حكايتي مع "فوق السلطة" والجزيرة
"فوق السلطة" برنامج ساخر لا يسخر من أحد، وهجائي بضوابط
أخلاقية عالية، يخاطب العرب بلغتهم الفصحى الجامعة (الجزيرة)
نزيه الأحدب
عندما قررت التقدم بفكرة برنامجي إلى قناة الجزيرة، أدركت قبل إنتاج الحلقة رقم صفر ورفعها إلى القناة في الدوحة لنيل الموافقة على أساسها، أن مهمتي ستكون صعبة، فالمنصة هي "الجزيرة" التي رسمت لنفسها خطا جادا رصينا يعتمد على الصوت الأصلي والصورة الخام ولغة الوقائع والأرقام، وتنوع الآراء مهما تعددت واختلفت، لتكون ساعات بثها أشبه بأوراق كتاب تاريخ رقمي ومرئي ومسموع تكتب صفحاته كل يوم بعدسات وأقلام وأصوات مئات الإعلاميين حول العالم؛ لذلك اعتبرت أن عليّ أن أجد خلطة دقيقة لبرنامج ساخر لا يسخر من أحد، وهجائي بضوابط أخلاقية عالية، يخاطب العرب بلغتهم الفصحى الجامعة، فيه نفحة افتراضية، لكن بمستندات واقعية، ينتقد دون قيد أو كيد، ويتصيد الذباب لفصله عن العسل. يكشف التجاوزات في الخطابين السياسي الإعلامي؛ لكنه لا يشمت بالأغبياء وما أكثرهم في عالم السلطة حول العالم.
تمت الموافقة على الحلقة رقم صفر وقد تنوَّع التقييم حولها داخل الجزيرة بين من وجدها مناسبة للخط التحريري للقناة، وهو الفريق المقرِّر، ومن وجدها تغرد خارج سرب الجدية التي يجب الحفاظ عليها وعدم خدشها، وفريق ثالث -وإن كان محدودا جدا- رأى أن البرنامج يجب أن يكون مضحكا قبل كل شيء حتى لو اعتمد لغة مثيرة وإيحاءات ترفضها الجزيرة والأسرة العربية الملتزمة.
عندما قدمت مشروع فكرة البرنامج سميته "السلطة الخامسة" ليكون رقيبا على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، والسلطة الرابعة "الرمزية" المتمثلة بالإعلام التقليدي، لكننا فوجئنا بإطلاق التلفزيون الألماني دويتشه فيله (Deutsche Welle) بنسخته العربية برنامجا بنفس الاسم (توارد أفكار) سبقنا في موعد البث، فاقترحت اسم "فوق السلطة" لتتم الموافقة عليه وقالت لي الإدارة في حينه إنني لو خيرتها في الأصل بين السلطة الخامسة وفوق السلطة لاختارت الثاني.
كان حرصي في البدايات أن أنتقد الثغرات في سياسات قطر وحليفتها تركيا قبل غيرهما، فلا يعقل أن أصاب ببعد النظر بحيث لا أرى الأخطاء القريبة منا التي ترتكبها السلطات في الدوحة أو في أنقرة. ومن المحاولات التي أجريتها قبل نحو 5 سنوات كان انتقاد انتشار صور أمير قطر بكثرة في شوارع الدوحة مع بداية الحصار على طريقة شوارع دمشق وبغداد وغيرهما من العواصم العربية التي تعتمد تنميط صورة الزعيم الملهم في البلاد. عُرضت الحلقة وانتظرت اتصالا معاتبا على الأقل، لكنني ما زلت أنتظر هذا الاتصال ولم يتم حتى الآن، فكرّت سبحة الانتقادات في عشرات الحلقات المتلاحقة لإخفاق انتظار تركيا وقطر في دمشق والقاهرة وطرابلس الغرب وتونس بعد انهيار ثورات الربيع العربي أو تصدعها. كما انتقدنا التطبيع القطري مع "إسرائيل" في عدة أوجه ولا سيما الرياضية منها. استغربنا في إحدى الحلقات تسمية أحد تقاطعات شوارع الدوحة بتاريخ الحصار (خمسة ستة)، فهذه ذكرى يجب ألا تُخلّد برأينا. لطالما استغربنا ازدواجية قطر في قوة علاقاتها مع واشنطن وطهران بنفس الوقت. كما استغربنا وجود علاقة قطرية مع غزة عن طريق سلطات إسرائيل تقول الدوحة إن ذلك لصالح الفلسطينيين وتوافقها على ذلك حركة حماس التي تتمتع في نفس الوقت بصلات قوية مع الجانب القطري.
انتقدنا رفض الدوحة تطبيع العلاقات مع دمشق، في الوقت الذي تقيم فيه أطيب العلاقات مع طهران راعية دمشق. تساءلنا في إحدى الحلقات (وجميعها موثقة ضمن باقة برنامج فوق السلطة على قناة الجزيرة في موقع يوتيوب) هل قطر بريئة من كل الاتهامات التي توجهها إليها الدول الشقيقة المجاورة؟
أما "الإخوان المسلمون" الذين تتهم الدوحة بمسايرتهم؛ فانتقدنا ما وصفناه بـ"شيزوفرانيا بعض الإسلاميين" الذين يؤيدون حكم الرئيس في تركيا برغم دستورها العلماني، ويرفضون مجرد الحديث عن تطبيق العلمانية في بلادهم. كذلك يغضون الطرف عن علاقة أردوغان الجيدة بنظيريه الروسي بوتين والإيراني روحاني؛ لكنهم يرفضون أي علاقة مع الأسد الذي لا حول له بدون موسكو وطهران. سألنا مرة عن حجم الفاتورة التي على قطر أن تدفعها لشهية دونالد ترامب المفتوحة على الخليج. كذلك تساءلنا عن مدى تطابق قانون مجلس الشورى القطري (البرلمان) مع المعايير الدولية التي تحرص عليها الدوحة في مجالات دون أخرى. وقلت في إحدى الحلقات "الرياضة القطرية تطبع مع الفرق الإسرائيلية"، و"شباب قطر ضد التطبيع" ينتقدون الإجراء ثم نأتي نحن يوم الجمعة لنتوج حملة الانتقاد، ثم ننتظر جميعنا التطبيع الذي يليه وهكذا دواليك. وانتقدت في حلقة أخرى استضافة شبكة الجزيرة لمحللين ومسؤولين من الجانب الإسرائيلي، كذلك ارتفاع اهتمامها بضحايا القصف على اليمن بعد المقاطعة والحصار. وقلت ليس كل ما في الجزيرة مثالي لكن أوكسيجينها هو الأعلى نقاوة بحيث يمكنني أن أتنفس فيها بسهولة، وما دمت أتنفس فأنا حي، وما دمت حياً فأنا أتكلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق