المحاسبة على مشاريب قديمة
عبد الحكيم حيدر
حينما كان يحلو صفاء الضحك في مقهى مع الخطّاط الراحل حامد العويضي، ويطيب السمر، وتدخل أطراف الحكايات في أمر "الناس المشاكل" بعدما سمعنا أنّ رجلاً صعيدياً كان مبسوطاً في مطعم "الخمس قطط" قد شقّ بخاتمه صدغ شاعر، حينما رمى الكلام عليهم غامزاً، بأنّهم من حلاليف المقاولين، سكت الصعيدي وضحك، وقال له: "أحنا في ليلة سعيدة وبلاش الغلط يا رجّالة"، إلّا أنّ الشاعر زاد انبساطه فرقص وهزّ مؤخرته في مقابل "ترابيزة الصعيدي" فضحك الصعيدي ورمى "النقوط" أدباً لقعدة الشاعر المبسوط، وقال له: "أحنا في أيام حلوة وما ينفعش نعكّر على الناس الفرحة" ولمّ العباءة حول نفسه، وأرسل أيضاً باقةً من الورد للناس الطيبة، إلّا أنّ الشاعر، كما قيل، أحبّ أن يجعل الليلة كلها له، فنال عقابه في آخر الليل، قلت لحامد: "بس العقاب شوية صعب يا أبو صلاح" ضحك حامد وذكر لي حكاياتٍ عن "العيّال الصيّع"، الذين يشربون الشاي أو القهوة، ثم يفرّون من المقهى كاللصوص من دون دفع الحساب، وقد اعتبروا ذلك سكّة مبكرة من سكك الفتونة، رغم أنّ القهوجي البسيط الذي يراهم في تلك الحالة غالباً ما يضحك ويتسامر مع المقرّبين منه حتى آخر الليل في أمر هؤلاء الذين فرّوا من دفع الحساب، رغم أنّهم من مظهرهم يبدو عليهم أنّهم من أولاد الناس، ويصعب عليه حال الدنيا، بعدما تبدّلت الأحوال، وجاء بأمر شباب يفرّون جرياً من دفع الحساب، فيسمع الكلام كفيفٌ يلازم المقهى بزيّه الأزهري، ويقول للقهوجي: "المرّة الجاية إن مسكتهم نعلقهم في الفلكة في القهوة وأنا اللي أدّيهم الطريحة بنفسي" فيسكت القهوجي، ويقول: "ولا طريحة ولا يحزنون مش يمكن يكونوا مفلسين يا سيدنا". يضحك سيدنا ويأتي على ذكر فتىً من قديم الزمان كان اسمه "عكشة" ترك الأزهر صبياً، وكان قد تعوّد مثل هذه الأفعال في المقاهي، والآن صار ابن طريقة، وعمامته في حجم بلاصين، وقد صار شيخاً كما قيل بعدما أخذ، علقة موت، عندما ضُبط في مقهى بالإمام الشافعي.
يضحك حامد قائلاً: "يا حكيم، أنت زعلان دي مشاريب قديمة العيال دي هاربة من دفعها زي عكشة كده؟".
يأخذنا السمر بعد ذلك مع حامد العويضي الحكّاء إلى بواكي شارع محمد على، وإلى صنايعية الأفراح والعيدان، وأنه كان يسكن في بيت قديم بالسيدة زينب من بابه، يصول حامد العويضي ويجول في ليل القاهرة أيام كانت هادئةً من السيدة زينب، وهو طالب هندسة في أواسط السبعينيات، حتى يصل بنا إلى "لوكاندات" سيدنا الحسين.
يحكي حامد عن قيمة العمل وشرفه، وكيف كان يسهر في ورشةٍ كي يكتب كلمات الميداليات: "أنت عمري"، و"يا مسهرني"، وكيف أشترى في ليلة عيد خروفاً في السيدة زينب، من أجل الأقارب الصعايدة، حينما امتلأ البيت بهم في موسم عيد، وكيف أرسل إليه صاحب محل عطارة "مخلصان حق" شوالين من البهارت الحرّاقة، بعدما كتب له إعلاناً جميلاً ما زال يضيء بجوار سيدنا الحسين بالكهارب، فشال الصعايدة البهارات إلى قراهم، وظلّ هو يضحك كلما مرّ سنوات على الدكّان بعدما مات صاحبه.
يحكي حامد عن قيمة العمل وعن النحل وعن العسل، وعن الشغالات في "لوكاندات" سيدنا الحسين، وكيف يكافحن لتربية بناتهن وأولادهن بعد موت الزوج، ولا تستطيع أن تكلّمها بكلمة سوء أبداً، ويحكي عن الشعر حينما لا يصدّقه، والغريب أنّ الكذبة يكتبونه بهمة عكشة نفسها، وهروبه من دفع المشاريب، حتى صار بعضهم أقرب إلى اللصوص. يتكلم حامد العويضي عن الأثر الروحي للكتابة، ويقول تلك هي خارج الصنعة والبهلوانية واختراق "التابو" وهذا الكلام الهلس وخارج حتى العروض، لكنّ الكتابة تسبيحات من الروح بكلمات، ليست هائمة في الفراغ أو العدم، وإذا بالشيخ أحمد برين يدخل الحكاية، حكاية حامد العويضي، فيقول لي حامد: "تعرف، يا حكيم، أنا بحب الشيخ أحمد ليه؟ مش لأنّه منشد، ولا كفيف، ولا صوته حزين، ولا حاجة من ده كله، أنا بيدهشني فيه الشاعر النائم داخله، ولا يستيقظ بشكل فطري إلّا مع صهللة السامر والإنشاد، هذا ما يدهشني، كيف يدخل إلى جوهر الشعر من دون أن يقصد ذلك وبكلّ أريحية وبساطة"، ثم يضحك حامد ويقول: "ينقصنا الكثير حتى نفرح بالشعر" ويشير إلى القهوجي وهو يضحك كي يدفع الحساب، وإلّا فسنهرب مثل عكشة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق