أوهام العوام.. التقريب بين المسلمين والشيعة (3)د. علي فريد @ly_fryd_alhashأَرادَ اللهُ للقرضاوي أن يَرى بعَيْنيْه مآلاتِ (فِقْهِهِ للواقعِ).. ذلك الفِقهِ الذي لَبِثَ عُمُراً يُنادي به ويُؤسِّسُ له.. كما أرادَ اللهُ للحمقى والمغفَّلين مِن شَبابِ الإِسلاميِّين أن يَرَوْا مآلاتِ (الواقعيةِ السِّياسيةِ) التي يَلُوكُونها بأَفواهِهم ادِّعاءً للحِكمةِ والحِنْكَةِ والتَّفتُّحِ والدِّرايةِ، وهم لا يَدرُون أنَّهم لا يَدرُون!!
اقْتنَعَ القرضاوي أخيراً بأنَّ حسن نصر الله -الذي طالما مَدَحَه وأَثْنَى عليه- ليس سِوَى (حسن نصر اللَّاتِ)، وأنَّ حِزبَ اللهِ -الذي طالما دَعا له بالنَّصرِ- ليس سوى (حِزبِ الشَّيطانِ).. كما اكْتَشَفَ -على حَدِّ قولِه- أنه كان مُخطِئاً حِينَ خالَفَ كِبارَ مَشايخِ السُّعوديةِ الذين كانوا -على حَدِّ قَولِه أيضاً- أَنضَجَ منه وأَبصَرَ بحقيقةِ الشِّيعةِ وحِزبِ اللهِ؛ فعَرَفُوا -قَبْلَهُ!- أنَّ الشِّيعة كَذَبَةٌ، وليسوا ناصِحِينَ للمُسلمين ولا مُناصِرِينَ لهم.. ثُم أَضافَ قائلاً في مُؤتمرٍ جماهيريٍّ في إسطنبولَ: لو كُنتُ أَملكُ القُدرةَ على قِتالِهم بيَدَيَّ لقَاتَلْتُهم!!
احتاجَ القرضاوي -ليَصِلَ إلى هذه القناعةِ- إلى أكثرَ من أَربعةِ ملايينِ قتيلٍ في الشَّامِ والعِراقِ واليمنِ، وأكثرَ مِن خَمسةَ عَشَرَ مليونَ مُهَجَّرٍ؛ مَارَسَ الشِّيعةُ التَّقريبَ عليهم بأبشعِ أَفانينِ القَتلِ والتَّهجيرِ التي كادَتْ أن تَكونَ علامةً مُسَجَّلةً لهم عَبْرَ تاريخِهم الأسودِ مع المُسلمِينَ!!
***
الدُّكتور عبد الله النفيسي أيضاً لم يَكُنْ بعيداً عن القرضاوي في التَّلبُّسِ بهذا الوهمِ؛ بل لعلَّه يَكونُ أَقدمَ زمناً في علاقتِه بالشِّيعةِ بحُكمِ القُربِ المكانيِّ والتَّخصُّصِ العلميِّ؛ فهو كُويتيُّ الجنسيةِ، أَعَدَّ رسالتَه للدكتوراه في أواخرِ ستينياتِ القرنِ العشرين في جامعةِ كامبردج ببريطانيا عن (دَوْرِ الشِّيعةِ في تَطوُّرِ العِراقِ السِّياسيِّ الحديثِ)، ورَحَلَ إلى النَّجفِ مُحَمَّلاً بتوصيةٍ من أُستاذِه (سارجنت هاربي) للمَرجعِ العراقيِّ الشِّيعيِّ آنذاك: محسن الحكيم؛ فأَحسَنَ الحَكيمُ استقبالَه وأَمَرَ أولادَه -ومنهم (محمد باقر الحكيم)- بتَسهيلِ مَهَمَّتِه وتيسيرِ مُقابلاتِه مع مَن يُريدُ.. شخصٌ واحدٌ اعتَرَضَ الحكيمُ على مقابلةِ النفيسيِّ له لأنه -على حَدِّ قولِ الحكيمِ- (مُشَوَّشُ العقلِ وغيرُ مُتَّزِنٍ).. كان هذا الشَّخصُ هو (رُوزَبَّة بسنديدة سينكا) وكان لاجئاً في النَّجفِ بالعراقِ قَبْلَ أن يُصبِحَ (الإمامُ الخمينيُّ) الذي رَكِبَ ثورةَ إيرانَ، فأَحسَنَ رُكوبَها بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من فرنسا والنظامِ العالميِّ!!
أَنْهى النفيسيُّ رسالتَه، وطَبَعَها، فذَاعَ صِيتُها وفُتِحَتْ له أبوابُ الجامعاتِ الإيرانيةِ التي اسْتقَبَلَتْه مُحاضراً فيها؛ لِيُكَوِّنَ صداقاتٍ ممتدةً مع النُّخبةِ الإيرانيةِ العِلميةِ والسِّياسيةِ.. ومع اشتِعالِ الثَّورةِ الإيرانيةِ كان النفيسيُّ من أكبرِ الدَّاعمينَ لها والمُدافعِينَ عنها؛ شأنُه في ذلك شأنُ غالبيةِ الإسلامِيِّين الطَّيبينَ الذين ظَلُّوا ضُيوفاً دائِمِينَ في مؤتمراتِ التَّقريبِ الإيرانيةِ؛ مثلُ: البوطي، والقرضاوي، وفتحي يكن، ومحمد عمارة، وعشراتٍ غَيرِهم سَيطَرَ عليهم وَهمُ التَّقريبِ رَدَحَاً طويلاً من الزَّمنِ، وتَجَمَّلَ الصَّفَوِيُّون الإيرانيون بأسمائهم، فاخترقوا بها عقولَ المسلمين وقلوبَهم.. تماماً كما يَتجَمَّلُ الصَّفويُّون الإيرانيون الآنَ بأكاذيبِهم عن دَعمِ المقاومةِ، أو (بجرجرةِ) شبابِ الإسلاميِّينَ الأغرارِ إلى مُؤتمراتِ طهرانَ؛ ليُكَمِّلُوا بأضوائها نقصَ نُفوسِهم، ويَمْلَؤُوا بأموالِها فراغَ جُيوبِهم، ويُخرِسُوا بمُواءَماتِها صُراخَ ضَمائِرِهم.. إنْ كان بَقِيَ لهم ضمائرُ في ظِلِّ المذبحةِ الدائرةِ علينا من إيرانَ ومِيليشيَّاتها!!
ومع مُرورِ السَّنواتِ بدأَ النفيسيُّ يَتململُ من (الحَجِي والسَّواليف) -على حَدِّ قولِه-، وصَاحَبَ تَمَلْمُلَهُ هذا تحذيرُ بعضِ العقلاءِ له مِن مَغَبَّةِ مُساهمتِه في التَّعميِة على حقيقةِ الشِّيعةِ وإيرانَ، وأنه -ومَن مَعَهُ مِن مُتَوَهِّمي التَّقريبِ- أغبياءُ لا يَعرِفون مآلاتِ أفعالِهم..
الغريبُ أنَّ لحظةَ الاستنارةِ التي أَيْقَظَتِ النفيسيَّ من وَهمِ التَّقريب؛ جاءَتْ على يَدِ سفيرِ إيران في الكويتِ؛ فقد لاحَظَ النفيسيُّ أثناءَ وجودِه في إيرانَ خلوَّ العاصمةِ طهرانَ من مسجدٍ للمُسلمينَ يُقيمونَ فيه صلاةَ الجمعةِ في الوقتِ الذي تَعُجُّ فيه طهرانُ بمعابدِ اليهودِ وكنائسِ النَّصارى.. وحين عادَ للكويتِ دعا السفيرَ الإيرانيَّ فيها (علي أحمد جنتي) إلى منزلِه ليَطلُبَ منه توصيةً بشراءِ قطعةِ أرضٍ في طهرانَ ليُقيمَ عليها مَسجداً للمُسلمينَ.. كان السَّفيرُ الإيرانيُّ -على حَدِّ قولِ النفيسيِّ- يُمسِكُ كوبَ الشاي في يَدِه، وحِينَ سَمِعَ طَلَبَ النفيسيِّ؛ قَهْقَهَ عالياً ووضعَ كوبَ الشاي جانباً، وقال: مُستحيلٌ.. لا يُمكنُ إنشاءُ مسجدٍ (للسُّنَّةِ) في طهرانَ.. إنَّه قرارٌ سياسيٌّ من أعلى هَرمِ السُّلطةِ.. وحتى لو أَعطيْتُك التَّوصيةَ فلن تُفلِحَ بها، وسيَكونُ أشدُّ المُعترضِينَ عليها أبي (أحمد جنتي) خطيبَ الجمعةِ في طهرانَ وعضوَ مجلسِ الخبراءِ”!!
كانَتْ صراحةُ السفيرِ الإيرانيِّ أَشبهَ بدلوِ ماءٍ باردٍ سُكِبَ على رأسِ النَّفيسيِّ ليَستيقظَ من أَوهامِه ويُعيدَ مُراجعةَ أَفكارِه؛ ليس عن التَّقريبِ فحَسْبُ؛ بل عن الشِّيعةِ عامةً وإيرانَ خاصةً!!
استقالَ النفيسيُّ من عُضويةِ (حِصانِ طروادةَ)، أو ما يُسَمَّى (المجمعَ العالميَّ للتقريبِ بينَ المذاهبِ)، وقَضَى السَّنواتِ الثَّلاثَ اللَّاحقةَ في قراءةِ مَصادرِ الشِّيعةِ وكُتُبِهم المعتبرةِ؛ ليَصِلَ إلى قَناعةٍ كاملةٍ بأنَّ التَّشيُّعَ ليس مَذهباً إسلامياً؛ بل دينٌ آخَرُ ليس فيه من الإسلامِ سِوى الشَّكلِ الخارجيِّ أو الاسمِ الظاهريِّ.. وهي ذاتُ القناعةِ التي صَرَّحَ بها القرضاوي حِينَ قال: “إنَّها ليسَتْ مذاهبَ؛ بل فِرقٌ”.. وذاتُ القناعةِ التي يُمكِنُ أن يَصِلَ إليها أيُّ إنسانٍ وَهَبَه اللهُ مِثقالَ ذَرَّةٍ من عَقلٍ حِينَ يَقرأُ (الكافي، للكليني)، أو (بحار الأنوار، للمجلسي)، أو (فصل الخطاب في تحريف كتاب رَبِّ الأرباب، للطبرسي)!!
وقد ذَكَّرَتْني هذه القناعةُ البَدَهِيَّةُ التي وصلا إليها بَعدَ جُهدٍ مَشكورٍ على أيِّ حالٍ؛ بجوابٍ للشيخِ عبد اللهِ بن جبرينَ -رحمه الله- حِينَ سُئلَ: هل الشِّيعةُ مُرتدون؟! فقال: (الشِّيعةُ ليسوا مُرتدِّينَ؛ لأنَّهم لم يَدخُلُوا الإسلامَ أصلاً).. كما ذَكَّرَتْني أيضاً بِردِّ العلَّامةِ محمد الأمين الشِّنْقِيطِي حِينَ جاءَه بعضُ دَجَاجِلةِ الشِّيعةِ لمُناظرتِه، فقال لهم: “لو كُنَّا نَتفِقُ على أُصولٍ واحدةٍ لنَاظَرْتُكم، ولكنْ لنا أُصولٌ ولكم أُصولٌ، وبصورةٍ أَوضحَ: لنا دِينٌ ولكم دِينٌ، وفَوقَ هذا كُلِّه أنتم أهلُ كذبٍ ونفاقٍ”!!
ومع دراسةِ التَّشيُّعِ دِينياً وتاريخياً، ودراسةِ إيرانَ سياسياً وثقافياً واجتماعياً؛ وَصَلَ النفيسيُّ مرةً أُخرى إلى قناعةٍ بَدَهِيَّةٍ أُخرى؛ مَفادها: أنَّ (إيران الملالي) كـ(إسرائيل الحاخامات) كلاهما كِيانٌ مُفتَعَلٌ يَشعرُ بالعُزلةِ عن المنطقةِ العربيةِ لاختلافِه عنها لغةً وديناً، وأنَّ الكراهيةَ المُتَجَذِّرةَ في النَّفسيَّةِ العبرانيةِ للمُسلمينَ والعربِ لا تَزيدُ عن الكراهيةِ المُتجَذِّرةِ في النَّفسيَّةِ الفارسيَّةِ للعربِ والمسلمين!!
هذا ما وَصَلَ إليه النَّفيسيُّ بَعدَ سنواتٍ من القراءةِ والبحثِ والتَّقصِّي؛ رَغمَ ما يُمكنُ أن يُقالَ عن الطَّبيعةِ التَّبادليَّةِ للكَراهيةِ بَينَ الأجناسِ وبَعضِها؛ خاصةً إذا تَجاوَرَتْ مكاناً وتَفاعَلَتْ زماناً.. وقد استدلَّ النفيسيُّ على هذه الكراهيةِ بما يُمكنُ أن يُستدلَّ بِضِدِّهِ على ضِدِّه؛ فذكرَ بعضَ شِعرِ الفردوسيِّ صَاحِبِ (الشاهنامه) في ذمِّ واحتقارِ العَربِ، كما ذَكَرَ قصيدةً لشاعرِ إيرانَ المعاصِرِ (مصطفى بَادْكُوُبَه) بعنوانِ (رسالة إلى اللهِ) أَلْقاها في بَلَدِيَّةِ طهرانَ سنة 2013، وجاء فيها:
“يا إِلهَ العَرَبِ!
لا مُشكلةَ لديَّ أن تُلقِيَنِي في جَهَنَّمَ..
أَلْقِنِي في جَهَنَّمَ كما تَشاءُ..
ولكنِّي أَرجُوكَ ألَّا تُسْمِعَني حَرفاً عَرَبِياً واحداً هناك”.
الغريب أنَّ هذه الكراهيةَ لم تُوجَّه للعربِ المسلمينَ فقط؛ بل وُجِّهت للعربِ الشِّيعة أيضاً، وَمَا مِنْ شيعيٍّ عراقيٍّ صادقٍ مع نَفْسِه -وما أَنْدَرَ الصَّادقِينَ في الشِّيعةِ!- تَسأَلُه عن هذه الكراهيةِ إلَّا ويُقِرُّ بها إقرارَ المخذولِ المُهانِ، بَعدَ أن اسْتَخدَمَتْهُم إيرانُ -باسْمِ التَّشيُّعِ- لتَدميرِ العراقِ والشَّامِ، وَرَهْنِ مُقَدَّراتِهما الضَّخمةِ لمَصلحةِ فَارسيٍّ مُعَمَّمٍ يَدَّعِي النَّسبَ الشَّريفَ ولا يُحسِنُ قِراءةَ الفاتحةِ قِراءةً صحيحةً!!
بل إنَّ البُيُوتاتِ العريقةَ للمَرجعيَّاتِ الشِّيعيَّةِ العربيةِ لم تَسْلَمْ أيضاً من العُنصريَّةِ الفارسيَّةِ ضِدَّها؛ فها هو محمد باقر الحكيم -صديقُ النفيسيِّ القديمُ- يَلتقيه في طهرانَ سنة 2002م ويُحَدِّثُه عن قرارِ الأمريكانِ بإسقاطِ صَدَّام حسين؛ مُستبشراً بقُربِ انتهاءِ عَهدِ الذُّلِّ والضَّنْكِ في المنفى الإيرانيِّ.. وحِينَ اندهَشَ النفيسيُّ من كلامِ الحَكيمِ عن الضِّيقِ الذي يُعانيه آلُ الحكيمِ في إيرانَ؛ أَردَفَ الحكيمُ قائلاً: إنَّ الإيرانيين يُعاملوننا مُعاملةَ التَّابعِ الذَّليلِ، ويَستخدمون التَّشيُّعَ كحِصانِ طروادةَ للسَّيطرةِ على العَربِ وإذلالِهم، وإنَّ أوَّلَ عملٍ سأَعمَلُه حِينَ أَعودُ للنَّجفُ هو تَعريبُ المَرجعيةِ وتَنظيفُها من العناصرِ الفَارسيَّةِ… وكان هذا التَّصريحُ من الحكيمِ للنَّفيسيِّ هو الذي دَفَعَ النَّفيسيَّ -بعدَ ذلك- إلى التَّشكيكِ في حَقيقةِ قَتَلَةِ الحكيمِ وَتَرْجِيحِهِ وجودَ يدٍ لإيرانَ في عمليةِ قَتلِه، رَغمَ اشتهارِ مَقتلِه -إِعلامياً- على يَدِ تَنظيمِ القاعدةِ انتقاماً منها لمجازرِ المُسلمينَ في العراقِ.
أَرادَ اللهُ للقرضاوي أن يَرى بعَيْنيْه مآلاتِ (فِقْهِهِ للواقعِ).. ذلك الفِقهِ الذي لَبِثَ عُمُراً يُنادي به ويُؤسِّسُ له.. كما أرادَ اللهُ للحمقى والمغفَّلين مِن شَبابِ الإِسلاميِّين أن يَرَوْا مآلاتِ (الواقعيةِ السِّياسيةِ) التي يَلُوكُونها بأَفواهِهم ادِّعاءً للحِكمةِ والحِنْكَةِ والتَّفتُّحِ والدِّرايةِ، وهم لا يَدرُون أنَّهم لا يَدرُون!!
اقْتنَعَ القرضاوي أخيراً بأنَّ حسن نصر الله -الذي طالما مَدَحَه وأَثْنَى عليه- ليس سِوَى (حسن نصر اللَّاتِ)، وأنَّ حِزبَ اللهِ -الذي طالما دَعا له بالنَّصرِ- ليس سوى (حِزبِ الشَّيطانِ).. كما اكْتَشَفَ -على حَدِّ قولِه- أنه كان مُخطِئاً حِينَ خالَفَ كِبارَ مَشايخِ السُّعوديةِ الذين كانوا -على حَدِّ قَولِه أيضاً- أَنضَجَ منه وأَبصَرَ بحقيقةِ الشِّيعةِ وحِزبِ اللهِ؛ فعَرَفُوا -قَبْلَهُ!- أنَّ الشِّيعة كَذَبَةٌ، وليسوا ناصِحِينَ للمُسلمين ولا مُناصِرِينَ لهم.. ثُم أَضافَ قائلاً في مُؤتمرٍ جماهيريٍّ في إسطنبولَ: لو كُنتُ أَملكُ القُدرةَ على قِتالِهم بيَدَيَّ لقَاتَلْتُهم!!
احتاجَ القرضاوي -ليَصِلَ إلى هذه القناعةِ- إلى أكثرَ من أَربعةِ ملايينِ قتيلٍ في الشَّامِ والعِراقِ واليمنِ، وأكثرَ مِن خَمسةَ عَشَرَ مليونَ مُهَجَّرٍ؛ مَارَسَ الشِّيعةُ التَّقريبَ عليهم بأبشعِ أَفانينِ القَتلِ والتَّهجيرِ التي كادَتْ أن تَكونَ علامةً مُسَجَّلةً لهم عَبْرَ تاريخِهم الأسودِ مع المُسلمِينَ!!
***
الدُّكتور عبد الله النفيسي أيضاً لم يَكُنْ بعيداً عن القرضاوي في التَّلبُّسِ بهذا الوهمِ؛ بل لعلَّه يَكونُ أَقدمَ زمناً في علاقتِه بالشِّيعةِ بحُكمِ القُربِ المكانيِّ والتَّخصُّصِ العلميِّ؛ فهو كُويتيُّ الجنسيةِ، أَعَدَّ رسالتَه للدكتوراه في أواخرِ ستينياتِ القرنِ العشرين في جامعةِ كامبردج ببريطانيا عن (دَوْرِ الشِّيعةِ في تَطوُّرِ العِراقِ السِّياسيِّ الحديثِ)، ورَحَلَ إلى النَّجفِ مُحَمَّلاً بتوصيةٍ من أُستاذِه (سارجنت هاربي) للمَرجعِ العراقيِّ الشِّيعيِّ آنذاك: محسن الحكيم؛ فأَحسَنَ الحَكيمُ استقبالَه وأَمَرَ أولادَه -ومنهم (محمد باقر الحكيم)- بتَسهيلِ مَهَمَّتِه وتيسيرِ مُقابلاتِه مع مَن يُريدُ.. شخصٌ واحدٌ اعتَرَضَ الحكيمُ على مقابلةِ النفيسيِّ له لأنه -على حَدِّ قولِ الحكيمِ- (مُشَوَّشُ العقلِ وغيرُ مُتَّزِنٍ).. كان هذا الشَّخصُ هو (رُوزَبَّة بسنديدة سينكا) وكان لاجئاً في النَّجفِ بالعراقِ قَبْلَ أن يُصبِحَ (الإمامُ الخمينيُّ) الذي رَكِبَ ثورةَ إيرانَ، فأَحسَنَ رُكوبَها بحبلٍ من اللهِ وحبلٍ من فرنسا والنظامِ العالميِّ!!
أَنْهى النفيسيُّ رسالتَه، وطَبَعَها، فذَاعَ صِيتُها وفُتِحَتْ له أبوابُ الجامعاتِ الإيرانيةِ التي اسْتقَبَلَتْه مُحاضراً فيها؛ لِيُكَوِّنَ صداقاتٍ ممتدةً مع النُّخبةِ الإيرانيةِ العِلميةِ والسِّياسيةِ.. ومع اشتِعالِ الثَّورةِ الإيرانيةِ كان النفيسيُّ من أكبرِ الدَّاعمينَ لها والمُدافعِينَ عنها؛ شأنُه في ذلك شأنُ غالبيةِ الإسلامِيِّين الطَّيبينَ الذين ظَلُّوا ضُيوفاً دائِمِينَ في مؤتمراتِ التَّقريبِ الإيرانيةِ؛ مثلُ: البوطي، والقرضاوي، وفتحي يكن، ومحمد عمارة، وعشراتٍ غَيرِهم سَيطَرَ عليهم وَهمُ التَّقريبِ رَدَحَاً طويلاً من الزَّمنِ، وتَجَمَّلَ الصَّفَوِيُّون الإيرانيون بأسمائهم، فاخترقوا بها عقولَ المسلمين وقلوبَهم.. تماماً كما يَتجَمَّلُ الصَّفويُّون الإيرانيون الآنَ بأكاذيبِهم عن دَعمِ المقاومةِ، أو (بجرجرةِ) شبابِ الإسلاميِّينَ الأغرارِ إلى مُؤتمراتِ طهرانَ؛ ليُكَمِّلُوا بأضوائها نقصَ نُفوسِهم، ويَمْلَؤُوا بأموالِها فراغَ جُيوبِهم، ويُخرِسُوا بمُواءَماتِها صُراخَ ضَمائِرِهم.. إنْ كان بَقِيَ لهم ضمائرُ في ظِلِّ المذبحةِ الدائرةِ علينا من إيرانَ ومِيليشيَّاتها!!
ومع مُرورِ السَّنواتِ بدأَ النفيسيُّ يَتململُ من (الحَجِي والسَّواليف) -على حَدِّ قولِه-، وصَاحَبَ تَمَلْمُلَهُ هذا تحذيرُ بعضِ العقلاءِ له مِن مَغَبَّةِ مُساهمتِه في التَّعميِة على حقيقةِ الشِّيعةِ وإيرانَ، وأنه -ومَن مَعَهُ مِن مُتَوَهِّمي التَّقريبِ- أغبياءُ لا يَعرِفون مآلاتِ أفعالِهم..
الغريبُ أنَّ لحظةَ الاستنارةِ التي أَيْقَظَتِ النفيسيَّ من وَهمِ التَّقريب؛ جاءَتْ على يَدِ سفيرِ إيران في الكويتِ؛ فقد لاحَظَ النفيسيُّ أثناءَ وجودِه في إيرانَ خلوَّ العاصمةِ طهرانَ من مسجدٍ للمُسلمينَ يُقيمونَ فيه صلاةَ الجمعةِ في الوقتِ الذي تَعُجُّ فيه طهرانُ بمعابدِ اليهودِ وكنائسِ النَّصارى.. وحين عادَ للكويتِ دعا السفيرَ الإيرانيَّ فيها (علي أحمد جنتي) إلى منزلِه ليَطلُبَ منه توصيةً بشراءِ قطعةِ أرضٍ في طهرانَ ليُقيمَ عليها مَسجداً للمُسلمينَ.. كان السَّفيرُ الإيرانيُّ -على حَدِّ قولِ النفيسيِّ- يُمسِكُ كوبَ الشاي في يَدِه، وحِينَ سَمِعَ طَلَبَ النفيسيِّ؛ قَهْقَهَ عالياً ووضعَ كوبَ الشاي جانباً، وقال: مُستحيلٌ.. لا يُمكنُ إنشاءُ مسجدٍ (للسُّنَّةِ) في طهرانَ.. إنَّه قرارٌ سياسيٌّ من أعلى هَرمِ السُّلطةِ.. وحتى لو أَعطيْتُك التَّوصيةَ فلن تُفلِحَ بها، وسيَكونُ أشدُّ المُعترضِينَ عليها أبي (أحمد جنتي) خطيبَ الجمعةِ في طهرانَ وعضوَ مجلسِ الخبراءِ”!!
كانَتْ صراحةُ السفيرِ الإيرانيِّ أَشبهَ بدلوِ ماءٍ باردٍ سُكِبَ على رأسِ النَّفيسيِّ ليَستيقظَ من أَوهامِه ويُعيدَ مُراجعةَ أَفكارِه؛ ليس عن التَّقريبِ فحَسْبُ؛ بل عن الشِّيعةِ عامةً وإيرانَ خاصةً!!
استقالَ النفيسيُّ من عُضويةِ (حِصانِ طروادةَ)، أو ما يُسَمَّى (المجمعَ العالميَّ للتقريبِ بينَ المذاهبِ)، وقَضَى السَّنواتِ الثَّلاثَ اللَّاحقةَ في قراءةِ مَصادرِ الشِّيعةِ وكُتُبِهم المعتبرةِ؛ ليَصِلَ إلى قَناعةٍ كاملةٍ بأنَّ التَّشيُّعَ ليس مَذهباً إسلامياً؛ بل دينٌ آخَرُ ليس فيه من الإسلامِ سِوى الشَّكلِ الخارجيِّ أو الاسمِ الظاهريِّ.. وهي ذاتُ القناعةِ التي صَرَّحَ بها القرضاوي حِينَ قال: “إنَّها ليسَتْ مذاهبَ؛ بل فِرقٌ”.. وذاتُ القناعةِ التي يُمكِنُ أن يَصِلَ إليها أيُّ إنسانٍ وَهَبَه اللهُ مِثقالَ ذَرَّةٍ من عَقلٍ حِينَ يَقرأُ (الكافي، للكليني)، أو (بحار الأنوار، للمجلسي)، أو (فصل الخطاب في تحريف كتاب رَبِّ الأرباب، للطبرسي)!!
وقد ذَكَّرَتْني هذه القناعةُ البَدَهِيَّةُ التي وصلا إليها بَعدَ جُهدٍ مَشكورٍ على أيِّ حالٍ؛ بجوابٍ للشيخِ عبد اللهِ بن جبرينَ -رحمه الله- حِينَ سُئلَ: هل الشِّيعةُ مُرتدون؟! فقال: (الشِّيعةُ ليسوا مُرتدِّينَ؛ لأنَّهم لم يَدخُلُوا الإسلامَ أصلاً).. كما ذَكَّرَتْني أيضاً بِردِّ العلَّامةِ محمد الأمين الشِّنْقِيطِي حِينَ جاءَه بعضُ دَجَاجِلةِ الشِّيعةِ لمُناظرتِه، فقال لهم: “لو كُنَّا نَتفِقُ على أُصولٍ واحدةٍ لنَاظَرْتُكم، ولكنْ لنا أُصولٌ ولكم أُصولٌ، وبصورةٍ أَوضحَ: لنا دِينٌ ولكم دِينٌ، وفَوقَ هذا كُلِّه أنتم أهلُ كذبٍ ونفاقٍ”!!
ومع دراسةِ التَّشيُّعِ دِينياً وتاريخياً، ودراسةِ إيرانَ سياسياً وثقافياً واجتماعياً؛ وَصَلَ النفيسيُّ مرةً أُخرى إلى قناعةٍ بَدَهِيَّةٍ أُخرى؛ مَفادها: أنَّ (إيران الملالي) كـ(إسرائيل الحاخامات) كلاهما كِيانٌ مُفتَعَلٌ يَشعرُ بالعُزلةِ عن المنطقةِ العربيةِ لاختلافِه عنها لغةً وديناً، وأنَّ الكراهيةَ المُتَجَذِّرةَ في النَّفسيَّةِ العبرانيةِ للمُسلمينَ والعربِ لا تَزيدُ عن الكراهيةِ المُتجَذِّرةِ في النَّفسيَّةِ الفارسيَّةِ للعربِ والمسلمين!!
هذا ما وَصَلَ إليه النَّفيسيُّ بَعدَ سنواتٍ من القراءةِ والبحثِ والتَّقصِّي؛ رَغمَ ما يُمكنُ أن يُقالَ عن الطَّبيعةِ التَّبادليَّةِ للكَراهيةِ بَينَ الأجناسِ وبَعضِها؛ خاصةً إذا تَجاوَرَتْ مكاناً وتَفاعَلَتْ زماناً.. وقد استدلَّ النفيسيُّ على هذه الكراهيةِ بما يُمكنُ أن يُستدلَّ بِضِدِّهِ على ضِدِّه؛ فذكرَ بعضَ شِعرِ الفردوسيِّ صَاحِبِ (الشاهنامه) في ذمِّ واحتقارِ العَربِ، كما ذَكَرَ قصيدةً لشاعرِ إيرانَ المعاصِرِ (مصطفى بَادْكُوُبَه) بعنوانِ (رسالة إلى اللهِ) أَلْقاها في بَلَدِيَّةِ طهرانَ سنة 2013، وجاء فيها:
“يا إِلهَ العَرَبِ!
لا مُشكلةَ لديَّ أن تُلقِيَنِي في جَهَنَّمَ..
أَلْقِنِي في جَهَنَّمَ كما تَشاءُ..
ولكنِّي أَرجُوكَ ألَّا تُسْمِعَني حَرفاً عَرَبِياً واحداً هناك”.
الغريب أنَّ هذه الكراهيةَ لم تُوجَّه للعربِ المسلمينَ فقط؛ بل وُجِّهت للعربِ الشِّيعة أيضاً، وَمَا مِنْ شيعيٍّ عراقيٍّ صادقٍ مع نَفْسِه -وما أَنْدَرَ الصَّادقِينَ في الشِّيعةِ!- تَسأَلُه عن هذه الكراهيةِ إلَّا ويُقِرُّ بها إقرارَ المخذولِ المُهانِ، بَعدَ أن اسْتَخدَمَتْهُم إيرانُ -باسْمِ التَّشيُّعِ- لتَدميرِ العراقِ والشَّامِ، وَرَهْنِ مُقَدَّراتِهما الضَّخمةِ لمَصلحةِ فَارسيٍّ مُعَمَّمٍ يَدَّعِي النَّسبَ الشَّريفَ ولا يُحسِنُ قِراءةَ الفاتحةِ قِراءةً صحيحةً!!
بل إنَّ البُيُوتاتِ العريقةَ للمَرجعيَّاتِ الشِّيعيَّةِ العربيةِ لم تَسْلَمْ أيضاً من العُنصريَّةِ الفارسيَّةِ ضِدَّها؛ فها هو محمد باقر الحكيم -صديقُ النفيسيِّ القديمُ- يَلتقيه في طهرانَ سنة 2002م ويُحَدِّثُه عن قرارِ الأمريكانِ بإسقاطِ صَدَّام حسين؛ مُستبشراً بقُربِ انتهاءِ عَهدِ الذُّلِّ والضَّنْكِ في المنفى الإيرانيِّ.. وحِينَ اندهَشَ النفيسيُّ من كلامِ الحَكيمِ عن الضِّيقِ الذي يُعانيه آلُ الحكيمِ في إيرانَ؛ أَردَفَ الحكيمُ قائلاً: إنَّ الإيرانيين يُعاملوننا مُعاملةَ التَّابعِ الذَّليلِ، ويَستخدمون التَّشيُّعَ كحِصانِ طروادةَ للسَّيطرةِ على العَربِ وإذلالِهم، وإنَّ أوَّلَ عملٍ سأَعمَلُه حِينَ أَعودُ للنَّجفُ هو تَعريبُ المَرجعيةِ وتَنظيفُها من العناصرِ الفَارسيَّةِ… وكان هذا التَّصريحُ من الحكيمِ للنَّفيسيِّ هو الذي دَفَعَ النَّفيسيَّ -بعدَ ذلك- إلى التَّشكيكِ في حَقيقةِ قَتَلَةِ الحكيمِ وَتَرْجِيحِهِ وجودَ يدٍ لإيرانَ في عمليةِ قَتلِه، رَغمَ اشتهارِ مَقتلِه -إِعلامياً- على يَدِ تَنظيمِ القاعدةِ انتقاماً منها لمجازرِ المُسلمينَ في العراقِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق