خواطر حول نازلة الزلزال
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما أضعف الإنسان! كم هو وَاهِنٌ وهزيلٌ ومتهاوي الأركان! وُهِبَ من العلم ما غاص به في أعماق الذرة وما جاوز به حدود المجرة، وأُوتي من أسباب القوة الفتّاكة ما يستطيع به أن يدمر العمران البشريّ مرة بعد مرة، ومع ذلك فهو أَمامَ جميع الظواهر الكونية التي تحيط به عن قُرْبٍ وتلامسه عن كَثَبٍ عاجزٌ كلَّ العجز، تثور الزلازل والبراكين، وتهب الرياح والأعاصير، ويغشى الشمس والقمر ما يغشاهما من كسوف وخسوف، وينتاب البحار والمحيطات ما ينتابها من مدّ وجزر، وتهطل الأمطار حيث شاء الله لها، فتغدق على قوم وتمسك عن آخرين، وربما قذفت السماء بالنيازك ورمت بالشهب والصواعق، فلا يستطيع الإنسان لشيء من ذلك كُلِّهِ دفعًا، ولا يملك له تصريفا ولا تحويلا، فَفِيمَ – إِذَنْ – صَلَفُهُ وغروره؟!
أفلا يتَدَبَّرُ القرآن؟ ليعلم منه ما لم يكن يعلم، ليعلم عن قدرة الله وحكمته وعن ملكه وسلطانه وإحاطته؛ ما يورثه تواضعا وانخفاضا وخشوعا واستسلاما، هَلَّا تَدَبَّر أمثال هذه الآيات التي تنسجم مع تكوين النفس ومع ترتيب الكون انسجاما مصدره أنّ الذي خلق الإنسان والأكوان هو الذي أنزل القرآن وأبدع الفرقان: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (فاطر: 41) (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (الحج: 65) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72)) (القصص: 71-72) ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) (الملك: 16-17) (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)) (الإسراء: 68-69)، إنّها آياتٌ – لِمَنْ تأملَها – تورث القلب رهبة وإنابة، ولاسيما مع نزول البلاء.
إنّ هذه الزلازل التي تضرب الأرض في بعض نواحيها آية من آيات الله، آية تثبت قدرة الله وعجز الإنسان، وهي آية كذلك تُذَكِّرُ الناس بالآخرة، يوم أن تُزلزل الأرض زلزالها الكبير، وما هذه الزلازل التي يقيسُ قوتَها مقياسُ “رختر” بالنسبة لزلزال القيامة إلا كرعشةٍ في جلدةِ ثورٍ رابضٍ في مربطه، بالنسبة إلى الثور وهو في حالة الهيجان التي تصيبه إذا أفزعه هول من الأهوال: (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3)) (الزلزلة: 1-3)، يومها تطيش الجبال الراسية، ويطير الناس في جو السماء كالفراشات الهائمة، وتكون القارعة، وما أدراك ما القارعة.
إلا أنّنا كثيرا ما تفوتنا اللحظة فلا نعتبر؛ وما ذاك إلا لأنّنا – إلى جانب ما بلغته قلوبنا من القسوة – كثيرا ما ننشغل بتفسير الظاهرة على نحو يسعف فضول النفس وتطلعها إلى ما يريحها من عناء المسئولية، مسئولية العلم والعمل بمقتضى العلم، فترى البعض يسارعون إلى سوق الآيات في غير ما سيقت له، وسحب القوانين والنواميس على ما لا علاقة لها به من أحوال الكون وما فيه من خلائق، فتارة يحذرون وتارة يبشرون، وهم بين الترغيب والترهيب والبشارة والنذارة واقفون؛ على المنابر يعظون ولا يتعظون ويذكرون ولا يتذكرون، ويهرفون في كل خَبْطِهم هذا بما لا يعرفون، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
ينبغي أن نُفَرّقَ – ابتداء – بين الخوارق والكوارث، فأمّا الخوارق فهي آيات يَخْرِقُ الله بها النواميس الكونية لتكون معجزةً لنبيّ وكرامةً لوليّ، أو لتكون أخذا لأعدائه ونصرا لأوليائه، فانقلابُ العصى في يد موسى إلى حَيّة، وإمساكُ النارِ عن حرقِ إبراهيم، وإحياءُ الموتى بنداء عيسى – عليهم جميعا وعلى نبينا الصلاة والسلام – وكذلك أخذُ اللهِ لِعادٍ بالصّرْصر العاتية ولِثمودَ بالصيحة ولفرعون بالغرق؛ كل هذه آيات من قبيل الخوارق، التي يخرق الله بها الناموس الذي وضعه لهذا الكون، والله يفعل ما يشاء، (لا يُسأل عمّا يفعل وهم يسألون)، أمّا ما يجري في هذا الكون أو على هذه الأرض أو حتى في ذوات الخلق من أمور تقتضيها القوانين وتحتمها النواميس التي أودعها الله في الكون وخصّ الأرض منها بالكثير؛ فهذا أمر جِدُّ مختلف، كأن يقع زلزال لسبب من الأسباب الجيولوجية، أو يهب إعصار سببته تغيرات في المنخفضات الجوية أو في الأحوال المناخية، أو يصطدم بالأرض نيزك أو يسقط عليها شهاب، أو غير ذلك من الأمور التي لها تفسير علميّ، فهذه كلها كوارث تجري بقدر الله تعالى وفق سُنَنٍ إلهية متنوعة.
هذه الكوارث الكونية تجري بقدر الله تعالى؛ فتحقق أمرين تكون بهما ذات وجهين، الأول: تحقيق مراد الله في الكون على وفق القوانين التي أودعها فيه، الثاني: تحقيق مراد الله تعالى بابتلاء قوم واصطفاء آخرين، فهي لأهل الكفر والفسوق والعصيان عقوبة وابتلاء، وهي لأهل الإيمان والصلاح والتقوى اصطفاء واجتباء، وربما أشرت إلى شيء من هذا في مقال لي سابق بعنوان “وهدأ الإعصار” وخَطَّأْتُ يومها من عمّمَ الحكم وادعى بأنّ الكوارث عقوبة لا تنزل إلا على الظالمين، وربما استشهدت بالتسونامي الذي أصاب المسلمين في أندونسيا منذ سنين عددا، فينبغي الإمساك عن التعميم، والحذر من الخوض في آيات الله بغير علم، فإنّ من أخطر ما يخوض فيه الناس السنن الإلهية.
لذلك نقول: إنّ هذه الزلازلَ وغيرَها من الكوارث الطبيعية تمضي وفق ناموس إلهيّ يحكم الكون، فإن أصابت من خلق الله من أصابت؛ فليسوا سواء، فأمّا الذين آمنوا وتقوا فهي لهم اصطفاء واجتباء، وأمّا العتاة الظالمون فهي عقوبة عاجلة قد تخفف من العقوبة الآجلة، وهي للمجتمع الإنسانيّ كله عبرة وموعظة؛ ليعلم النّاس أنّ الله على كل شيء قدير، وأنّه هو الواحد القهار العليّ الغفار، فيتوبوا إليه ويسلموا له، ومن هنا جاءت الأحاديث التي تخص المؤمنين تبشرهم برتبة من رتب الشهادة إذا أصابهم بلاء شديد فماتوا به، وكان من الابتلاءات التي ينال بها المؤمن هذه المرتبة من يتردى عليه حائط، أي من يموت تحت الأنقاض أو بسبب الزلزال، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)، نسأل الله تبارك وتعالى لجميع المنكوبين في واقعة الزلزال هذه، من إخواننا الأتراك والسوريين غيرهم، أن يتغمدهم برحمته وأن يهبهم رتبة الشهادة في سبيله، وأن يفرغ الصبر في قلوب أهليهم وذويهم، وأن يرفع البلاء عن عباده المؤمنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق