من ترامب إلى بوتين : تداخل «الشخصية» مع الاستراتيجية
هناك تداخل عظيم بين شخصية القائد أو الزعيم من جهة والاستراتيجية التي ينتهجها أو يحاول تنفيذها من جهة أخرى.
تؤثر الشخصية على الاستراتيجية وبشكل تفاعلي تتأثر بها والعكس صحيح، بمعنى أن كلا منهما يؤثر ويتأثر بالآخر.
النماذج التاريخية القريبة والبعيدة تؤكد طغيان «الشخصية» على الاستراتيجية في التأثير والتغيير وأسلوب حسم الملفات!
وسنركز في مناقشة هذه الفرضية على تأثير شخصية بوتين على استراتيجية روسيا وكيف اختلفت أو تغيرت نوعا ما عند الاحتكاك بالاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط سواء في حالة التفاعل مع شخصية ترامب المندفع أو شخصية أوباما المتردد!
شخصية القائد تؤثر على الاستراتيجية وطريقة تنفيذها، بمعنى أنه حتى لو لم تتغير الاستراتيجية إلا أن أسلوب وشخصية القائد تجعل المراقبين يتصورون حدوث تحول جوهري قد لا يكون حقيقيا! فالاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط الجديد لا يمكن أن تتغير بين عشية وضحاها لكن قد يتصور البعض حدوث تغير مهم عند مقارنة رد فعل أوباما البارد على قصف أطفال الغوطة بالكيماوي مقابل رد فعل ترامب الساخن نوعا ما على قصف أطفال خان شيخون بالكيماوي، لم يتغير شيء وإنما تغير الأسلوب وتغيرت الشخصية!
فرضية (طغيان الشخصية على الاستراتيجية) لا تقوى في المجتمعات الدكتاتورية فحسب، حيث يكون القائد هو المسيطر على كافة الأمور، بل قد توجد في المجتمعات الديمقراطية العتيدة والأمثلة عديدة. على سبيل المثال، لقد كان تأثير شخصية الرئيس ريجان قويا على السياسات الأميركية وأعطاها طابعا جديدا مع جيرانها وفي الشرق الأوسط خاصة في مسألة تحدي التمدد الإيراني بعد الثورة الخمينية. وبالعكس كان تأثير شخصية رئيس الوزراء البريطاني بلير على سياسات واستراتيجيات بريطانيا العظمى سلبيا بامتياز فأوردها حوض التبعية لأميركا سنوات طويلة حتى لم تعد عظمى.
بالعودة إلى الشرق الأوسط الجديد كما تبشر به الإدارات الأميركية المتعاقبة نلاحظ وجود تداخل قوي بين شخصية بوتين واستراتيجية روسيا في الشرق الأوسط كما نلاحظ اختلاف مواقف روسيا تبعا لشخصية الرجل الذي ينام في البيت الأبيض! بوتين مثلا تخلى عن قذافي ليبيا حيث الذهب الأسود والموقع الاستراتيجي والمياه الدافئة وتمسك بالأسد ودفع من أجل ذلك الغالي من سمعة روسيا وسمعته الشخصية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا لأجل فرض زعيم مستبد على شعب يتطلع للحرية! هنا نستطيع القول أن شخصية بوتين كان لها دور في تغيير استراتيجية روسيا الحذرة تجاه تغيير الزعماء في المنطقة العربية وركون روسيا الواضح إلى عدم التدخل المكلف ماديا ومعنويا كما حدث في مسرحية إسقاط صدام حسين من قبل!
أما فيما يتعلق بتفاعل الشخصيات وتأثير ذلك على الاستراتيجيات فليس هناك مثال أفضل من تصرفات روسيا أيام الرئيس السلبي أوباما مقارنة مع تصرفاتها في حضور رئيس أميركي جديد يظهر وكأنه أوصل رسالة لبوتين مفادها «كفى دعما للأسد.. سوف تدفع الثمن»! الدعم المجاني والمجنون الذي تقدمه روسيا لنظام الأسد وحلفائه الإيرانيين استمر طويلا في ظل عدم وجود «خط أحمر» حقيقي من اللاعب الكبير في المسرح العالمي؛ الولايات المتحدة! لكن هل يستمر بعد ظهور صواريخ التوماهوك في الأجواء السورية؟ رغم رمزية الحدث!
لقد كان لشخصية بوتين المندفعة في مقابل شخصية أوباما السلبية دور كبير في تحقيق مكاسب لروسيا في أوكرانيا والقرم وأماكن أخرى بما يشكل تغييرا قويا في استراتيجية روسيا التي لم تستطع المحافظة على جورجيا قبل عدة سنوات رغم أهميتها! وذات الشخصية (بوتين) وجد الباب مفتوحا للتدخل في الأزمة السورية بكل هذا العنف واللامبالاة خاصة بعد أن وجد شخصيات قادة أعداء سوريا وهي مندفعة مثله في حين كانت شخصيات قادة أصدقاء سوريا تائهة في ظل البرود والانعزال الأميركي الذي ميز إدارة أوباما وملفاتها السرية الغامضة! لكن اليوم هناك ضرورة للتغيير والتكيف مع أمواج البيت الأبيض! من يتابع لهجة المسؤولين الروس قبل قصف مطار الشعيرات في حمص مع لهجتهم بعدها سيدرك حجم «التكيف» الذي تحاول روسيا أن تفرضه على الحالة السياسية في سوريا بعد تغير شخصية الرئيس الأميركي وليس الاستراتيجية الأميركية! حتى لهجة الأميركان اختلفت، من كان يتخيل أن وزير خارجية أميركا سيلمح لنهاية الأسد حيث قال «تتمثل رؤيتنا في أن حكم أسرة الأسد يقترب من نهايته»! قال هذه الإشارة المهمة من قلب موسكو وكان يجلس بجواره وزير خارجية روسيا الصداع لافروف الذي يلعب في أحيان كثيرة دور المتحدث الرسمي لنظام الأسد مع كثير من العنجهية والصفاقة والكذب! ظهور «شخصية» التوماهوك أحدث تغييرا حتى في الكلمات!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق