة بالوجهين بالتقديم والعقد من المتولى كفعل أبى بكر لعمر، أو بعقد أهل الحل والعقد والاختيار كفعل الصحابة بعد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مما أجمع المسلمون عليه”().
وفي موضع آخر – بعد أن ساق حديث عَبْدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ فِى النَّفَلِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا) – يقول: “وقوله: (قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى النفل: للفرس سهمين، وللرجال سهماً) … فيه تسمية الغنيمة نفلاً، ويحتج به من ذهب إلى أن المراد بالآية الأولى فى سورة الأنفال الغنائم المذكورة فى الآية الثانية، قال الإمام: هكذا مذهب مالك فى القسمة المستحقة فى أصل القتال، يقسم للفرس سهمان، وللرجل سهماً. وقال أبو حنيفة: بل يقسم للفرس سهم كما يقسم للرجل، ولا يكون أعظم منه حرمة … وحمل أبو حنيفة ما وقع من الأثر على أن المراد بقوله: (سهمان للفرس) أى هو وفارسه … لكن يرفع هذا الاحتمال ما ورد مفسراً فى حديث ابن عمر هذا من رواية أبى معاوية وابن نمير وأبى أسامة وغيرهم؛ (أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه) … وبقول مالك قال سفيان الثورى والأوزاعى والليث بن سعد والشافعى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والطبرى … ولم يتابع أحد أبا حنيفة على قوله، إلا شىء روى عن على وأبى موسى … وذهب الثورى والأوزاعى وأبو يوسف والليث بن سعد إلى أنه يسهم للفرسين”().
وفي صدد تعليقه على حديث القسامة – وهو في أبواب القضاء – يقول: “حديث القسامة المذكور أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأئمة، والسلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأئمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين”()، وفي أبواب القضاء أيضا يقول: “وأما نحن فإنا نقبل الشاهد واليمين فى الأموال، ونرى أن الزيادة على النص لا تكون نسخاً فى كل موضع”().
وهذا ابن قتيبه الدينوريّ أحد الذين نسبوا إليه ما ذهبوا إليه من الفهم الخاطئ للتقسيم الوارد عنه، أنقل عنه بعض ما قاله في أبواب القضاء والحكم، يقول: “قالوا: رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده)، ورويتم أنه قال: (لا قطع إلا في ربع دينار) … قال أبو محمد: ونحن نقول: إن الله عز وجل، لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده) على ظاهر ما أنزل الله تعالى عليه في ذلك الوقت، ثم أعلمه الله تعالى: أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فما فوقه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علمه الله عز وجل، ولا كان الله تبارك وتعالى يعرفه ذلك جملة، بل ينزله شيئا بعد شيء، ويأتيه جبريل عليه السلام بالسنن، كما كان يأتيه بالقرآن، ولذلك قال: “أوتيت الكتاب، ومثله معه” يعني من السنن؛ ألا ترى أنه -في صدر الإسلام- قطع أيدي العرنيين وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم بالحرة، حتى ماتوا – ثم نهى بعد ذلك عن المثلة؛ لأن الحدود في ذلك الوقت لم تكن نزلت عليه، فاقتص منهم بأشد القصاص لغدرهم، وسوء مكافأتهم بالإحسان إليهم، وقتلهم رعاءه وسوقهم الإبل، ثم نزلت الحدود، ونهي عن المثلة … “().
ويقول: “قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجم ورجمت الأئمة بعده، والله تعالى يقول في الإماء: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والرجم إتلاف للنفس لا يتبعض، فكيف يكون على الإماء نصفه؟ … وليس المحصنات ههنا إلا الحرائر، وسمين محصنات، وإن كن أبكارا، لأن الإحصان يكون لهن وبهن، ولا يكون بالإماء، فكأنه قال: “فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب” يعني: الأبكار … ومما يشهد لهذا التأويل الذي تأولناه في المحصنات، وأنهن -في هذا الموضع- الحرائر الأبكار، قوله تعالى في موضع آخر: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم} والمحصنات -ههنا- الحرائر ولا يجوز أن يكن ذوات الأزواج لأن ذوات الأزواج لا ينكحن”().
ويقول أيضا: “قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) والله تعالى يقول: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين}، والوالدان وارثان على كل حال، لا يحجبهما أحد عن الميراث. وهذه الرواية، خلاف كتاب الله عز وجل … ونحن نقول: إن هذه الآية منسوخة، نسختها آية المواريث … وقال عز وجل: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} … فليس لأحد أن يوصل إلى وارث من المال، أكثر مما حد الله تعالى وفرض”().
وهذا الإمام الدهلويّ في أبواب من التي أخرجوها عن دائرة السنة التشريعية يقول كلاما تشريعيا صرفا: “ولا يعتبر في القصاص والحدود إلا شهادة رجلين، والأصل فيه قول الزهري رحمه الله تعالى: جرت السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تقبل شهادة النساء في الحدود”()، ويقول: “قال تعالى: {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم}، اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مبينا لما أنزل إليه، وهو قوله تعالى: {لتبين للناس}، وكان أخذ مال الغير أقساما: منه السرقة، ومنه قطع الطريق، ومنه الاختلاس، ومنه الخيانة، ومنه الالتقاط، ومنه الغصب، ومنه ما يقال له قلة المبالاة والورع، فوجب أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة السرقة متميزة عن هذه الأمور … فضبط النبي صلى الله عليه وسلم الاحتراز على ذاتيات هذه الأسامي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار) وروى القطع فيما بلغ ثمن المجن، وروى أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة ثمنها ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما. … وقال صلى الله عليه وسلم: ” لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة الجبل فإذا آواه المراح والجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ” وسئل عن الثمر المعلق، فقال عليه السلام: (من سرق منه شيئا بعد ان يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع )، أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الالتقاط فيجب الاحتراز عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع )، أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بد في السرقة من أخذ المال مختفيا وإلا كان نهبة أو خطفة وألا يتقدمها شركة ولزوم حق، وإلا كان خيانة أو استيفاء لحقه”().
تلك كانت نقولا عن العلماء الذين اتكأ أكثر المعاصرين القائلين بتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية على أقوالهم وتقاسيمهم التي لم يقصدوا بها قط ما ذهب إليه هؤلاء المعاصرون، وهذه النقول تثبت أن قصدهم كان بعيدا كل البعد عمّا تخيله هؤلاء، فإذا لم يكن لفظهم ولا قصدهم محتملا لتقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية بطل الاعتماد على ما نقل عنهم، ومن ثمّ نقول إنّ هذا المذهب المعاصر لا مستند له من علماء الأمة؛ فهو قول مبتدع محدث، وإن كنّا نُكِنُّ للقائلين به احتراما وتقديرا.
النتيجة
والنتيجة هي أنّ تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وغير تشريعية قول محدث مبتدع، ليس له في دين الله أصل، وليس له في الكتاب أو السنة مُستنَد، وليس له في كلام العلماء وأقوال السلف مُعتمَد ولا مُعتضَد، وإذا كان العلماء قد أخرجوا بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم من دائرة التشريع لكونها من الأفعال الجبلية أو من الأمور الدنيوية البحتة، فإنّ هذا لا يعني أنّ تلك الأفعال المستثناة أصل بذاتها، ومن الخطأ والخطل والخطر أن نجعلها أصلا قائما بذاته؛ إذْ يعطيها ذلك بمرور الزمن صلاحية الاجتذاب لكثير من العناصر التي لا تنتمي إليها ولا تنتسب لها، وهذا عين ما وقع بالتدريج، ولو استمر ذلك التنازل فسيأكل الدين كله إلا قليلا، ومن تتبع مسالك التحريف التي أضاعت كثيرا من الشرائع سواء ما كان منها حقا أو باطلا وجد ذلك المسلك حاضرا بقوة.
ثم إنّ العلماء لم يسلموا بأنّ هذه الأمور مستثناه من التشريع بإطلاق، فإنّ الأكثرية منهم على أنّها تدل على الإباحة، وهو حكم شرعيّ، “ولا ينافي هذا كون المكلف مخيرا بين فعل المباح وتركه؛ لأنّ اختياره ليس مطلقا، بل مقيدا، فلا يسعه أن يصير المباح واجبا أو حراما أو مندوبا أو مكروها”()، ثم إنّ المباح ما صار مباحا إلا ببيان من الشرع، وهذا البيان قد يكون بفعل الرسول للمباح، وقد يكون بسكوت الشرع عنه ليبقى على الأصل، إضافة إلى النص على الإباحة وإن كان هو الأقل ورودا؛ صحيح أنّ الأصل هو الإباحة والحل، لكن استصحاب هذا الأصل لا يعطي حكم الإباحة إلا بقصد الشرع إلى تركه على أصله، وامتثال العبد لحكم الشرع يكون بعدم تحريم ما أحل الله، وبتوافر نيته على أنّه لولا أنّ الله أحله ما فعله، فهو يثاب على ما يأتي ويذر من أعمال دنيوية بهذه النية.
فجماهير العلماء على أنّ الإباحة حكم شرعيّ؛ لامتناع وجود هذا الحكم قبل ورود الشرع، وقد قال بعض المعتزلة بأنّ الإباحة ليست حكما شرعيا؛ لأنّ الإباحة تفيد انتفاء الحرج عن الفعل والترك، وهذا ثابت قبل ورود الشرع ومستمر بعده، فهو على النفي الأصليّ، ويرى البعض أن ما ورد فيه خطاب من الشارع بالتخيير فهو حكم شرعي، وما عداه مما هو على البراءة الأصلية والانتفاء الأصليّ السابق لورود الشرع فليس حكما أصليا، والحقيقة أنّ كليهما حكم شرعيّ وإن اختلفت الدرجة والرتبة التي ترفع ما ورد به خطاب بالتخيير على الآخر، لأنّ الشرع عندما ورد بمنع أمور على وجه التحريم وأخرى على وجه الكراهة كان هذا المنع بياناً شرعياً لحكم آخر، وهو حكم ما سكت عنه، فحكمه أنّه باق على أصل الإباحة، أي أنّ ورود الشرع بمنع بعض الأمور دون بعض بيان لمراد الرب في هذا وهذا، في هذا أنه محرم أو مكروه، وفي هذا أنّه باق على الإباحة الأصلية التي حكم الله بها عندما أوجده، فثبوت الإباحة الأصلية قبل ورود الشرع لا يعني أنّ الشرع لا شأن له بها؛ لأنّ نفس البراءة الأصلية والإباحة الأصلية وانتفاء الحرج عن الفعل والترك حكمٌ لله تعالى فيها يوم خلقها وسخرها للإنسان، ومجيء الشرع من الله تعالى باستثناء أشياء من هذا الأصل بيان للكل: ما استثني من الأصل وما بقي عليه، والبراءة الأصلية وإن كانت ثابتة قبل ورود الشرع فهي ليست أقدم من حكم الله، فحكم الله هو الذي أثبت البراءة الأصلية، ثم جاء حكم الله باستثناء أمور من هذه البراءة الأصلية، ولولا ملابسات واقعية في حياة الناس استدعت أن ينص القرآن والسنة على إباحة بعض الأشياء لكان الاستثناء من الأصل كافيا في بيان حل المستثنى منه، أمّا كون المباح ليس تكليفا فهذا ليس على إطلاقه، بل هو تكليف للإرادة ألا تتوجه إلى الامتناع عن المباح التزاما وإلزاما للاعتقاد بأنه محرم.
ويؤكد الإمام الشاطبيّ هذه الحقيقة على طريقته الكلية من زاوية أخرى؛ فيقول: “ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض، وقد لا يكون؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلا، كيف يقال إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا، حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق، وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدا، وبالعكس، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71] ؛ فإذَنْ، إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاء من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله”().
ولم يشك أحدد من علماء المسلمين لحظة في أنّ اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع متبع، سواء منهم من قال بذلك بناء على جواز الاجتهاد منه، ومن قال به على وجه التنزل وهم لا يقولون بجواز الاجتهاد منه وبأن كل ما ينطق به وحي، والجمهور على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز له الاجتهاد الشرعي وأنّه قد وقع منه، وأنكر ذلك أكثر المعتزلة والأشاعرة وبعض الحنابلة، والجمهور اختلفوا: أيجوز عليه الخطأ في اجتهاده؟ والراجح الذي عليه جمهورهم أن هذا جائز ولكن لا يُقَرُّ عليه، وعلى هذا يكون اجتهاده تشريعا بلا خلاف عند القائلين بأنه يقع منه الاجتهاد، ويتابعهم على ذلك – على وجه التنزل – الفريق الآخر الذي يقول إن كل ما ينطق به من أمور الدين وحي، وقد ألحق أكثر العلماء بذلك شئون الرسول الدنيوية في دلالتها على الإباحة؛ إذ لولا إقرار الله له عليها ما فعلها.
على أنّ كثيرا من العلماء لم يتابع الإمام القرافيّ رحمه الله على هذا التقسيم، وعلى رأسهم ابن الشاط الذي علق على كتابه، فله تقسيم آخر أكثر وجاهة وأكثر انسجاما مع الشريعة، حيث قسم الأحكام على أساس الفرق بين البلاغ والتنفيذ، يقول رحمه الله: “المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو: الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى، وتصرفه هو الرسالة، وإلا فهو المفتي، وتصرفه هو الفتوى، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام، وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي، وتصرفه هو القضاء“().
ومنهم الطاهر ابن عاشور حيث يوسع التقسيم وينوعه ويثريه ويثري به البحث في أقطار الشريعة، فيقول: “وقد عرض لي الآن أن أعدّ من أحوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي يصدر عنها قول منه أو فعل – اثني عشر حالًا. منها ما وقع في كلام القرافي، ومنها ما لم يذكره، وهي: التشريع، والفتوى، والقضاء، والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرّد عن الإرشاد”().
والذين لم يقولوا بتقسيم القرافيّ عندهم أسباب أخرى لاختلاف العلماء في المسائل التي ذكرها كأمثلة، فمثلا مسألة الأحق بالسَّلَبِ، فإنّ الاختلاف فيها “لم يكن راجعا إلى اختلافهم فيما إذا كان الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلب صادرا عنه باعتبار الفتيا أو باعتبار الإمامة، وإنّما يرجع الاختلاف إلى أنّ بعض العلماء يرى أنّ السلب حق للقاتل لعموم الحديث الوارد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك لا يكون السلب خاضعا لاجتهاد الإمام إن شاء أعطاه للقاتل وإن شاء منعه، بينما يرى فريق آخر أنّ السلب ليس حقا للقاتل، وأنه جزء من الأنفال وأنه بهذا الوصف خاضع لاجتهاد الإمام”().
وبهذا الذي قدمناه يتضح لنا أنّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع يتبع، وأنّ حجيتها لا تحجب عن أي باب من الأبواب، وهذا ثابت سواء قلنا بصحة تقسيم القرافي – وهو ما أميل إليه – أو لم نقل بصحته، وهذا هو مقتضى كونه رسولا قدوة للناس في كافة نشاطات الحياة.
هذا والله تعالى أعلم ..
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)) (الصافات: 180-182).
—-
[1]() رواه مسلم (4/ 1836)
[2]() رواه مسلم (2362)
[3]() رواه مسلم (2363)
[4]() مسند أحمد ط الرسالة (20/ 19)
[5]() سنن ابن ماجه (2/ 825)
[6]() صحيح مسلم (4/ 1835)
[7]() مسند البزار = البحر الزخار (3/ 152)
[8]() صحيح مسلم (4/ 1835)
[9]() صحيح مسلم (1442) مسند أحمد (27034) سنن أبي داود (3882) سنن الترمذي (2077) السنن الكبرى للنسائي (5461) السنن الكبرى للبيهقي ( 14330)
[10]() متفق عليه، البخاري (5391) مسلم ( 1946)
[11]() رواه البخاري (2680)
[12]() متفق عليه ، البخاري (1781) ومسلم (1713)
[13]() الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ – تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – ط ثانية 1995 – دار البشائر الإسلامية بيروت صـــ 99- 107
[14]() الفروق – أنوار البروق في أنواء الفروق – شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي – عالم الكتب – بدون طبعة وتاريخ (1/ 205-208)
[15]() الشفا بتعريف حقوق المصطفى – للقاضي عياض (2/ 340- 343)
[16]() تأويل مختلف الحديث (ص: 283-285)
[17]() حجة الله البالغة (1/ 223-224)
[18]() إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 330)
[19]() السنة التشريعية وغير التشريعية – 56 من سلسلة في التنوير الإسلامي – سليم العوا ومحمد عمارة وآخرين – دار نهضة مصر – القاهرة – صـــــــ87
[20]() د. سليم العوا ود. عمارة – المرجع اللسابق ص88
[21]() السنة التشريعية وغير التشريعية – محمد سليم العوا – مقال بمجلة المسلم المعاصر – في أكتوبر 1074م
[22]() د. سليم العوا – نفس المرجع السابق
[23]() معالم المنهج الإسلاميّ – د. محمد عمارة – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط ثانية 2009م – صــــ101
[24]() د. محمد عمارة – مرجع سابق صـــ 103
[25]() نقله عنه كتاب: اتجاهات الفكر الإسلاميّ المعاصر في مصر في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجريّ – د. حمد بن صادق الجمال – دار عالم الكتب – الرياض – ط أولى 1994م ج 1 صـــــ291
[26]() المنهج الوسط في التعامل مع السنة النبوية – د. سعد الدين العثمانيّ – دار الكلمة للنشر والتوزيع – ط أولى 2012م مصر صـــــ 64
[27]() جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية – د. سعد الدين العثمانيّ – ط أولى 2013م دار الكلمة المنصورة مصر.
[28]() إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 334)
[29]() المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 169)
[30]() شرح النووي على مسلم (15/ 116)
[31]() شرح النووي على مسلم (12/5 )
[32]() التشريع من السنة وكيفية الاستنباط منها – د. علي القره داغي – مجلة مركز بحوث السنة والسيرة – العدد الثاني 1987م صـــ 365
[33]() البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 476)ا
[34]() الإحكام في أصول الأحكام – للآمدي ت: عبد الرزاق عفيفي – المكتب الإسلامي، بيروت- 1/186 – 187
[35]()مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 136)
[36]() الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ – تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – ط ثانية 1995 – دار البشائر الإسلامية بيروت صــــــ 108
[37]() الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ صــــــ 109 – 111
[38]() الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ صــــــ 116 – 118
[39]() الذخيرة للقرافي (6/ 157)
[40]() شبهات عصرانية مع أجوبتها – سليمان بن صالح الخراشي – دار الوحيين – الرياض – ط أولى 2009م – صــــــ 127
[41]() تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – ابن فرحون – مكتبة الكليات الأزهرية – ط: الأولى، 1986م (1/ 109-112)
[42]() صحيح مسلم (2/ 951)
[43]() شرح النووي على مسلم (9/ 59)
[44]() مسند أحمد ط الرسالة (4/ 437)
[45]() تاريخ التشريع الإسلامي – مناع بن خليل القطان – مكتبة وهبة – ط الخامسة 1422هـ-2001م (ص: 116-117)
[46]() الذخيرة للقرافي (10/ 23- 27)
[47]() إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم – القاضي عياض بن موسى بن عياض – دار الوفاء – مصر – ط: الأولى، 1998م – 6 / 220
[48]() إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم – القاضي عياض بن موسى بن عياض – دار الوفاء – مصر – ط: الأولى، 1998م – 6 / 62
[49]() إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم – القاضي عياض بن موسى بن عياض – دار الوفاء – مصر – ط: الأولى، 1998م – 6 / 448
[50]() إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم – القاضي عياض بن موسى بن عياض – دار الوفاء – مصر – ط: الأولى، 1998م – 6 / 558
[51]() تأويل مختلف الحديث – أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري – المكتب الاسلامي – مؤسسة الإشراق ط ثانية – 1999م صـــ 245
[52]() تأويل مختلف الحديث – أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري – المكتب الاسلامي – مؤسسة الإشراق ط ثانية – 1999م صـــ 277
[53]() تأويل مختلف الحديث – أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري – المكتب الاسلامي – مؤسسة الإشراق ط ثانية – 1999م صـــ 279
[54]() حجة الله البالغة – ولي الله الدهلوي – دار الجيل، بيروت – لبنان – ط: الأولى، 2005م – 2/ 259
[55]()حجة الله البالغة – ولي الله الدهلوي – دار الجيل، بيروت – لبنان – ط: الأولى، 2005م – ج 2 صــــ250
[56]() السنة التشريعية وغير التشريعية عند دعاة التجديد .. عرض ومناقشة – د. عبد اللطيف بن سعود الصرامي – مكتة الملك فهد الوطنية – الررياض ط أولى 1433ه صــــــ175
[57]() الموافقات (2/ 293)
[58]() هامش الفروق – أنوار البروق في أنواء الفروق – شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي – عالم الكتب – بدون طبعة وتاريخ (1/ 206-207)
[59]() مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 97-99)
[60]() السنة تشريع لازم ودائم – د. فتحي عبد الكريم – مكتبة وهبة – القاهرة – ط أولى 1985م – صـــــ90
المصدر: موقع البوصلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق