تعاسة من يبدأ الناس بالأذى
عبد الحكيم حيدر
كل التعساء هكذا. هم من بدأ العالم بالأذى، ابتداءً من قابيل وهابيل، مروراً بهذه القرون الغابرات حتى هذا الأسبوع الذي نشاهد أحداثه المؤسفة بأم أعيننا في عالمٍ ظننا وهماً أننا وصلنا فيه إلى قمة التحضر والشفافية والإنسانية وحقوق الإنسان والحيوان أيضاً، وإذا بنا نرى النار وقد خرجت من قمقم الأذى، معلنة في شكلٍ يمثل قمة البجاحة، حتى في معالجة الأذى أو الحوار فيه مع الآخر المصاب، حتى بعد حدوثه بالتحاور أو المفاوضات.
وإذا بمصنع الأذى وطابخه يعلن في بجاحةٍ نادرة تحتاج من علماء النفس جميعاً إلى تفسيرٍ حول شخصية قائلها، وما وصلت به ذاته التي تقول: "لن نتحاور إلا بعد الموافقة على كامل شروطنا".
تأملت هذه العبارة وضحكت، وقلت لذاتي أيضاً: "وما فائدة الحوار أصلاً، أو الغاية منه، طالما أنت في كامل تمسّكك بكامل شروطك، وماذا سيستفيد الآخر، ركوب الطائرة مثلاً وشرب الشاي؟". هل وصل بوتين إلى كامل قراره بتجريب الأذى حتى آخر المشوار، مهما طالت الحرب ودفع في كل يوم الثمن من اللحم الحيّ لاقتصاده ودولته، وقد أتمّ التخطيط لذلك مسبقاً، بشكل مدروس، رغماً عن العالم وفي مواجهته، أم أن الشخصية التي تجرّب الأذى، طوال عمرها لن تستطيع أن تنطق أو تسلك أو تعيش، إلا بإتمام الأذى حتى آخر الشوط، مهما كانت التكلفة قاسية وموحشة؟ أم أن الشخصية التي اعتادت الأذى فأدمنته سياسياً أو عسكرياً، أذى لنفسها وللعالم، هي هكذا في لحظات الخطر الذي تراه جيداً، تتماسك وتناطح في ضعفها، والعالم مهما كانت التكلفة، فتظهر للعالم هكذا في كامل قسوتها وحرفيتها في إدارة صراع الخراب، ومتنقلةً في غابة الموت بكل الطرق والصور والأشكال، متنقلةً من شكلٍ إلى آخر، كي تضمن الذات كل الحيل المحببة حتى خارج صندوق الذات للشخصية نفسها (لاحظ صور بوتين وسط حسان روسيا من الشابات صغيرات السن). هي رسالة لا تقول الحياة أبداً، لأنه يقتلها في بلاد جارةٍ هناك، ولكن الصور تقول ارتباك الشخصية بوضوح، حتى وإن سعى صاحبها ناحية جمال الحياة المتمثل بوجوده وسط حسناوات روسيات يمثلن الأمل في الحياة، إلا أنه يقتل الحياة هناك، وتلك معضلةٌ تحتاج إلى تفسير أيضاً داخل شخصية مصدر الأذى ومنتِجه في العالم.
محاولة إيجاد صورة أخرى للعالم عن الذات أو الشخصية، صورة تعلن شخصيةً أخرى، هل تلك مراوغة أم رسالةٌ لتبديل التوجه وفتح صفحة جديدة في الصراع من وراء بابٍ موارب، الشخصية الدموية تقدّم كل تجلياتها ومرادها للمشهد، كي يصدّق العالم نبل المقصد وحلاوة الآتي. "ما قصدنا أن نؤذي أوكرانيا أبداً".
هكذا يدخل حصة التعبير المدرسي، كي يخفّف من جلافة القسوة، كي يقدّم شهادة مخاتلة على نبل مقصد الحرب، أو نبل مقصد الأذى، محاولة للخروج بكامل دسم الكذب، لأن الطائرات ما زالت تقصف هناك، ولكن صاحب الأذى يخفّف الدماء بجمال المشهد، وخصوصاً عيون الحسان، حينما تقترب منها الكاميرا، وترسم البنات على شفاههن السرور، والهيبة أيضاً. ولعلّ تلك رسالة أخرى من خلال هذه المشاهد التي يحاول صاحب الأذى أن يخفّف بها من آلام المشهد، ومن آلام مدينةٍ تهدم على رجاله وبناتها في أقرب جارةٍ له، بها خليط دماء وأنساب وعلاقات وتاريخ وعقيدة أيضاً، تلك معضلةٌ تحتاج، هي الأخرى، إلى مزيد من التفسير لتلك الشخصية، ومن خيبة ذلك المشهد شبه المصنوع وسذاجته في محو عار الدماء والقتل. نحن أمام مراوغة لا تصدّق أبداً، ومفضوحة أيضاً، كمشاهد الدعاية والإعلان عن الورد والياسمين والفيلات السعيدة بالموسيقى "في مسلسلات الشرق السعيد"، بعد زراعة القنابل في الميادين، مهما كانت استيكة البروباغاندا وجمال البنات والفيلات والقصور وحرفية المسلسلات السعيدة.
زراعة الصور المربكة في المشهد محاولة شرقية جداً وقديمة أيضاً، محاولة زراعة الورد حول القصور الجمهورية بجوار المدافع المنصوبة، محاولة احتضان أطفال مرضى في مستشفيات معقّمة بعد طحن سيناء بالدبابات كما يحدُث في بلادنا، أو توزيع الكرّاسات على أطفال الحضانات بعد طحن الجماجم في "رابعة"، أو محاولة إلباس أطفال أبناء الضباط ملابس الضباط بعد أي مقتلة، كلها جهود شرقية لمحو العار بأي شكل.
المهم أن يأخذ خالق الأذى وصانعه، قبلة المشهد أمام الكاميرا، كلها مشاهد مصنوعة لتبرير الدم، أو احتلال الجار، أو خراب البلدان، كي تظلّ الشخصية ابنة الساعة والأمل والحياة أيضاً، مهما كان ثمن القتل هناك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق