«إني لَأحبُّك يا معاذ»
د. أنس الرهوان
هكذا صارَحَ النبيُّ ﷺ لمعاذٍ رضي الله عنه بمكنون قلبِه ونبيلِ مشاعره، عبارةٌ واضحةٌ ليس فيها تزويقٌ ولا كناية، ونمطٌ بيِّنٌ مِن أنماطٍ عديدةٍ كانت نثارًا للحبِّ مِن ذلك القلب الزاكي والوعاءِ الصافي، الذي انتُزِعَ منه حظُّ الشيطانِ في بكارتِه وإبان طفولتِه، فنشأَ طاهرًا نقيًّا من أكدارِ النفوسِ وباطلِ الأمانيِّ والأهواء، مهيَّأً لقَبول كرامةِ الحقِّ تبارك وتعالى، وتحمُّلِ أثقال الوحيِ وتبليغِه، مُفعَمًا بأصدَق المشاعرِ الإنسانيَّةِ وأنبلِها، وأبعدِها عن الزيف والتصنُّعِ.
وكذلك كان الحبيب ﷺ أصدقَ الناسِ لهجةً وأكرمَهم فِعالًا، وأحسنَهم إبانةً عما في نفسه ولِمْ لا؟ أوليْسَ اللسانُ إنما يغترف من القلب، وعملُ الجوارحِ فيْضٌ لِما هو مُضمَرٌ في النفس، فلا عجبَ إذنْ!.
~~~
وما زال الناسُ -صحابةً فمَنْ دونَهم- يحتَفُون بتلك اللحظات البرَّاقةِ في سماءِ الدهر، التي يستعلن فيها سيِّدُ المحبين ﷺ لأحدٍ من الناس بمحبَّته إياه، ويتداولون أخبارها بقلوبٍ ملؤها الغبطةُ لأولئك السادة الكرام الذين حظُوا بتلك المحبَّة الفذةِ، واختُصُّوا بتلك المكرُمةِ العالية.
جلسَ عمرو بن العاصي رضي الله عنه إلى النبي ﷺ يومًا محتمِلًا سؤالًا انبعَثَ في نفسِه مِن أثرِ حفاوةٍ وجدَها عمرٌو من رسول الله ﷺ.. مَن أحبُّ الناسِ إليك؟، كان عمرٌو يمنِّي نفسَه أن يكون صاحبَ تلك المنزلة الكريمة، جاءه الجوابُ مفاجئًا: عائشة.. أوجسَ عمرٌو في نفسه أنَّ هذا الجوابَ سيمدُّ المسافةَ بينَه وبينَ ما يلتمسُه على لسان رسول الله ﷺ مدًّا مستطيلًا، فارتأى أن يحصِرَ نطاقَ الأجوبةِ في صنفٍ بعينِه، فعاد متسائلًا: فَمِن الرجال؟.. أجابَه النبي ﷺ: أبوها.
-ثمَّ مَن؟
=عُمَرُ.
تتابَعَتِ الأسماءُ على لسان رسول الله ﷺ رجلًا رجلًا، لهُم سبقُ المكانةِ وعريقُ الصحبة وقديمُ المودَّة، فسَكَتَ عمرٌو مخافةَ أن يجعلَه في آخرهم!
وانظر إلى قولِه في الجواب: أبوها، تبصِرْ بعينِ قلبِك درجةَ الصدِّيقة عائشة رضي الله عنها في فؤاد الحبيب ﷺ، إذ جعَلَها أوَّلَ أحبائهِ وأسرعَهم حضورًا على لسانه، ثم مزجَ محبَّتَه لأبيها الصديق الأكبر رضوان الله عليه بكونِه أباها، فعاد عليها بالمحبَّةٍ صراحةً وضِمْنًا!.
وفي أخريات حياته الشريفةِ أمَّرَ على جِلَّة أصحابه وكُبرائهم وأهل السبقِ والإسلام العتيقِ غلامًا شابًّا من رتبة أبنائهم، فوقع في نفوسهم مِن إمارتِه ما وقَع، فخلَّدَ رسولُ الله ﷺ في أسماعِهم كلمةً ما زال رنينُها يتردَّدُ في نفوسِ المحبين عذبًا مطْرِبًا: “وايْمُ اللهِ لقد كان خليقًا للإمارة، وإنْ كان مِن أحبِّ الناسِ إليَّ، وإن هذا لَمِن أحبِّ الناس إليَّ بعدَه”.. ذاكُم هو أسامةُ بن زيد، حِبُّ رسول الله، ابنُ حِبِّ رسول الله، ﷺ، ورضي الله عنهما.
~~~
وحديثُ زيدٍ يستدعي إلى الذهنِ صورةً أخرى كان النبي ﷺ يفْصِح بها عما يُكِنُّه لأحبابه من الودِّ والمحبة الرفيعة.. انقضَتْ معركة مؤتةَ وافترقَتْ جُموع المقاتلين وقد ارتقى زيدُ بن حارثة شهيدًا في عليِّين، فجاء النبي ﷺ إلى أهلِه، فجَهشَتْ ابنةُ زيدٍ في وجهه بالبكاء، فانتقَضَ في قلبِهِ جرحٌ من الحزن ولوعةِ الشجن، وجاوَبَها بدموعه الشريفة بكاءً حتى انتحبَ، فقيل له في ذلك، فقال: شوقُ الحبيبِ إلى حبيبه.
وحيثُ ذُكرَت مؤتةُ فلا بدَّ أن يُذكَر ذو الجناحين، جعفر الطيَّار، حبيبُ رسول الله ﷺ وابنُ عمه وأحدُ أصفيائه من أهل الأرض، السابق إلى الإسلامِ والهجرة.. لما عاد مهاجرةُ الحبشة منها، بعد سنينَ من الغربةِ، وقد شغفهم رسولُ الله ﷺ وأصحابُه حنينًا واشتياقًا، انطلقوا إلى المدينة، فأُخبِروا أن رسولَ الله ﷺ بخيبَرَ، فارتحلوا أشواقَهم وصبابتهم إليه حتى التقوا به هنالك، فلمَّا أبصر النبي ﷺ جعفرًا، نهضَ إليه عامِرَ القلبِ فرَحًا وابتهاجًا، وقبَّلَ بين عينيْه واحتضنَه، وقال كلمةً عجيبةً مدهشة: “ما أدري بأيِّهما أنا أسَرُّ، بفتْح خيبَرَ أم بقدوم جعفر”.
أترى كيف كان مرأى جعفرٍ عند رسول الله ﷺ حدثًا جليلًا، وكيف كانت محبُّته إياه مسرَّتُه برؤياه، رجلٌ من الناس كان حضورُه في حياة النبي ﷺ يعدِلُ فتحًا مِن أعظم فتوحِ الإسلام شأنًا وأهمِّها تأثيرًا في حياة المسلمين بعده، ترى أيَّ حظوةٍ كانت لهذا الرجل عند رسول الله ﷺ!
حين التحقَ جعفر برَكْب الشهداء البررة يوم مؤتة، انطلق رسولُ الله ﷺ إلى بيتِ أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وطلبَ منها أن تأتيَه بأبناء جعفر، فلما أتتْه بهم، جعل يتشَمَّمهُم، فذرفَت عيناه دموعًا ملؤها الحزنُ ولوعةُ فقدِ الحبيب.. رضي الله عن جعفر وأرضاه!.
~~~
“لأعطيَنَّ الرايةَ غدًا رجلًا يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويحبُّه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه”.. هذه الكلمة النبوية باتَ لها أصحابُ رسول الله ﷺ ليلةَ خيبر، يدوكون أيُّهم يُعطى الرايةَ، وينالُ تلك المكانة السامقة، ذاهبًا بشرَفِ الفتح المبين، ومحلِّقًا على أجنحةِ الحبِّ العظيم، الذي لا نظير له في قلوبِ المؤمنين، فحازَ عليٌّ الكرَّارُ رضوان الله عليه تلك الهبةَ الإلهية الشريفة، وكان حبُّ اللهِ ورسولِه له سابقًا على تلك الساعة ومستمرًّا بعدها، ولكن تلك الكلمةَ ظلَّتْ قلادةَ فخرٍ ترصِّعُ جِيدَه في حياته، وينتشرُ بريقُ جواهرِها فيأسرُ الأبصارَ بعد مماته ما بقيَ في الناس دينُهم.. وكيف لا وفيمَ العجبُ، وإنَّ عليًّا كان لرسول الله ﷺ خِلْصًا وله صفيًّا، وشاطَرَه صرعَيِ الرخاءِ والجهد، وكان حسنَ البلاءِ في كلِّ موطنِ رضًى لله ورسولِه، وهو سيِّدُ أهل البيت المكرمين بعدَ نبيِّهم، وأحدُ خيَرَة الله من خلائقه في غابرِ الدهرِ وحاضره وما يُستقبَل منه!
ومن ضروب التعبير النبوي عن المحبة، ضرْبٌ يقطِرُ أسًى وينطِفُ حزنًا ولوعةً، ويستدرُّ ما انطوتْ عليه المآقي، مثل ذلكم الموقفُ المريرُ الذي وقفَهُ ﷺ بعد انفضاضِ غبار الغزوةِ الخالدة، غزوةِ أحدٍ، لا يملِكُ من أمرِ مشاعرِه المسبَلةِ شيئًا، وهو ينظر إلى جثمانِ عمِّهِ الأسدِ الشهيدِ حمزة المغوار، صريعًا ممثَّلًا به في أرضِ المعركة، فانتحبَ بكاءً وقال: “ما وقفْتُ موقِفًا أغيَظَ عليَّ مِن هذا”.. ولم تفارقْهُ ذكرى حمزةَ حتى رأى حسنَ بلاءِ أبي سفيانَ بن الحارث، ابن عمِّه وأخيه من الرضاعة، يومَ حنينٍ الأغرَّ، حين رأى ثباتَه وصدقَه في استمساكه بدينِه وذبِّ الأعداء عن حياضِه، فقال قولةً كريمة: “أرجو أن يكون خلَفًا من حمزة”.. رضي الله عن حمزة، وعن أبي سفيان.
وحين التحقَتِ ابنتُه زينبُ الكبرى عليها رضوان الله بجوار ربِّها، وراحَ يدلِّيها في قبرها، تداعى إلى ذاكرته رجلٌ مِن صالحي أصحابِه وقدمائهم وأهلِ الخيرِ منهم، فقال لابنته: “الحقي بسلفِنا الصالحِ عثمانَ بن مظعون”.. عبارةٌ تجسِّدُ إحدى أزهى صورِ الحبِّ ومعاني الوفاءِ لأهل المودَّةِ وحسن العهد.
~~~
وهل يخفى حالُ محبتِه ﷺ لأم المؤمنين وسيدةِ نساء العالمين خديجة عليها سلامُ الله؟ المرأة الكاملةُ العظيمةُ، الأمُّ الرؤوم والزوجةُ الحانيةُ، والسابقة إلى الإسلام ووزيرة الصدقِ، وضياءُ بيتِها وبهاءُ قلبِ زوجها، التي ظلَّتْ أنوارُ محبتها مشرقةً في جوانحِه بعد وفاتِها دهرًا طويلًا، يُعرَف ذلك منه بالفعل قبل الكلام، وبالحفايةِ والإكرامِ جنبًا إلى جنبٍ مع الإخبار والتبيان.. لم يدَعْ رسولُ الله ﷺ فرصةً تُنتهَز لإظهار حبِّه لهذه المرأة المنقطعةِ النظيرِ إلا استمسك بها، وإن كلمتَهُ الشهيرة: “إني رُزِقتُ حبَّها”، لَمِن معاقد البيانِ الذي لا أرفعَ منهُ في عالمِ المحبِّينَ مهما كان مبلغُهم من التعبير عن دواخلِ نفوسهم.
والبنتُ سرُّ أمِّها وريحانةُ أبيها.. وما أحدٌ أحقَّ بهذه الكلمة من أمِّ أبيها وبضعتُه الشريفة الزهراءُ سيدةُ النساءِ فاطمة عليها السلام، التي كان يراها وهي قادمةٌ إليه، فيلتزمُها ويقبِّلُ بين عينيْها ويُقعِدها إلى جنبه، وكذلك تفعلُ إذا رأته، ويحبُّها كما لا يحبُّ أحدًا من خلْقِ الله، حتى كان أصحابُه يدركون ذلك الحبَّ منه ولو لم يصارح به، كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يذكُرُ أن أسامةَ بن زيدٍ أحبُّ الناس إلى النبي ﷺ، ثم يُتْبِع ذلك بكلمة لطيفة.. “حاشا فاطمة”!
~~~
ولقد كان بعض أصحاب رسول الله ﷺ وأهلِه مِن بعدِه كأنما يستشِفُّون طويِّتَه ويتبصَّرونَ سريرتَه فيدركون بعيْنَيْ بصيرتِهم مَن سمَقَتْ منزلتُه عنده وإن لم يُنبئْهم عن ذلك بشيء.. إنَّ عائشةَ رضي الله عنها لمَّا سئلَت عن أحب الناس إلى رسول الله ﷺ، ذكرَتْ أبا بكر فعُمَرَ فأبا عبيدةَ رضوان الله عليهم أجمعين، ثم لم تزِدْ.
وشهِدَ عمرو بن العاصِ على رجلَيْنِ أن رسول الله ﷺ ماتَ وهو يحبُّهما: ابن سميَّة، وابنُ مسعود.. فأما ابنُ سمية فهو عمارُ بن ياسر رضي الله عنهما، الشهيد ابن الشهيد، عظيم القدْر في الإسلام وبين أهله، وأما ابن مسعودٍ فهو الذي علمَ الموفورون من أصحابِ محمد ﷺ أنَّه مِن أقربهم إلى الله وسيلةً، وحسبُ عبدِ الله ذلك منقبَةً وفخارًا، رضي الله عنه!.
وربما يجْمُل في سياقةِ هذا الحديث أن يُذكَر بعضُ أحبابِ رسول الله ﷺ ممَّنْ لم يُصاغوا صيغةَ البشَرِ ولكنْ نُفِثَتْ في قلوبهم من المحبة، وأُلبِسوا مِن مودَّة النبي الأكرمِ حُلَّةً يزدهون بها ويَتيهون فخرًا على ألوفٍ مؤلفةً من بني آدم ممَّنْ ضلَّ عن طريق تلك المحبةِ العظيمة.. “هذه طيْبة”.. طيْبة المدينةُ المنوَّرة المعظمة، التي استأثرَتْ من بين المدائن بسكنى الحبيب ﷺ بين جنبيْها، وغدَتْ من سيداتِ البقاعِ وخيراتِها وأحبِّها إلى ساكنِها ﷺ، ثم فازت بشرف إيواءِ جسدهِ الكريم حتى يقومَ الناسُ لربِّ العالمين.. حينما أذكر قصة رجوعه من غزوة تبوك، وحثِّهِ السيرَ لمَّا تدانتْ له المدينة الزهراء، وقولُه في معرِضِ بيان محبته لها: هذه طيْبةُ، يأخذُني العجبُ كلَّ مأخذ.
“وهذا أُحُد، جبلٌ يحبنا ونحبُّه”، حبٌّ نبويٌّ صادقٌ تستمدُّ منه تلك الصخورُ الجاثمة على ظهر الأرضِ دهورًا متطاولةً، شعورًا من الحبِّ ينسابُ فيها فتحيا به وتحبُّ ويسمو بها الحبُّ، فتفيضُ منه على أكرمِ الناس قدرًا وأسناهم موضعًا، فتبادلهُ حبًّا بحبٍّ، ويكون ذلك الأمرُ من الجبل الشامخِ في علوِّه، الراسخ في محبتِه سببًا لإقبال القلوبِ عليه، واشتياقِ النفوسِ إليه، وامتلائها بمشاعر الحبِّ وصادقِ المودةِ تجاهه، فأيُّ تكْرِمةٍ تلك أيْ أُحُد! طوبى لكَ ثم طوبى!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق