حركة المقاومة الإسلامية المصرية عبر قرن
م.محمد إلهامي
يلخص شادي حميد، أحد أبرز الوجوه الغربية في مجال بحث الحركات الإسلامية، الأزمة القائمة في العالم الإسلامي بقوله: “المشروع الأساسي للحركات الإسلامية السائدة، إن أمكن تلخيصه في جملة واحدة، هو السعي للتوفيق بين الشريعة الإسلامية والدولة القومية الحديثة.
مهما تعددت الطرق، وفي أغلب الأحيان حصدت “الدولة” النتائج الأفضل في تلك العلاقة. ذلك أن نمط بناء الدولة الحديثة والبيئة الدولية المتمركزة عليه والداعمة له، لهما أثر علماني متأصل في المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وهو ما يضغط على الحركات الإسلامية لتحد من طموحاتها الدينية الدافعة إلى حد لم يكن ليخطر بالبال فيما قبل الدولة الحديثة، مما يقود إلى درجة خطيرة من التوتر بين المجتمعات المسلمة التي لا تزال إلى حد كبير متدينة ومحافظة”( 1) .
كانت أول حركة مقاومة واجهت هذا الوضع الضاغط العنيف هي حركة مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني والتي انتهت عمليا مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، ثم جاءت حركة الإخوان المسلمين فعملت على تلك المقاومة حتى انتهت تماما منتصف الستينات ومن بعدها تحولت إلى جماعة إصلاحية لا مُقاوِمة، ثم ظهرت محاولات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد منذ نهاية السبعينات حتى انتهائها بمنتصف التسعينات.
بين كل تلك الحركات خيط ناظم واضح ظاهر، هو من أثر الواقع الضاغط نفسه الذي فرضه وجود مؤسسات سلطوية متحكمة في البشر والموارد تمارس تعبيد الناس للسلطة المحتلة والمستبدة، ذلك الخيط هو أن جميع تلك الحركات تؤول فكرتها الإصلاحية إلى حل واحد: حركة مقاومة تقود انقلابا عسكريا مدعوما بالجماهير العريضة التي عملت على تجهيزها حركة دعوية مدنية!
1. من المشهور ما قام به مصطفى كامل من المجهود المدني والسياسي في الخطابة والصحافة والسياسة ونشر القضية، وأقل منه شهرة عمله الواسع في إنشاء النقابات وتفعيل دور المدارس والتغلغل إلى الاتحادات العمالية وإنشاء المشاريع الاقتصادية، أما المغمور تماما فهو نشاطه السري العسكري في إنشاء خلايا تقاوم الاحتلال وتمارس الكفاح المسلح والتي وصلت إلى اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي (جد بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة)، وهو الاغتيال الذي نبه الاحتلال الإنجليزي وكان من آثاره إنشاء جهاز الأمن السياسي (تحول المصطلح بعد ذلك إلى البوليس السياسي، أمن الدولة، الأمن الوطني)، والذي اكتشف وجود نحو ثمانين تنظيما سريا في مصر( 2) .
لقد كان الحزب الوطني أول حركة مقاومة تنتبه إلى أن الوضع قد تغير، ولم يعد مجرد المقاومة العسكرية يجدي، وإنما لا بد من مقاومة نمط الدولة المفروض بمؤسساتها، فمن ثم لا بد من وجود أجهزة وعي وتوجيه وروابط اقتصادية ونقابية، فضلا عن التنظيمات السرية. ويبدو واضحا أن الخطة النهائية ستفضي إلى مقاومة مسلحة مدعومة بجماهير مدنية فضلا عن الدعم السياسي من الخليفة العثماني (عبد الحميد الثاني) والذي كانت علاقته ممتازة بمصطفى كامل.
من المؤسف أن المجهود الكبير ضاع بضربة أمنية من بعد عام 1910، عملت تلك الضربة الأمنية على إزالة القيادات (بالسجن أو النفي) وتفكيك خلايا المقاومة، مما جعل الطاقة الثورية تتشتت في واحدة من اللحظات الذهبية التي يندر تكرارها. وسنرى أن أسلوب “الضربة الأمنية” هو الأسلوب الذي نجح منذ تلك اللحظة وحتى وقتنا هذا في إنهاء أي حركة مقاومة.
2. أما الإخوان المسلمون بزعامة الشهيد حسن البنا فقد انبعثوا في ثلاثينات القرن العشرين، وما إن جاءت الأربعينيات حتى كانت الجماعة قد انقسمت واقعياً إلى كيان دعوي علني جماهيري طبقا لقانون الاحتلال، وكيان آخر سري أمني وعسكري هو “النظام الخاص”، وبينما يعمل الكيان العلني الدعوي على تجهيز الجماهير المدنية، يعمل النظام الخاص على جمع المعلومات والتدريب العسكري.
من الطبيعي أن يحيط بعض الغموض بمشروع حسن البنا التغييري، فمرحلة “التنفيذ” لم يُفصح عنها، وهو أمر مفهوم، لكن مجمل ما نراه من هذا التركيب التنظيمي يفيد أن البنا كان يسعى إلى انقلاب عسكري عبر النظام الخاص تدعمه الجماهير المدنية المؤمنة بدعوة الإخوان المسلمين، خصوصا وأن البنا لم يكن يرى أن الثورات طريق صحيح للتغيير كما صرح بهذا، وكان يرى أنها تسيل كثيرا من الدماء دون نتائج مكافئة بالضرورة.
لكن المشكلة التي واجهت البنا كانت إنشاء إسرائيل، لقد دفعته تلك الضرورة إلى الكشف عن قوته، فأخرج المتطوعين إلى حرب فلسطين، ثم كُشف شأن التنظيم عبر قضية السيارة الجيب، وقبلها كُشف دعمه لثورة اليمن وأنه ضالع فيها، فصار الإخوان مستهدفين إقليميا (من النظم الملكية التي تخشى الثورات) ودوليا (من القوى التي تؤسس وتحمي إسرائيل)، وكانت الضربة الأمنية الكبيرة باغتيال البنا وتعقب تنظيمه، وقد نجحت تلك الضربة في إنهاء النظام الخاص على الحقيقة، وعاشت الجماعة فترة من الزمن في فوضى وتضارب بلا مرشد ولا قيادة، ثم تولى أمرها حسن الهضيبي، وجرى ما هو معروف بينه وبين النظام الخاص لينتهي الحال بضربة أمنية أشد وأقسى على يد عبد الناصر الذي مثَّل أقوى اختراق لصفوف الجماعة وسيطر على أعضاء تنظيم الجيش. ولما حاول شباب الإخوان ممن لم يدركوا أزمة 1954 تكرار المحاولة وقعت بعض الاحداث التي أدت لانكشاف المحاولة أمنيا فجاءت ضربة أقوى في 1965، ومن ساعتها لم يفكر الإخوان في الصدام مع النظام في مصر.
3. عند نهاية السبعينيات من القرن العشرين، جرت محاولات انقلابية أشبه بالمتسرعة والطائشة كحادث الفنية العسكرية، لكن تنظيمي “الجماعة الإسلامية” و”جماعة الجهاد” المتكونان في تلك الفترة اعتنقوا نفس الفكرة المضطردة: العصبة المسلحة التي تُنفذ انقلابا عسكريا مدعوما بجماهير قد تجهزت وتأهلت من خلال الخطاب والحركة الدعوية.. فقد عمل التنظيمان على نفس تلك الخطة، وهو أمر سمعته من شهود عيان تلك المرحلة، إلا أن الجماعة الإسلامية كانت أقوى في باب العمل الدعوي العلني، بينما عمل تنظيم الجهاد بشكل أكبر في اختراق الجيش لتكوين العصبة المسلحة التي ستنفذ الانقلاب العسكري.
ومثلما كانت حرب 1948 دخولاً مفاجئاً على خطة البنا أربكت حساباته واضطرته للتدخل السريع وكشف قوته، كانت اعتقالات السادات 1981 دخولا مفاجئا على خط “الجماعة الإسلامية”، لقد ظن الجميع أن اعتقالات السادات ستكرر تجربة عبد الناصر حيث الإعدامات بالجملة والسجن لمدة ربع القرن، فتسارعت وتيرة اغتيال السادات ومحاولة السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومديريات الأمن، وهو ما لم ينجح منه إلا مسألة الاغتيال وحدها، لتدخل تلك الحالة في صراع مع الدولة قبل أن تتجهز له لا مدنيا ولا عسكريا.
وبضربة أمنية أمكن مطاردة عناصر الجماعة الإسلامية، ولم يكن أمرا صعبا لأنها في المجمل جماعة علنية دعوية، ثم بخطأ أمني أمكن اكتشاف تنظيم الجهاد وتتبع أفراده وإجهاض خططه بداية التسعينات!
ومن تلك الفترة لم تظهر حركة مقاومة في مصر، إلا البذور والبدايات الصغيرة التي ظهرت بعد الانقلاب العسكري (2013)، وهي تجربة لم تكد تبدأ بعد!
المشكلة الواضحة في كل هذا المسار أن أيا من تلك الحركات لم يمتلك جهازا أمنياً قوياً يجمع المعلومات ويحللها ليعرف ويفهم تركيبة النظام ومفاصله وشخصياته المؤثرة، حتى “النظام الخاص” للإخوان المسلمين كان خليطا من الجهاز الأمني والجهاز العسكري، وهو الخلط الذي لا يصح بحال، لأن التفكير الأمني مُناقض للتفكير العسكري في العديد من النقاط والمستويات. وغاية ما كان لدى تلك الحركات ما يشبه جهاز الاستطلاع الذي يحصل على معلومات بدائية سريعة لتنفيذ عملية صغير. ولعل تلك النقطة هي أكثر النقاط التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم في مرحلتنا المعاصرة.
كانت كونداليزا رايس المتخصصة في الإدارة واحدة من المسؤولين عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة لتُناسب متطلبات الوضع الجديد بعد اختفاء العدو القوي وتغير طبيعة العالم، فضلا عن التغير الهائل الذي حصل في أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية (الأوروبية والأمريكية) بعد نهاية الحرب الباردة لتواجه العدو الجديد كما حددوه (الإرهاب، الجريمة المنظمة)، وقد استدعى هذا التغير تغيرا هائلا في الوسائل والوظائف والمهام، وتخلت فيه الأجهزة عن جيش من الجواسيس لتجند آخرين، بل وتخلت عن قسم عظيم من التجسس البشري لحساب استخدام التقنيات الحديثة(3 ) وما استتبع كل هذا من تغيير قوانين ودمج أجهزة وأقسام وإنشاء غيرها.
كادت المعركة في العالم الآن أن تكون معركة أمنية، وتقنية، ثم بعدها بفارق واضح: معركة عسكرية .
كانت أول حركة مقاومة واجهت هذا الوضع الضاغط العنيف هي حركة مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني والتي انتهت عمليا مطلع العقد الثاني من القرن الماضي، ثم جاءت حركة الإخوان المسلمين فعملت على تلك المقاومة حتى انتهت تماما منتصف الستينات ومن بعدها تحولت إلى جماعة إصلاحية لا مُقاوِمة، ثم ظهرت محاولات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد منذ نهاية السبعينات حتى انتهائها بمنتصف التسعينات.
بين كل تلك الحركات خيط ناظم واضح ظاهر، هو من أثر الواقع الضاغط نفسه الذي فرضه وجود مؤسسات سلطوية متحكمة في البشر والموارد تمارس تعبيد الناس للسلطة المحتلة والمستبدة، ذلك الخيط هو أن جميع تلك الحركات تؤول فكرتها الإصلاحية إلى حل واحد: حركة مقاومة تقود انقلابا عسكريا مدعوما بالجماهير العريضة التي عملت على تجهيزها حركة دعوية مدنية!
1. من المشهور ما قام به مصطفى كامل من المجهود المدني والسياسي في الخطابة والصحافة والسياسة ونشر القضية، وأقل منه شهرة عمله الواسع في إنشاء النقابات وتفعيل دور المدارس والتغلغل إلى الاتحادات العمالية وإنشاء المشاريع الاقتصادية، أما المغمور تماما فهو نشاطه السري العسكري في إنشاء خلايا تقاوم الاحتلال وتمارس الكفاح المسلح والتي وصلت إلى اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي (جد بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة)، وهو الاغتيال الذي نبه الاحتلال الإنجليزي وكان من آثاره إنشاء جهاز الأمن السياسي (تحول المصطلح بعد ذلك إلى البوليس السياسي، أمن الدولة، الأمن الوطني)، والذي اكتشف وجود نحو ثمانين تنظيما سريا في مصر( 2) .
لقد كان الحزب الوطني أول حركة مقاومة تنتبه إلى أن الوضع قد تغير، ولم يعد مجرد المقاومة العسكرية يجدي، وإنما لا بد من مقاومة نمط الدولة المفروض بمؤسساتها، فمن ثم لا بد من وجود أجهزة وعي وتوجيه وروابط اقتصادية ونقابية، فضلا عن التنظيمات السرية. ويبدو واضحا أن الخطة النهائية ستفضي إلى مقاومة مسلحة مدعومة بجماهير مدنية فضلا عن الدعم السياسي من الخليفة العثماني (عبد الحميد الثاني) والذي كانت علاقته ممتازة بمصطفى كامل.
من المؤسف أن المجهود الكبير ضاع بضربة أمنية من بعد عام 1910، عملت تلك الضربة الأمنية على إزالة القيادات (بالسجن أو النفي) وتفكيك خلايا المقاومة، مما جعل الطاقة الثورية تتشتت في واحدة من اللحظات الذهبية التي يندر تكرارها. وسنرى أن أسلوب “الضربة الأمنية” هو الأسلوب الذي نجح منذ تلك اللحظة وحتى وقتنا هذا في إنهاء أي حركة مقاومة.
2. أما الإخوان المسلمون بزعامة الشهيد حسن البنا فقد انبعثوا في ثلاثينات القرن العشرين، وما إن جاءت الأربعينيات حتى كانت الجماعة قد انقسمت واقعياً إلى كيان دعوي علني جماهيري طبقا لقانون الاحتلال، وكيان آخر سري أمني وعسكري هو “النظام الخاص”، وبينما يعمل الكيان العلني الدعوي على تجهيز الجماهير المدنية، يعمل النظام الخاص على جمع المعلومات والتدريب العسكري.
من الطبيعي أن يحيط بعض الغموض بمشروع حسن البنا التغييري، فمرحلة “التنفيذ” لم يُفصح عنها، وهو أمر مفهوم، لكن مجمل ما نراه من هذا التركيب التنظيمي يفيد أن البنا كان يسعى إلى انقلاب عسكري عبر النظام الخاص تدعمه الجماهير المدنية المؤمنة بدعوة الإخوان المسلمين، خصوصا وأن البنا لم يكن يرى أن الثورات طريق صحيح للتغيير كما صرح بهذا، وكان يرى أنها تسيل كثيرا من الدماء دون نتائج مكافئة بالضرورة.
لكن المشكلة التي واجهت البنا كانت إنشاء إسرائيل، لقد دفعته تلك الضرورة إلى الكشف عن قوته، فأخرج المتطوعين إلى حرب فلسطين، ثم كُشف شأن التنظيم عبر قضية السيارة الجيب، وقبلها كُشف دعمه لثورة اليمن وأنه ضالع فيها، فصار الإخوان مستهدفين إقليميا (من النظم الملكية التي تخشى الثورات) ودوليا (من القوى التي تؤسس وتحمي إسرائيل)، وكانت الضربة الأمنية الكبيرة باغتيال البنا وتعقب تنظيمه، وقد نجحت تلك الضربة في إنهاء النظام الخاص على الحقيقة، وعاشت الجماعة فترة من الزمن في فوضى وتضارب بلا مرشد ولا قيادة، ثم تولى أمرها حسن الهضيبي، وجرى ما هو معروف بينه وبين النظام الخاص لينتهي الحال بضربة أمنية أشد وأقسى على يد عبد الناصر الذي مثَّل أقوى اختراق لصفوف الجماعة وسيطر على أعضاء تنظيم الجيش. ولما حاول شباب الإخوان ممن لم يدركوا أزمة 1954 تكرار المحاولة وقعت بعض الاحداث التي أدت لانكشاف المحاولة أمنيا فجاءت ضربة أقوى في 1965، ومن ساعتها لم يفكر الإخوان في الصدام مع النظام في مصر.
3. عند نهاية السبعينيات من القرن العشرين، جرت محاولات انقلابية أشبه بالمتسرعة والطائشة كحادث الفنية العسكرية، لكن تنظيمي “الجماعة الإسلامية” و”جماعة الجهاد” المتكونان في تلك الفترة اعتنقوا نفس الفكرة المضطردة: العصبة المسلحة التي تُنفذ انقلابا عسكريا مدعوما بجماهير قد تجهزت وتأهلت من خلال الخطاب والحركة الدعوية.. فقد عمل التنظيمان على نفس تلك الخطة، وهو أمر سمعته من شهود عيان تلك المرحلة، إلا أن الجماعة الإسلامية كانت أقوى في باب العمل الدعوي العلني، بينما عمل تنظيم الجهاد بشكل أكبر في اختراق الجيش لتكوين العصبة المسلحة التي ستنفذ الانقلاب العسكري.
ومثلما كانت حرب 1948 دخولاً مفاجئاً على خطة البنا أربكت حساباته واضطرته للتدخل السريع وكشف قوته، كانت اعتقالات السادات 1981 دخولا مفاجئا على خط “الجماعة الإسلامية”، لقد ظن الجميع أن اعتقالات السادات ستكرر تجربة عبد الناصر حيث الإعدامات بالجملة والسجن لمدة ربع القرن، فتسارعت وتيرة اغتيال السادات ومحاولة السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون ومديريات الأمن، وهو ما لم ينجح منه إلا مسألة الاغتيال وحدها، لتدخل تلك الحالة في صراع مع الدولة قبل أن تتجهز له لا مدنيا ولا عسكريا.
وبضربة أمنية أمكن مطاردة عناصر الجماعة الإسلامية، ولم يكن أمرا صعبا لأنها في المجمل جماعة علنية دعوية، ثم بخطأ أمني أمكن اكتشاف تنظيم الجهاد وتتبع أفراده وإجهاض خططه بداية التسعينات!
ومن تلك الفترة لم تظهر حركة مقاومة في مصر، إلا البذور والبدايات الصغيرة التي ظهرت بعد الانقلاب العسكري (2013)، وهي تجربة لم تكد تبدأ بعد!
المشكلة الواضحة في كل هذا المسار أن أيا من تلك الحركات لم يمتلك جهازا أمنياً قوياً يجمع المعلومات ويحللها ليعرف ويفهم تركيبة النظام ومفاصله وشخصياته المؤثرة، حتى “النظام الخاص” للإخوان المسلمين كان خليطا من الجهاز الأمني والجهاز العسكري، وهو الخلط الذي لا يصح بحال، لأن التفكير الأمني مُناقض للتفكير العسكري في العديد من النقاط والمستويات. وغاية ما كان لدى تلك الحركات ما يشبه جهاز الاستطلاع الذي يحصل على معلومات بدائية سريعة لتنفيذ عملية صغير. ولعل تلك النقطة هي أكثر النقاط التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم في مرحلتنا المعاصرة.
كانت كونداليزا رايس المتخصصة في الإدارة واحدة من المسؤولين عن إعادة هيكلة الأجهزة الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة لتُناسب متطلبات الوضع الجديد بعد اختفاء العدو القوي وتغير طبيعة العالم، فضلا عن التغير الهائل الذي حصل في أجهزة الأمن والاستخبارات الغربية (الأوروبية والأمريكية) بعد نهاية الحرب الباردة لتواجه العدو الجديد كما حددوه (الإرهاب، الجريمة المنظمة)، وقد استدعى هذا التغير تغيرا هائلا في الوسائل والوظائف والمهام، وتخلت فيه الأجهزة عن جيش من الجواسيس لتجند آخرين، بل وتخلت عن قسم عظيم من التجسس البشري لحساب استخدام التقنيات الحديثة(3 ) وما استتبع كل هذا من تغيير قوانين ودمج أجهزة وأقسام وإنشاء غيرها.
كادت المعركة في العالم الآن أن تكون معركة أمنية، وتقنية، ثم بعدها بفارق واضح: معركة عسكرية .
الهامش
(1 ) Shadi Hamid and Rashid Dar, Islamism, Salafism, and jihadism: A primer, (Brookings, July 15, 2016).
( 2) يراجع في الكفاح المسلح للحزب الوطني كتاب د. عصام ضياء الدين السيد “الحزب الوطني والنضال السري 1907 – 1915″، وقد صدر عام 1987 عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” ضمن سلسلة “تاريخ المصريين”.
(3 ) انظر مثلا كتاب “أسياد الجواسيس الجدد” لستيفن جراي.
(المصدر: المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق