ماكرون .. انتصار بطعم الانكسار
نجح إيمانويل ماكرون بشكل واضح في الظفر بولاية ثانية على رأس الجمهورية الفرنسية، لكنه لم ينتصر، أو حقق انتصارا بطعم الانكسار، لأنه يدين بفوزه لخصومه الذين أعطوه أصواتهم ليس اقتناعا منهم ببرنامجه، وإنما لقطع الطريق أمام منافسته مرشّحة اليمين المتطرّف حتى لا تصل إلى سدّة الحكم. وقد اعترف ماكرون نفسه، في خطاب "الانتصار"، بأن ليس كل من صوّت لصالحه فعل ذلك اقتناعا منه ببرنامجه، وإنما لقطع الطريق على اليمين المتطرّف. وحسب الأرقام التفصيلية التي كشفت عنها نتائج الاقتراع، فإن ثلث من انتخبوا ماكرون لا يحبّونه، وإنما صوّتوا لصالحه مضطرّين على مضض، لأنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على الاختيار ما بين السيئ والأسوأ!
وعندما نتأمل أرقام هذه الانتخابات نكاد لا نجد منتصرا واحدا، أو منتصرا بارزا، فماكرون فاز في الانتخابات، واليمين المتطرّف نجح في تقوية وجوده داخل المجتمع بعد تحقيقه نتيجة قياسية تاريخية، واليسار الراديكالي أصبح رقما صعبا داخل المعادلة السياسية الفرنسية، من دون أن ننسى فريق المقاطعين، وهؤلاء وحدهم يمثلون نحو 28% من الفرنسيين، أي ثلث المؤهلين للتصويت، وهذه أكبر نسبة امتناع في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية الفرنسية تتطلب قراءتها سياسيا، وليس عدديا فقط.
لقد خلفت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بلدا ممزّقا بشدة، ومشهدا سياسيا مشتّتا، ما بين حزب ماكرون الهشّ، والمسنود ببقايا وسط هجين يضم أنقاض اليسار التقليدي واليمين المحافظ اللذين هيمنا على الحياة الفرنسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويمين متطرّف يتقوى يوما بعد يوم حتى أصبح، وحده، يمثل القوة السياسية الأولى في البلاد، ويسار متطرّف فرض نفسه بقوة داخل الساحة السياسية، ومقاطعين للانتخابات باتوا يشكّلون قوة خفية تتحكّم في صنع الخارطة السياسية للبلاد.
على الرئيس الفرنسي، خلال ولايته الثانية، أن يثبت للفرنسيين بأنه ليس سيئًا
لقد أدّت سياسات ماكرون، وخصوصا شخصيته المنعزلة والمتعجرفة والمتغطرسة، إلى تحقير العمل السياسي، وتقويض قواعده، وتبخيس أخلاقه، وخلفت قراراته الأحادية جروحا عميقة داخل المجتمع الفرنسي، أدت إلى تنامي موجات السخط الشعبي، ما أجّج صعود اليمين المتطرّف وقوى صفوف اليسار الراديكالي. وليست كل هذه الوقائع جديدة، فقد برزت مع بداية ولاية ماكرون الأولى، وتعهد من قبل بمعالجتها، لكنه لم يفعل، لذلك عندما يتعهّد اليوم بمراجعة سياساته في ولايته الثانية ففرنسيون كثيرون لم يعودوا يثقون فيه أو يصدّقونه.
على الرغم من الفوز "الباهر" له في هذه الانتخابات، يبقى ماكرون مجرّد ظاهرة سياسية عابرة داخل الحياة السياسية الفرنسية، هو نتاج حالة الخراب التي ضربت الطبقة السياسية الفرنسية، وقد ساهم هو نفسه طوال سنوات حكمه الخمس الماضية في تفخيخ الأحزاب التقليدية من الداخل، ما دفع الفرنسيين إلى البحث عن بدائل سياسية لدى اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي، أو فقدان الثقة في السياسة والسياسيين، والعزوف عن المشاركة السياسية بما أنه لم يعد لمشاركتهم فيها جدوى. نحن أمام مجتمع فرنسي منقسم بشدّة، وهذه حقيقة يدركها ماكرون، فهو يعرف أن فرنسيين عديدين لا يحبّونه، بمن فيهم ممن صوتوا لصالحه عامي 2017 و2022.
أدت سياسات ماكرون، وخصوصاً شخصيته المنعزلة والمتعجرفة والمتغطرسة، إلى تحقير العمل السياسي
هذا كله يجعل ولاية ماكرون الثانية أكثر صعوبة من الأولى، وسيكون عليه، كما قال هو نفسه، ابتكار طريقة جديدة تعطي الأولوية للسياسات التي تعيد بناء علاقات الثقة مع أولئك الناخبين الذين امتنعوا عن التصويت، وأولئك الذين أعاروه أصواتهم لعرقلة مارين لوبان فقط. لكن، لا شيء يضمن أن يصوّت الذين منحوا صوتهم له عقابا لمنافسته، لصالح مرشّحي حزبه في الانتخابات التشريعية المقرّرة منتصف شهر يونيو/ حزيران المقبل. وثمّة احتمال كبير أن تسفر تلك الانتخابات عن خريطة سياسية مبلقنة، يكون ضحيتها حزب الرئيس الفرنسي الذي ظل يهيمن على البرلمان الفرنسي طوال السنوات الخمس الماضية. ولا يستبعد أن تعود فرنسا إلى تجريب حالة التعايش ما بين رئيس جمهورية ورئيس وزراء من حزبين أو كتلتين سياسيتين مختلفين، ما سيجعل رئيس الجمهورية يمشي، طوال ولايته الثانية، مثل بطّة عرجاء. وفي هذه الحالة، سنجد ماكرون "آخر" رئيسا بدون أنانية مفرطة، ولعلّ هذا سيساعده على العودة إلى جادّة التواضع، وليس بالضرورة إلى جادّة الصواب.
في تعليقه على فوز ماكرون، قال الزعيم السياسي اليساري الراديكالي، ومرشّح الرئاسة سابقا، جان لوك ميلانشون، إن ماكرون هو أسوأ رئيس منتخب للجمهورية الخامسة، بما أن عدد الفرنسيين الذين صوتوا له لا يتعدون 17 مليون فرنسي، وهو ما يمثل نحو 38% فقط من مجموع عدد المؤهلين للتصويت، وعلى الرئيس الفرنسي، خلال ولايته الثانية، أن يثبت للفرنسيين بأنه ليس سيئًا.
لقد وضع ماكرون، من بين أولويات ولايته الجديدة، إصلاح فرنسا الممزّقة تحدّيا رئيسيا، لتجنّب سقوط البلاد بعد خمس سنوات في يد اليمين المتطرّف أو في الفوضى العارمة، لكن هل يمكن للشخص الذي كان سببا في هذا التمزّق الحاد أن يكون المصلح والمنقذ؟ مع الأسف، لا يمكن أن نعرف الجواب إلا بعد خمس سنوات، وقد يكون قد فات الأوان حينها لإصلاح ما أفسده الدهر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق