السلف الصالح والجهر بالحق أمام الحكام والولاة
مواقف مضيئة لسلفنا الصالح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى وما تحملوا في سبيل ذلك من الأذى والابتلاءات المضنية.
بعض المواقف المشرقة لسلفنا الصالح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نذكر بعض المواقف المشرقة لسلفنا الصالح وهم يقولون كلمة الحق ويتواصون بها مع الناس ومع ولاة الأمر في زمانهم – لا يخشون إلا الله عز وجل – ولم يمنعهم لزومهم جماعة المسلمين وطاعة إمامهم أن يصدعوا بالحق ولا يكتموه – لا يخافون في ذلك لومة لائم – وإن من النصح للأمة وإحيائها من سباتها التذكير بمواقف سلفها الصالح في الصدع بالحق ومحاربة الباطل ، وأنهم ما كانوا في يوم من الأيام مداهنين للباطل کاتمين للحق ولا أنهم كانوا منعزلين عن حياة الناس وسياسة الأمة ، ولا أنهم كانوا يفهمون من نصوص السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين عدم مناصحتهم والصدع بالحق أمامهم وإنكار ما يظهر من المنكرات في زمانهم ، فما كان هذا حالهم ومن ظن فيهم هذا الظن فقد افترى عليهم . ومن هذه المواقف ما يلي:
إنكار أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وصدعه بالحق
عن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة فقال : ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد رضي الله عنه : أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان»1.
وقد أنكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هذا المنكر على مروان من قبل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : « فلما أتينا المصلي إذا بمنبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا بمروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه ، فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله، فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم . فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم»2.
عبادة بن الصامت رضي الله عنه وصدعه بالحق
عن ابن أبي أويس ، عن أبيه عن الوليد بن داود بن محمد بن عبادة بن الصامت عن ابن عمه عبادة بن الوليد قال : كان عبادة بن الصامت مع معاوية رضي الله عنهما فأذن يوما فقام خطيب يمدح معاوية ويثني عليه ، فقام عبادة بن الصامت بتراب في يده ، فحشاه في فم الخطيب ، فغضب معاوية ، فقال له عبادة : إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ومکسلنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم بالحق حيث كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم المداحين ، فاحثوا في أفواههم التراب»3 .
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وصدعه بالحق
أصدر الخليفة المأمون أمره لواليه على بغداد – إسحاق بن إبراهيم – بضرب عنق كل من يخالف اعتقاده بخلق القرآن الكريم ، وأخذ العلماء بالرخص إلا أربعة منهم : أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح ، وعبيد الله القواريري ، وسجادة ، فأدخلوا السجن مصفدين بالأغلال ، وفي اليوم التالي جيء بهم إلى حاكم بغداد لإعادة السؤال عليهم ، فأجاب سجادة بما ينجيه ولحق القواريري بصاحبه ، فأطلق سراحهما ، وبقي ابن حنبل وابن نوح ، أما ابن نوح فمات سجينا في (عانة) – وهي بلدة عراقية ، وأما الإمام أحمد فنقلوه من سجن لآخر حتى انتهى المطاف به في سجن الياسرية ببغداد ، ثم نقلوه إلى حبس العامة في درب الموصلية وفي هذا السجن طرح ثمانية وعشرين شهرا ، وجلد بالسوط حتی سالت دماؤه وأشرف على الموت دون أن ينتزعوا منه أي اعتراف ببدعتهم ، ومن أقواله المأثورة : « يا عم – عمه إسحاق بن حنبل – إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل ، متى يتبين الحق ؟ ». ولما دخل عليه يحيى بن معين يعوده في مرضه لم يرد عليه السلام ، فما زال ابن معين يعتذر بقول الله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [النحل:106] ، وبحديث عمار ، فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر، فقال يحيى : لا يقبل عذرا .
فلما خرج يحيى قال أحمد : يحتج بحديث عمار ، وحديث عمار : مررت بهم وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني ، وأنتم قيل لكم : نرید أن نضربكم ، فقال يحيى : والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك4.أ.ه.
الإمام النووي وجهره بالحق
يقول علاء الدين بن العطار تلميذ الإمام النووي : وكان – النووي – مواجها للملوك والجبابرة ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وكان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل ، وتوصل إلى إبلاغها ، فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه وهو يتضمن العدل في الرعية و إزالة المكوس عنهم … فكان جواب السلطان بالإنكار والتوبيخ والتهديد ، فكتب رحمه الله جوابا لذلك الجواب ومما جاء فيه: «… وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها فقال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، فوجب علينا حينئذ بيانه ، وحرم علينا السكوت».
وقال أيضا ما موجزه : «ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء ، من نقد ، أو متاع، أو أرض ، أو ضياع تباع ، أو غير ذلك … وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان – أعز الله أنصاره – متفقون على هذا ، وبيت المال بحمد الله معمور».
وقال في رده على تهديد السلطان : « وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا وتهديد طائفة ؛ فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه! وأي حيلة لضعفاء المسلمين المغرقين في أقطار ولاية السلطان في كتاب
كتبه بعض المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ولا علم لهم به؟ وكيف يؤخذون به لو كان فيه ما يلام عليه !؟ .
وأما أنا في نفسي ؛ فلا يضرني التهديد ، ولا أكبر منه ، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان ، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري ، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى : (إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) ، (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق أينما كنا ، وأن لا نخاف في الله لومة لائم5..
كلمة حق للشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله
وهذه كلمة حق صدع بها الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى يعاتب فيها نفسه وأكثر العلماء في التقصير عن قول كلمة الحق في زماننا اليوم وما حل فيه من المفاسد العظيمة والتي يجب تحذير الأمة منها والتصدي لمواجهتها فتراه يقول : « ما أقل ما قلنا (كلمة الحق) في مواقف الرجال ، وما أكثر ما قصرنا في ذلك ، إن لم يكن خوفا فضعفا ، ونستغفر الله ، وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا ، كفارة عما سلف من تقصير ، وعما أسلفنا من ذنوب ، ليس لها إلا عفو الله ورحمته ، والعمر يجري بنا سريعا ، والحياة توشك أن تبلغ منتهاها ، وأرى أن قد آن الأوان لنقولها ما استطعنا ، وبلادنا بلاد الإسلام تنحدر في مجرى السيل ، إلى هوة لا قرار لها ، هوة الإلحاد والإباحية والإنحلال فإن لم نقف منهم موقف النذير ، وإن لم نأخذ بحجزهم عن النار ، انحدرنا معهم ، وأصابنا من عقابيل ذلك ما يصيبهم ، وكان علينا من الإثم أضعاف ما حملوا .
ذلك بأن الله أخذ علينا الميثاق : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187] وذلك بأن الله ضرب لنا المثل بأشقى الأمم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:79-78] ، وذلك بأن الله وصفنا – معشر المسلمين – بأننا خير الأمم : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران: 110] فإن فقدنا ما جعلنا الله به خير الأمم ، كنا كمثل أشقاها وليس من منزلة هناك بينهما… ، وذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحقرن أحدكم نفسه ، قالوا : يارسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمرا لله عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشی»6.
نريد أن ننافح عن القرآن ، وقد اعتاد ناس أن يلعبوا بكتاب الله بين أظهرنا ، فمن متأول لآياته غير مؤمن به يريد أن يفسرها على غير ما يدل عليه صريح اللفظ في كلام العرب حتى يوافق ما آمن به ، أو ما أشربته نفسه من عقائد أوربة ووثنيتها وإلحادها ، أو يقربه إلى عاداتهم وآدابهم – إن كانت لهم آداب – ليجعل الإسلام دينا عصريا في نظره و نظر ساداته الذين ارتضع لبانهم ، أو رُبي في أحضانهم !
ومن منكر لكل شيء من عالم الغيب، فلا يفتأ يحاور ويداور، ليجعل عالم الغيب كله موافقا لظواهر ما رأى من سنن الكون ، إن كان يرى، أو على الأصح لما فهم أن أوربة ترى !… نعم ، لا بأس عليه – عنده – أن يؤمن بشيء مما وراء المادة ، إن أثبته السادة الأوربيون ! ولو كان من خرافات استحضار الأرواح ! …
نريد أن نحفظ أعراض المسلمين ، وأن نحارب ما أحدث (النسوان) وأنصار (النسوان) من منكرات الإباحية والمجون والفجور والدعارة هؤلاء (النسوان) اللائي ليس لهن رجال ، إلا رجالا (يُشبهن) الرجال هذه الحركة النسائية الماجنة التي يتزعمها المجددون وأشباه المجددين ، والمخنثون من الرجال ، والمسترجلات من النساء ، التي يهدمون بها كل خلق کریم ؛ يتسابق أولئك وهؤلاء إلى الشهوات ، وإلى الشهوات فقط .
نريد أن ندعو الصالحين من المؤمنين ، والصالحات من المؤمنات – الذين بقي في نفوسهم الحفاظ والغيرة ومقومات الرجولة ، واللائي بقي في نفوسهن الحياء والعفة والتصون – إلى العمل الجدي الحازم على إرجاع المرأة المسلمة إلى خدرها الإسلامي المصون ، إلى حجابها الذي أمر الله به ورسوله ، طوعا أو كرها .
نريد أن نثابر على ما دعونا وندعو إليه من العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله في قضائنا کله ، في كل بلاد الإسلام، وهدم الطاغوت الإفرنجي الذي ضرب على المسلمين في عقر دارهم في صورة قوانين ..
نريد أن نحارب النفاق والمجاملات الكاذبة ، التي اصطنعها كتاب هذا العصر أو أكثرهم فيما يكتبون وينصحون ! يظنون أن هذا من حسن السياسة، ومن الدعوة إلى الحق: (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) اللتين أمر الله بهما ! وما كان هذا منهما قط ، وإنما هو الضعف والاستخذاء والملق والحرص على عرض الحياة الدنيا . .
وما نريد بهذا أن نكون سفهاء أو شتامين أو منفرين ، معاذ الله ، و« ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ، ولا الفاحش ولا البذيء » كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم7 ، ولكنا نريد أن نقول الحق واضحا غير ملتو ، وأن نصف الأشياء بأوصافها الصحيحة، بأحسن عبارة تستطيعها ، ولكنا نربأ بأنفسنا و بإخواننا أن نصف رجلا يعلن عداءه للإسلام ، أو يرفض شريعة الله ورسوله – مثلا- بأنه ( صديقنا ) ، والله سبحانه نهانا عن ذلك نهيا جازما في كتابه ، ونربأ بأنفسنا أن نضعف ونستخذي ، فنصف أمة من الأمم تضرب المسلمين بالحديد والنار ، وتهتك أعراضهم وتنتهب أموالهم ، بأنها أمة ( صديقة ) أو بأنها أمة ( الحرية والنور ) ، إذا كان من فعلها مع إخواننا أنها أمة (الاستعباد والنار ) ! وأمثال ذلك مما يرى القارئ ويسمع كل يوم .
فإن عجزنا أو ذهبنا ، فلن يعدم الإسلام رجلا أو رجالا خيرا منا ، يرفعون هذا اللواء ، فلا يزال خفاقا إلى السماء ، بإذن الله »8.
ولولا خشية الإطالة لذكرت مزيدا من هذه المواقف المضيئة لسلفنا الصالح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى وما تحملوا في سبيل ذلك من الأذى والابتلاءات المضنية ، كما حصل ذلك للإمام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وتلميذه ابن القيم ، ومن سار على دربهم في الصدع بالحق والجهاد في سبيل الله تعالى ، و كالإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن جاء بعده من أئمة الدعوة إلى عصرنا هذا ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم « ولا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)9.
الهوامش
(1) مسلم ك . الإيمان باب بیان کون النهي عن المنكر من الإيمان (49) .
(2) أخرجه البخاري (956) ، ومسلم (889) .
(3) سير أعلام النبلاء 2/7، وحديث (( إذا رأيتم الماحين )) رواه مسلم (3002) .
(4) (بتصرف و اختصار) من سير أعلام النبلاء 11/332 ، والبداية والنهاية 346/10.
(5) تحفة الطاليين في ترجمة الإمام محيي الدين لتلميذه علاء الدين بن العطار المتوفي سنة 724.
(6) ابن ماجة 2/252 بإسناد صحيح (احمد شاكر) .
(7) أخرجه أحمد (1/404-405) ، والبخاري في الأدب المفرد (332،312) والترمذي (1977) من حديث عبد الله بن مسعود : وقال الترمذي حسن غريب ، وصححه الحاكم (1/12) ووافقه الذهبي .
(8) مقدمة كتاب : ( كلمة حق ) للشيخ أحمد شاكر رحمه الله مع الاختصار .
(9) البخاري (3640) ، ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة ، وأخرجه البخاري (3641) ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.
اقرأ أيضا
الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء
وظيفة العلماء في تثبيت الأمراء .. نموذج تاريخي
ملوك فوق الملوك .. “المسلمون والحضارة الغربية” (3) قراءة في نصح العلماء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق