نظرات قرآنية في سورة الفتح
د. حاكم المطيري
﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾ [الفتح: ١-٥]
🔹 جاءت سورة الفتح بين سورة محمد، وهي سورة الوعد بالنصر، والفصل بين النبي ﷺ وأعدائه من مشركي العرب ومن وراءهم من مشركي الأمم، وسورة الحجرات وهي سورة التوقير له ﷺ، وإجلاله، وتكريمه، للإعلان بسورة الفتح عن تحقق الوعد بالنصر له ﷺ، واستحقاق التكريم من المؤمنين وإنزالهم إياه ﷺ المكان العظيم الذي أنزله الله بالفتح للمؤمنين والمستضعفين الذي لم يشهد العالم مثله لنبي قبله ولا لبشر سبقه.
🔹 كانت آخر آية في سورة محمد ﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ [محمد: ٣٨] وهي تحذر المؤمنين من ترك نصرة الله ودينه ورسوله بالنفس والمال، وتتوعدهم إن تولوا عنه باستبدال غيرهم، لتأتي أول سورة الفتح بعدها مباشرة بالحكم ﴿إِنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾، لتؤكد أنهم رضي الله عنهم لم يتولوا عنه، ولم يستبدل الله غيرهم بهم، بل حقق لهم ما وعدهم به من النصر والفتح.
🔹 ولما كان هذا الفتح نبأً عظيما -لم يقرع أذن العالم أعظم منه، ولا أعجب من أحداثه- افتتحت السورة بالتعظيم لله -الذي منّ بالفتح- بضمير المتكلم بصيغة الجمع تعظيما للذات ﴿إنّا﴾، وأسند فعل الفتح له وحده سبحانه ﴿فتحنا﴾، تنويها بقدر هذا النصر، وأن الذي تولاه هو الله، وخص النبي ﷺ به أصلا ﴿لك﴾ تكريما لمقامه ﷺ وتشريفا له، والمؤمنين تبعا له.
🔹 ووصف هذا الفتح بأنه جاء ﴿فتحا مبينا﴾ ظاهرا ظهورا لا شك فيه ولا خفاء، وأنه دليلٌ بيّنٌ في نفسه، ودال غيره إلى الحق الذي بعث به هذا النبي ﷺ، وآية من الله معجزة على صدق نبوته ﷺ، وصدق ما أخبر به، وبتحقق ما وعده به ربه من النصر والفتح والاستخلاف في الأرض له وللمؤمنين معه، كما بشّرهم به القرآن والتوراة والإنجيل، وكما بشّر به كل الأنبياء أممهم من قبل، فهو أظهر دلائل وجود الله وقدرته على إنفاذ وعده، وتحقق كلماته، ونفوذ حكمه في خلقه!
🔹 والفتح يقابل الإغلاق، يطلق أحيانا ويراد به الحكم والقضاء والفصل في الأمر المتنازع فيه، كما قال شعيب: ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾، ويُطلق تارة ويُراد به العطاء الذي لا منّ فيه، ولا حصر له، ولا مانع منه، كما قال تعالى: ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها﴾، وكذا يُراد به النصر على العدو، وأخذ أرضه، كما في قوله تعالى: ﴿فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم﴾ ﴿عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده﴾، وفواتح كل شيء أوائله ومنه فاتحة الكتاب، وكل هذه المعاني تتوارد على هذا الفتح العظيم.
🔹 تحقق في هذا الفتح المذكور هنا تجاوز عقبة الانغلاق الذي كانت عليه الدعوة النبوية بمكة، ثم حصار الدولة النبوية في المدينة، الذي بلغ أوجه يوم الأحزاب، حتى ضرب المسلمون الخندق حول المدينة لحمايتها من عدوان مشركي العرب، ومنعهم من استباحتهم بيضة أهلها، فكان صلح الحديبية -الذي نزلت هذه السورة بعده مباشرة- وشروطه التي ظاهرها الإجحاف؛ فرجا وانفتاحا لهذا الانغلاق، فلم تغز المدينة بعده، وحتى دخل في الإسلام بعده أضعاف أضعاف من دخلوا فيه قبله، حتى لم يكلم فيه أحد يعقل إلا وأسلم.
🔹 وكذا كان هذا الفتح مقدمة وتمهيدا لفتح خيبر ثم مكة، حيث فتح الطريق لتفرغ النبي ﷺ لليهود في خيبر وشمال جزيرة العرب الذين يحرضون العرب عليه، ويوقدون نار الحرب بأموالهم وأشعارهم، ففتح خيبر بعد عودته ﷺ من صلح الحديبية بأربعة أشهر في أول السنة السابعة، ثم كان النصر الأعظم وهو فتح مكة بعده في السنة الثامنة، حيث دخلها النبي ﷺ فاتحا عنوة، ومعه عشرة آلاف صحابي (قديس) كما ورد عددهم ووصفهم في نبوءات الأسفار وبشارات كتب أنبياء بني إسرائيل.
🔹 وتحقق بهذا الفتح العطاء الرباني، والمدد السماوي، وتتابع الخير بعده على النبي ﷺ وأصحابه، ثم العرب كافة، حتى عمّ الأرض شرقا وغربا، فكان الاستخلاف الذي وعد الله به المؤمنين، وملأ الله به الأرض رحمة وعدلا، وهدى وفضلا، كما قال تعالى: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: ١٠٥-١٠٧]
🔹 كما تحقق بهذا الفتح الحكم الإلهي، والقضاء الرباني، بالفصل بين النبي ﷺ وخصومه وأعدائه، على أكمل وجه، وأتم حال؛ فتمت كلمة الله صدقا وعدلا، وظهر الحق، وزهق الباطل، وأقام الله به الملة الحنيفية، وأبان به الحجة، وأتم به النعمة، وأكمل به الدين. وكما أن وعد الله قد تحقق للمؤمنين في هذه الحياة الدنيا بالنصر والعز والاستخلاف، وتحقق فيها كذلك وعيده سبحانه لعدوهم بهزيمته وذله وخزيه وذهاب دولته؛ فكذلك ستكون حال الفريقين في الآخرة، لا مبدل لكلمات الله، وكان وقوع ذلك للفريقين، والحكم بينهم في الدنيا، مقدمة للحكم بينهم والفصل في خصومتهم يوم القيامة، على النحو الذي رآه كل فريق واقعا يوم الفتح، من فرح المؤمنين بوعد الله ونصره واستخلافه لهم في الأرض، وحزن الكافرين وخزيهم، وحسرتهم بذهاب جاههم وسلطانهم، وفقد أموالهم وبلدانهم، واستلاب الملك منهم، وأخذ أوطانهم.
🔹 فكان فتحا مبينا للنبي ﷺ ومن معه بكل معاني الفتح وصوره، فتح القلوب والعقول أمام دعوته، وفتح المدن والحصون أمام دولته، وفتح خزائن الله ورحمته ونعمته على المؤمنين جميعا: غنى للفقراء، وقوة للضعفاء، وبركة للأغنياء، وهدى للأتقياء، ونورا للعلماء، حتى رأوا الجنة والحياة الطيبة في الدنيا قبل الآخرة، وفي العاجلة قبل الآجلة، وما زال المسلمون حتى هذا اليوم يتفيئون ظلال هذا الفتح العظيم، ويعيشون نعمته، ويجدون بركته، وينعمون في كنفه، مع ما عليه أكثرهم من إعراض عنه، ونسيان له!
اقرأ النظرات كاملة بالضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق