كانت جارة لنا.. نشأت فرأيتها.. وهي أول من رأيتها تلبس النقاب، ولم يكن هذا شائعا في محيطي الأول..
ولكن تحت النقاب نفس مشرقة، ووجه صبوح، وسَمْتٌ منير، وكلام يسيل منه الحب والرحمة..
وقد أخبرتني أمي أنها تائبة، فقد رأتها أمي قبل مولدي بسنوات، وهي غير متحجبة، حين كانت تمضي إلى عملها، إذ كانت مديرة مدرسة.. لكن الله أنعم عليها بالتزام الدين وهي في الأربعينات!
وإذا بالمعدن الأصيل والنفس الطيبة ينقلب حاله، فما هو إلا قليلٌ حتى انكبت على الدين وكتبه، وما هو إلا قليل حتى صار لها درس تعقده للنساء، وقد كنتُ شاهدا على النساء اللاتي تغير حالهن على يدها، بأثر من درسها!
درجت إليها طفلا، كانت أول من علمني سور القرآن الصغيرة، وبعض الحساب، وذلك قبل أن أدخل إلى المدرسة، وهي أول من سمعت منه حديث الجنة والنار، نعيم الجنة وما فيها من القصور والطعام والشراب، وعذاب النار وما فيها من الجحيم والنكال!
وهذه هي اللبنة الأولى التي حُفِرت في نفسي، وكان تأثيرها هو التأثير الباقي الدائم، فمهما توسع اطلاع المرء فيما بعد، إلا أن الأثر الأعظم هي لتلك الرجفة الأولى التي شعرتها وأنا بين يديها.. رجفة الشوق إلى الجنة ورجفة الخوف من النار!
نزلت من عندها في هذا اليوم الذي لا أنساه وأنا عازمٌ على إقامة الصلاة..
لقد كانت امرأة يشع منها الدين، تصدر عنها الأخلاق الحسنة طبعا وجبِلّة، لا يقارن أثرها على الأطفال إلا بأثرها على النساء.. وقد حضرت مع أمي بعض دروسها وأنا صغير، فكان كلاما لم أفهمه، ولكني فهمت أن النساء يجلسن أمامها كأن على رؤوسهن الطير!!
وذات يوم قالت لي أمي وهي حزينة: لن تعطي الحاجة "هناء" دروسها..
- لماذا؟
- منعوها؟
- من الذين منعوها؟
- الحكومة
- ولماذا تمنع الحكومة درس الحاجة هناء؟!
لا أتذكر الآن كيف أجابت أمي على سؤالي، لكنها كانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن هناك شيء اسمه "الحكومة" تمنع الخير وتصد عن سبيل الله!!
فيما بعد عرفت كيف جاءها التهديد، كان على هذه الصيغة: انتهاء الدرس فورا، وإلا سيختفي زوجك وأبنائك إلى الأبد!
ذات مرة رأيتها تقرأ في كتاب ضخم.. وقد ملأته بالخطوط، فسألتها: ما هذا الكتاب؟
قالت: في ظلال القرآن
- وما معنى هذا؟
ولا أتذكر الآن كيف أجابتني أيضا!
هُرعت إلى أمي وأنا أسألها: من الذي يستطيع أن يكتب كتابا كبيرا مثل الذي تقرأ فيه الحاجة هناء؟
قالت أمي: هذا كتاب كتبه الشيخ سيد قطب
- وأين هو الشيخ سيد قطب؟ (كنت أظن أنه في مدينتنا الصغيرة)
قالت أمي: أعدموه.
وللمرة الثانية أعرف أن هذه الحكومة التي تمنع دروس الدين هي التي يمكن أن تقتل العلماء.
نعم، إنها المذاقات الأولى..
ربما لم أستفد منها علما كثيرا، لكني استفدتُ منها ما هو أعظم من العلم.. التأثر!
ملامحها لا تغيب عني وهي تصف لي وصف الجنة والنار، وهي تعلمني الوضوء والصلاة، وهي تعطيني "نجمة كبيرة" لأني أصبتُ في حل مسائل الحساب.. كان تعاملها وتشجيعها يشعرني أنني على قدر من الأهمية!!
وعلى هذا النحو من الخلق الجميل كان زوجها رحمه الله، وكان ولداها حفظهما الله..
ثم تقلبت الأيام وتباعدت الديار وانقطعت الأخبار.. حتى عرفت اليوم أنها قد تُوفيت منذ شهور، فكانت من شهداء هذا الوباء.. أحسبها كذلك والله حسيبها!
مما لا أنساه من المواقف المؤثرة، ذلك الموقف العجيب الغريب الطريف الذي يخبرك أين وصلت بلادنا!
كانت قد تقدمت في العمر واحتاجت لمن يخدمها، فجيئ لها بخادمة تحمل عنها بعض العبء، إلا أن هذه الخادمة سرقتها، ولما اكتُشِفت السرقة، ووُجِهت هذه الخادمة بجريمتها لم تنكر.. ولما هُدِّدت بإبلاغ الشرطة قالت: لا بأس، أبلغوا الشرطة وأنا سأقول: إنها كانت تستضيف في بيتها اجتماعات كثيرة حافلة بالمنتقبات والملتحين!!
كانت خادمة وسارقة، ولكنها تفهم أحوال البلد خيرا من جمهرة المثقفين المتسكعين في الفضائيات والمراكز البحثية، أولئك الذين يبيعون الكلام!!
فاجتمع على المرأة الصالحة في هذا الموقف قهر وعجز وخوف!!
سلاما عليكِ يا معلمتي الأولى..
أسأل الله تعالى أن يكتب لك أجرك المنثور فيمن تعلموا على يديك، وأن يجعلك من الشهداء، وأن يرفعك إلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق