مجرد عصابة عسكرية منظمة!
لمرة أخرى يجب أن نكرر ونؤكد ونقول من جديد بأن المشكلة القائمة الآن في عالمنا العربي ليست مشكلة بين الإسلاميين وأنظمة الحكم.. بل هي مشكلة بين أنظمة الحكم وبين الجميع!
نعم، الإسلاميون هم الأقوى والأقدر على مقاومة هذه الأنظمة، وهم الذين يتعرضون للجانب الأعظم من التشويه والتكسير لسبب بسيط: أنهم الإفراز الطبيعي للأمة المسلمة.
لكن الذي تفعله أنظمة الحكم المعاصرة هو ضد الدين وضد الوطنية وضد العقل وضد الشرف.. فأي إنسان مخلص لوطنه ولو من منظور علماني وطني مادي لا علاقة له بالدين، فهو سيتوصل في النهاية إلى عداوة هذه الأنظمة، وسيرى فيها عملاء العدو بكل وضوح.
بعبارة أخرى..
لو أن مصر يحكمها رئيس علماني وطني يرى أن الدين خرافة وأنه مصدر تخلف.. فهذا الرئيس الذي يحمل هذه الأفكار، هو نفسه الذي سيتحرك من منطلق وطني بحت في دعم الأزهر، لأن الأزهر يمثل قوة ناعمة مضافة إلى قوة البلد، الأزهر سيُوَلِّد له وجودا طبيعيا في مناطق شاسعة من إفريقيا وآسيا، وسيكون مدخله الطبيعي لعلاقات دولية واسعة، وسيضع في يده أوراقا كثيرة يمكنه أن يستعملها في تقوية مواقفه السياسية!
ذات الكلام سيُقال عن السعودية إذا حكمها حاكم علماني وطني.. إنه سيلقي بكل أنواع ثقله ودعمه لتعزيز مكانة الحرمين ونشر السلفية وطباعة كتب مشايخها واستقدام الدارسين من سائر بقاع الدنيا إلى السعودية..
مثلا، هذا التمدد الشيعي الذي يشتكي منه الجميع الآن، ما كان له أن يكون لولا الدعم التام الذي تقدمه الدولة للحوزة العلمية في قم ومشهد، وتلقي بثقلها السياسي والمالي كي لا يكون للشيعة حوزات علمية منافسة في العراق أو لبنان أو باكستان أو أفغانستان.. ولو أن الذي يحكم إيران ليس من آيات الله، وإنما هو حاكم وطني علماني بحت، فلن تراه يتراجع عن دعم هذه الحوزة العلمية لتتمدد في أنحاء العالم وتنشر قوتها الناعمة التي يستفيد منها سياسيا!
هذا ما فعله الغرب ذاته.. الغرب الذي شنق القساوسة واعتنق العلمانية وأقصى الكنيسة، هو ذاته الذي يسخو ويجود ويدعم حملات التنصير والإرساليات التبشيرية، وكانت جيوشه (العلمانية) تحتوي -أو تساند- البعثات الكنسية التي تنشر المسيحية في أدغال إفريقيا وبوادي آسيا! ولا يزال للفاتيكان نفوذ هائل وسطوة ضخمة في عالم السياسة، وهو مجرد كنيسة كبيرة!
ومن ثم، فما تقوم به هذه الأنظمة من ضرب معاقل القوة: كالأزهر في مصر والسلفية في السعودية و... إلخ، هو عمل من أعمال الخيانة.. ليست خيانة الدين فحسب، بل خيانة الوطن بالميزان العلماني المادي نفسه!
فبلادنا -من وجهة نظر علمانية وطنية بحتة- لن تكون ذات حضور سياسي ولا ذات قوة إقليمية ودولية إذا انخلعت عن دينها واعتنقت العلمانية الغربية، فماذا تكون قيمتنا في هذا العالم إذا كان أقصى ما سنستطيع تقديمه أن نكون خاضعين مخلصين للأفكار الغربية!
إن الغرب نفسه لن يسمح لنا بالالتحاق به عضوا محترما في عالمه، وكيف يسمح بذلك لمن انخلعوا من أنفسهم وجاؤوه خاضعين؟! متى رأيت غنيا ثريا سمح لخادمه أن يجلس إلى جواره ويكون ندًّا له، لمجرد أنه ارتدى نفس الثياب واجتهد في حفظ البروتوكول؟!
وأدلُّ دليلٍ على ما نقول، أن هذه الأنظمة الحاكمة لم تجتهد أبدا في بناء دولة على النمط الغربي بحق، فلا هي تعمل على تكوين قضاء مستقل نزيه تسود أحكامه على الرؤساء والأمراء والملوك، على نحو ما فعلت الدول الغربية. ولا فكروا في إنشاء صحافة حرة وإعلام قوي، ولا حتى اجتهدوا في إنشاء جيوش قوية تدخل في سباق محموم لتحقيق التفوق الإقليمي وتدافع بشراسة عن حدود الأمن القومي للدولة!
والغرب الذي يؤزهم أزّا، ويدفعهم دفعا، لهدم حصونهم الدينية والثقافية لم يضغط عليهم أبدا لصناعة ديمقراطية حقيقية أو مؤسسات مستقلة..
ومن هنا، فناتج ما يجري في بلادنا أنه هدم بغير بناء.. تُهدم صورة الشيخ الذي يُعَلِّم ويُفتي ويقضي، ولا تُبْنَى صورة القاضي المستقل أو البرلماني الحر أو المُعَلِّم الكريم!
تُهْدم الأسرة بضرب فكرة قوامة الرجل وبضرب الأحكام الدينية التي تنظم حياة الرجل والمرأة، ولا تُبْنَى المؤسسات التي يمكنها انتشال المرأة المطلقة والمعيلة من مجتمع قاسٍ، أو حماية البنت المراهقة من عبث الشباب، أو رعاية المرأة المسنة من عقوق الأولاد!
تُهْدم منظومة التكافل المجتمعية الذي تحتوي الفقراء والمساكين والعاجزين والمحتاجين والمراهقين والشباب، ولا تُبْنَى مؤسسات الدولة للرعاية والضمان الاجتماعي وحماية المظلومين!
أي إن الدول في بلادنا -كما يقول بحق تشارلز تيلي- مجرد عصابات عسكرية منظمة لتحقيق أكفأ نهب ممكن!!
ونحن في كل حديثنا السابق هذا، ننظر من منظور علماني وطني مادي بحت.. وإلا فيعلم الله أنني أحتقر هذا النموذج المادي وأراه قزما كسيحا أمام عظمة النموذج الإسلامي.. وإذا كان رجل مثل وائل حلاق -وهو الأستاذ الجامعي المرموق- يفضل أن يعيش ذميا في عصر بني أمية وبني العباس على أن يعيش في أمريكا الحديثة.. فماذا عسى مثلي أن يقول وأنا الذي ينقسم يومي بين مطالعة تاريخنا ومعايشة واقعنا في بلادنا المنكوبة المقهورة؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق