كيف أُطيح بالمسيحية..
أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
في أحدث الإصدارات المتعلقة بتاريخ المسيحية في العصر الحديث، التي أطاحت بالعقيدة الأساس بلا رجعة، صدر كتاب بعنوان: "صداقة غيّرت التاريخ، يوحنا بولس الثاني وصديقه اليهودي"، ومقدمة هذا الكتاب بقلم البابا فرانسيس، تحت عنوان: "يوحنا بولس الثاني، أخوة متجددة، الكنيسة واليهودية". أما الكتاب فهو صادر عن أربعة دور نشر فرنسية هي: سلفاتور، بايار، سير، ومام. الأمر الذي يشير إلى أهمية الموضوع المراد تبليغه للقارئ، وخاصة للعاملين في الفاتيكان والكيان الكنسي برمته، ثم بالتالي لكافة الأتباع وللعالم أجمع!
والموضوع متعلق بمرور 36 عاما على زيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني (1920ـ2005) للمعبد اليهودي الكبير في روما، وذلك في الثالث والعشرين من شهر إبريل سنة 1986. وقد تم نشر الكتاب تحت اشراف المكتب الوطني للعلاقات مع اليهود التابع لمؤتمر أساقفة فرنسا. وقد أعرب رئيسه منذ عام مضي قائلا: "إني سعيد بالمكتب الوطني للعلاقات مع اليهودية، الذي يحتفل بالعيد الخامس والثلاثين لزيارة البابا يوحنا بوس الثاني للمعبد اليهودي الكبير في روما لنشره هذا الكتاب". والكتاب صدر في المكتبات يوم 24 مارس 2022.
ومن اللافت للنظر حول الأهمية التي يتم فرضها على هذا الحدث، الذي أطاح بالمسيحية، وإن كانوا يقدمونه على أنه حدث جدير بكل تمجيد، أن يقوم البابا فرانسيس بكتابة مقدمته بادئا بالبيان المجمعي الصادر عن مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965 تحت عنوان: "في زمننا هذا". وهي الوثيقة التي اعتبرها الأمناء من المسيحيين أنها قد أطاحت بالعقيدة المسيحية الي غير رجعة. تلك العقيدة التي تم فرضها سنة 325 بأمر من الإمبراطور قسطنطين، وظلت الكنيسة تلعن اليهود طوال ألفا عام تقريبا، على أنهم قتلة الرب، ويكررونها في قداس كل أحد قائلين: "لعنة الرب علي اليهود الذين قتلوا الرب يسوع" ويدعونهم للدخول في المسيحية! ثم، فجأة، وبعد ألفا عام تقريبا تذكر الفاتيكان، أو رأي، أو فُرض عليه قول: إن اليهود أبرياء من قتل المسيح!!
وقد أثبت هذا القرار للأتباع بوضوح لا لبس فيه كيفية التلاعب بالنصوص والعقائد وتغييرها وفقا للأهواء والمطالب السياسية حتى وإن كانت الحقائق التي اختقوها ثابتة راسخة تكررت لمدة ألفا عام تقريبا!
وليس من المبالغة في شيء إضافة أن هذا الحدث، أو هذا التلاعب الواضح بالعقيدة، من أجل أغراض وأهواء سياسية، هي التي أدت إلى تباعد الأتباع، بل والعديد من رجال الكنيسة الأمناء، حتى أطلقوا على هذه الظاهرة عبارة: "النزيف الصامت للكنيسة"..
ويقول البابا فرانسيس في مقدمته لهذا الكتاب: "منذ الإعلان عن وثيقة "في زماننا هذا"، في مجمع الفاتيكان الثاني، التزمت الكنيسة الكاثوليكية بصورة قاطعة بالحوار مع العقيدة اليهودية، التي هي من الناحية الدينية، تعد أساس المسيحية. فالمسيحية تمتد جذورها في اليهودية، والمسيح نفسه كان يهوديا مولود في بيت لحم. فهو سلالة التراث اليهودي. لذلك يؤكد المجمع أنه توجد صلات قرابة شديدة بين التراثين الدينيين"، ثم يضيف بوضوح: "بموجب تراث روحي بمثل هذا الاتساع، مشترك بين المسيحيين واليهود، لذلك يقوم المجمع بتشجيع والتوصية بالاعتراف والتقدير المتبادل، الذي سيولد خاصة من الدراسات الإنجيلية واللاهوتية، وكذلك من الحوار الأخوي"!
ومما لا شك فيه، بناء على هذه الجملة الأخيرة من البابا، أنه سيتم اختلاق الكثير من الأدلة والبراهين لإثبات شدة القرابة بين المسيحية واليهودية، أو للكشف عنها، متناسين كل ما كالته الكنيسة لليهود من آلام وطرد وإهانة واضطهاد بل وقتل طوال هذه المئات من السنين، وجميعها ثابت في الوثائق الكنسية قبل غيرها. فهل سينسي اليهود معاناة ومهانة بل وآلام ألفا عام مهما تملقهم الفاتيكان؟
ثم أضاف البابا فرانسيس موضحا: "بالنسبة لليهود، يوحنا بولس الثاني هو من كسر الجليد في الحوار اليهودي ـ الكاثوليكي، لأنه عرف كيف يقيم تجاههم أفعالا وعبارات صداقة لا يمكن نسيانها". وبعد اشادته بالبابوات السابقين، الذين مهدوا للمجمع الفاتيكاني الثاني، أضاف قائلا: "ان التزام الكنيسة بكاملها (...) لم يتم ملاحظته إلا أيام يوحنا بولس الثاني".
ثم يشير الي تجربة يوحنا بولس الثاني في مدينة فادوفيتس في بولندا، التي كان ربع تعدادها من اليهود، وكم عانى يوحنا بولس من رؤية أصدقائه اليهود يبادون في المحرقة، وكم عانى من الرعب الذي كان ينشره النازي وكان اليهود أول ضحاياه. ويشير البابا فرانسيس الي أن تصرف البابا الراحل في هذا المجال، أي تطبيق وممارسة قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني بتبرأة اليهود وتحويلها عمليا الي مواقف "يرجع الي حد كبير لشخصيته المتفردة أكثر من غيره، فقد عرف كيف يقوم بتصرفات علنية لها مغزاها توضح الأولويات التي كان يراها".
ولا يفوت البابا فرانسيس توضيح كيف ان زيارة معسكر الإبادة في أوشويتزـ بيركنو يوم 7 يونيو 1979، في أول عام لانتخاب كارول فويتيللا/يوحنا بولس للبابوية، لها مغزاها. ثم تلاها زيارته للمعبد اليهودي الكبير يوم 13 إبريل 1986، مضيفا: "لأول مرة في التاريخ يقوم أحد البابوات بزيارة معبد يهودي للتعبير أمام العالم أجمع عن تقديره للشعب اليهودي".
ثم تلي ذلك "الاعتراف الدبلوماسي بدولة إسرائيل في ديسمبر 1993، وفي ممارس 2000، بمناسبة اليوبيل الذهبي وزيارته أثناء حجه إلى الأراضي المقدسة وتاريخ الخلاص، وزيارته لإسرائيل: "أنه حدث تاريخي قد أضفي على الحوار بين اليهود والكاثوليك دفعة رائعة"، على حد قول البابا فرانسيس، الذي فاته الإشارة الي أنه عند زيارة يوحنا بولس الثاني لحائط المبكي طلب منه اليهود أن يخفي الصليب الضخم الذي يضعه على صدره. وهي لفته توضح الفارق بين موقف الجانبين، المهرولين والمتحكمين، لكنها ثابتة في الإعلام والوثائق.
كما ذهب يوحنا بولس الثاني الي المبني التذكاري للمحرقة في ياد فاشيم بالقدس. وقام بتحية ذكري ضحايا النازي وصلي من أجلهم، كما التقي ببعض الناجين من المحرقة، وحضر اجتماع ديني كان به ممثلين من العالم الإسلامي، مقيما بذلك ولأول مرة اتصالات مباشرة مع كبير حاخامات القدس.
ويختتم البابا فرانسيس مقدمته موضحا كيف قام هو شخصيا باتباع خطي يوحنا بولس الثاني، وذهب مثله الي مكان المحرقة في بولندا، كما ذهب الي متحف ياد فاشيم.. وتنتهي المقدمة بكلمة الرحمة، قائلا: "معا، نقف أمام الرب لنشهد بحبه الواسع ورحمته"! فالكتاب برمته عبارة عن شهادة ولاء الفاتيكان وكنائسه لليهود.
أما الكتاب نفسه فيتضن أربعة محاور أساسية هي: الصلة الروحية التي تربط شعب العهد الجديد بسلالة أبراهام؛ ذكري المحرقة؛ الصراع ضد معاداة السامية؛ ومخاطر الحوار اليهودي ـ المسيحي. فالأمر يتعلق كما هو واضح: "بالتعبير عن أخوة ممتدة تتحول فعلا إلى مباركة حقيقية لعالم اليوم".. لكن، لصالح من فيهما؟ ولا ذكر لقيدار، الابن البكر لسيدنا إبراهيم، جد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والذي تم استبعاده عمدا من الكتاب المقدس.
كما نجد في هذا الكتاب المخجل بكل ما يتضمنه من حقائق كاشفة لموقف الفاتيكان، نص الصلاة التي كتبها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني ووضعها في جدار معبد القدس يوم 26 مارس سنة 2000، يوم الاحتفال باليوبيل الكبير، وارد في صفحة 314 في الكتاب، وهذا نصها:
"رب آباؤنا، لقد اخترت ابراهام وذريته، ليتم تبليغ اسمك الي الشعوب: نحن في غاية الحزن من تصرفات الذين جعلوهم يعانون طوال التاريخ، وهم أبناؤك، وبينما نطالبك بالعفو، نحن نلتزم بأن نعيش أخوة أصيلة مع شعب العهد، آمين"..
ولو تأملنا موضوع الكتاب برمته، بكل ما به من تفاصيل وأحداث، بل ونَص هذه الصلاة، حتى وإن كانت تعود الي سنة 2000، وربطناها بالأحداث الصهيونية الدائرة في فلسطين المحتلة، أي علاقة الكنيسة بالصهاينة في القدس، فالأمر متعلق بعملية ترضية واستجداء واضحة من الفاتيكان لليهود حفاظا على ما لديها من آثار وكنائس في القدس، بينما تقوم سلطات الاحتلال حاليا بطمس معالمها.. مثلما يقومون بإصرار جنوني لطمس معالم الإسلام بتدنيس المسجد الأقصى وساحته توطئة لهدمه. والكلام معلن رسميا منذ مجيء رئيسهم الحالي.
ويبقي السؤال مطروحا بكل ما به من مرارة وألم:
"هل من جدوى أو معني لأي كلام عن تخاذلنا كمسلمين"؟
زينب عبد لعزيز
17 إبريل 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق