في أوقات الأزمات تتبخر الطلاءات
في أوقات الأزمات تتبخر الطلاءات وتتفتت القشور وتتمزق الأغلفة وتذوب المساحيق!!
أعتبر نفسي محظوظا لأني اكتشفت زيف مبادئ «شركاء الثورة والميدان» من قبل الثورة.. كل شعارات الديمقراطية تتبخر حين تأتي بالإسلاميين!
وأعتبر نفسي محظوظا أني قرأت تاريخ العسكر قبل وقوع الانقلاب، وما كتبتُه في وقت الثورة وبعد تنحي مبارك بأيام يشهد أني توقعت انقلابهم في كل لحظة.. كل شعارات الوطن والوطنية والسيادة تتبخر حين يتهدد النظام!
وأعتبر نفسي محظوظا الآن أيضا، لدينا من تجارب القهر ما كان يغنينا عن الإعجاب بالغرب والانبهار به.. كل خرافات الدبلوماسية والمبعوث الدولي وجولات التفاوض وسلاسل مؤتمرات جنيف وسوتشي وباريس ولندن والصخيرات.. إلخ! كلها تتبخر حين يكون الدم المسال دم المسيحي الأبيض!!
إنها سطوة الغالب
ومع هذا فإني أعرف تمام المعرفة، وأوقن حق اليقين، أنه لولا هذه الأحداث ما تغيرت قناعة أكثر الناس.. إنها سطوة الغالب! إنه زخرف القول! إنه سِحْر الإعلام!
لنعترف.. نحن لم نؤمن بما في كتاب ربنا ولا بما في سنة نبينا إلا عندما سقطت الصاعقة على رؤوسنا.. فلننظر في حواراتنا ونقاشاتنا وإنتاجنا الثقافي والفكري والأدبي..
الآن تتبخر أحاديث الإنسانية والآن نتعلم درس الولاء والبراء من الغرب بموقفهم من أوكرانيا!!
الآن تتبخر أحاديث السيادة الوطنية والآن نتعلم درس «الجهاد العالمي» بما نراه من الغرب من فتح باب التطوع وتدفق الأسلحة والمقاتلين للقتال مع الأوكران ضد الروس!!
مثلما تبخر حديث الجيش الوطني وحرية الإعلام والقضاء الشامخ والأزهر الشريف مع موجة الانقلابات العسكرية والثورات المضادة!!
لم نؤمن بقوله تعالى (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) إلا حين ظهروا علينا ففعلوا ما كان فوق خيال المتشائمين “الوطنيين”!!
لم نؤمن بأن الناس ينحازون في النهاية إلى أفكارهم، مهما كانت مصالحهم، إلا حين رأينا اتحاد العلمانيين والعسكر على قتلنا، مع أنهم مهددون بالقتل والسجن أيضا، ولكنهم اعتنقوا عن إيمان وقناعة أو عن شهوة لم يستطيعوا لجمها عقيدة “نار العسكر ولا جنة الإسلاميين”.
إنني أتذكر تلك اللحظة التي رأيتُ فيها تبخر المبادئ.. كانت لحظة ثمينة والله.. تشبه من وجوه كثيرة لحظة محمود شاكر وهو يرى طه حسين يسرق فكرة مرجليوث ويعيد تسويقها بين المسلمين!!
صنعتني تلك اللحظة!! عرفت حينها عن حق ويقين أن كل محاولات “تهذيب الإسلام” وإعادة تركيبه على مقاس الوطن والمواطنة والدولة وما تناسل عنها من قيم = عرفت عن حق ويقين أنها محاولات فاشلة!!
ليست فاشلة من حيث أنها لن توصلنا إلى شيء، فهذا أمر محتوم.. هي فاشلة من حيث أنها تسلبنا ديننا ومصدر قوتنا وتميزنا، وتفقدنا روحنا الملتهبة المؤمنة المتحمسة.. ثم لا يفعل مثل ذلك أحد غيرنا!!
إننا نخلع ملابسنا وحدنا.. والكل يرتدي دروعه التي صنعها من أفكاره!!
منذ ذلك الوقت، وأحمل في نفسي إجلالا عميقا عظيما مهيمنا لكل من آمن بما في كتاب الله وسنة رسوله دون أن تعلمه التجارب أنهما حق.. آمن بهما وشرب منهما وقرأ بهما طبيعة الحياة وخريطة الصراع وحقيقة المشاعر قبل أن ينزل سيف الخذلان على رأسه، قبل أن تصعقه الصاعقة، قبل أن يرى دمه مسفوكا على مذبح أوثان العصر وقيمه الزائفة!!
ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول -على ضعف همتي وقلة بضاعتي- أن أقول بوضوح: إن ابتعادنا عن ديننا في أصالته وبساطته وأفكاره الأولى هو التيه والضياع.. ومنا من سيضيع إلى الأبد! ومنا من سيعود لكن بعد أن نكون قد فقدنا من الخسائر ما لا يمكن تعويضه، وأهم من الخسائر: ما نكون قد فقدناه من الزمن.. ومن الفرص!!
ترى: ماذا كنا سنصنع لو كنا نعرف من قبل الثورة أن جيوشنا وعسكرنا مجرد خونة وعملاء مثلما نعرف ذلك الآن؟!.. كم كان ذلك الأمر سيغير من سلوكنا ومن مصائرنا؟!
ترى: ماذا كنا سنصنع لو كنا نؤمن بأن الغرب مجرم وحشي عنصري، لا يرانا إلا كالحشرات، مثلما نعرف ذلك الآن؟!!!
أين كان سيكون مستوى نقاشنا وكلامنا وطبيعة تصرفنا وسلوكنا في سائر الملفات؟!
ألم يأنِ بعد كل هذه التجارب أن نعود فنتلقى أفكارنا من القرآن والسنة، أن نجلس في حضرة الوحي كالتلاميذ الصغار، الخاضعين المستسلمين، المنتبهين اليقظين؟!
كم من التجارب نحتاجها لنكتشف حقيقة المعركة والصراع في هذا العالم؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق