الاثنين، 3 أبريل 2023

الثورة على الملوك الآلهة

الثورة على الملوك الآلهة

مهنا الحبيل

"...، ولكن مع دفاع الأمراء الصالحين عنها دائماً (حقوق الأمم)، وذلك كألوهية حافظة لدولهم، وكما يقول أفلاطون: سعادة المملكة الكاملة هي في إطاعة الرعايا أميرهم، وإطاعة الأمير القانون، وفي أن القانون قصد الخير للناس". مرسوم لويس الرابع عشر – فرنسا 1667.
هذا النص المنقول عن رسالة "أصل التفاوت" مهم للغاية لدراسة فلسفة جان جاك روسّو الثورية. وما قد يرد من عدم وضوح فيه (مرسوم لويس الرابع عشر) يفسّره تعليق روسّو عليه. وزبدة الأمر هنا أن ملوك أوروبا سعوا بالفعل إلى استنساخ حالة ألوهية لهم، وظهر بلفظه في هذا النص، وأن القانون الذي ذكره الملك هو في الأصل لم يُشرع إلا تحت إرادة هذا الملك (الإله) أو موافقته. وبالتالي، الطاعة هنا عمياء، على الأقل في اللغة البارزة للمرسوم، وفي مدلول غضب روسّو.
ورغم أن الطاعة ضرورية للانسجام والاستقرار، فإنها هنا لم تُبن على تعاقد تكافئي، بين ممثلي الشعب والسلطة، فضلاً عن إسباغها ثوب ألوهية على الحاكم، فيجب أن نقول هنا إن حالة التلبس بألوهية مزعومة، ضربت أيضاً حاضر العالم الإسلامي.
رغم قوة النص وتجربة أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل التوريث، وخصوصا في حكم الخلفاء الراشدين، من حيث سقف المعارضة، ومن حيث الآدمية المتواضعة التي أصرّ على عكسها الخلفاء من بعد النبي، وتحقيرهم ذاتهم أمام حقوق الشعوب، وسماعهم مواقفهم الناقدة، والتي كانت بارزة في سيرة أبي بكر الصديق، وفي حياة عمر بن الخطاب، فقد كان حاكماً يعيش يومه بين الناس، لا تبرز قوته إلا حين شعوره بالمظلمة لأحد، أو انحراف الأمراء، أو انتقاص النظام التشريعي للعدالة والروح الإيمانية التي كانت تغشاه. وهو ميزان ظهر بشدة في حكمه مع غير المسلمين، كما أن مقتل عثمان بن عفان بأيدي المعارضة المتطرّفة، رغم قدرته على الحصول على الحماية الشخصية، بعد أن اشتبكوا معه بالأيدي في المسجد، صورة من هذا التواضع غير المعهود، وكذلك موقف علي بن أبي طالب، حتى في توصيف المعارضة، وفي حلمه عليهم، رغم أن معارضة الخوارج كانت مسلّحة، ثم الخطة التي أعدّت لانتزاع قوة التوريث لحقه في الحكم، باسم قميص عثمان.

جرى تحوير لغة الحرية وأدب الخطاب من الاحترام إلى التقديس، في تاريخ المسلمين

لاحظ هنا تلك الروح مقارنة بهيلمان التقديس، في الأمويين وبني العباس والعثمانيين فيما بعد، وكيف تحوّل فقه السلاطين، ثم من جاء بعدهم، إلى تطوير تلك الطقوس وحقوقها، وكأنها أحكامٌ دينية أنزلها الله لهم، وقد أُسْبغ على قوانين السلاطين والحكام هالة من هذا التعظيم الذي انتزع حقا شرعيا للمواطنة في الإسلام، أكانت أممية أم قُطرية، رغم أن هذا الفقه المصنوع واجه معارضة شرسة، من أئمة الفقه والحديث المتقدّمين، ولكن لطبيعة أثر القمع تاريخياً تحجّمت تلك المواقف في تاريخ المسلمين. ولا نقصد من ذلك أن يمارس بالضرورة أولئك الحكّام ذلك المنهج السامي في المظهر وإنكار الذات، وخصوصا بعد تطوّر صور الحكم، غير أننا نشير إلى حجم المشابهة الخطير فيما عاشته أوروبا وتاريخ ملوك الشرق، فقد جرى تحوير لغة الحرية وأدب الخطاب من الاحترام إلى التقديس، في تاريخ المسلمين.
ويرى روسّو أن ذلك الفقه الإمبراطوري بيع لحياة الإنسان في أغلى ما يملك، وهو حريته، وهو أمر ينسحبُ على بقية الأمم، وقد تكون هناك مساحة احترام مبالغ فيها، تسمح بطرح رؤى الشعب، وتثبّت قانونا سياسيا يحمي مواطنتهم من تغوّل ذات الحاكم، غير أن هذه النزعة في التقديس نراها صورة متكرّرة، وصلت إلى الزمن الحديث في حكّام عرب وغيرهم.
ولذلك كان البديل عند روسّو الثورة، ولو كانت دموية، وهو يعترض بشدّة على تبرير الفيلسوف الألماني بوفندروف "بأن الإنسان يستطيع أن يتنازل عن جزء من حريته نفعاً للآخرين"، فيرفض روسّو هذه المقولة التي تحكم بالذلّ على الإنسان، وأن أقدس ما قدّمته الطبيعة، هو الحياة والحرية. ونقول إن هذه الهبة هي من الله الخالق الموجِد، وهو نفسه الذي حرّم الذل للآدمي، وصان قرار الإنسان في حياته، لكنه وضع محيطاً لصالحه وللأرض، تُنظّم بقاءه وتعمّر الأرض من حوله.

يسعى روسّو إلى ضمان حماية الشعب في عدم وجود سلطة عليا، ومنهج تغوّل مستمرّ من الحكّام

ولعل هذا الضابط هو المحور الرئيس، لعدم تحوّل الثوار إلى آلهة جدد، وهو ما تكرّر في ثورات شيوعية عديدة عاشها العالم، فأضحى الثوار على الملك الإله عبيداً أو هم ذاتهم صاروا آلهة على المستضعفين، باسم ثورتهم على الملوك! وهنا بالضبط ينعطف روسّو إلى التمهيد للعقد الاجتماعي، بحكم أنه يجمع الإرادات العامة، في إرادة قوية تشمل قوانينُها الحكم، وتنظّم مساحته، وتخلق للرأي العام الشعبي، جسماً ممثلاً له يضمن حريته، ويمنحه امتيازاتٍ تعوّضه عن كونه مشتغلاً في العمل المهني أو الحياتي الشاقّ للدولة، فهو هنا ممثل بقوانين وبكوادر يأتمنها على مستقبله السياسي، ويملك حقّ التدخل فيها عبر مفهوم الإرادة العامة.
كان هذا، بالطبع، هدف روسّو الذي انتقل عبره من "أصل التفاوت"، حتى "ميثاق الحاكمية"، وهو يشرح لنا ويربطنا بمقاصده، في البحث في تاريخ الإنسان والمجتمع وسيرتهما. والهدف هنا نبيل، وقواعد الوصول إلى خلاصته في ضبط التوازن بين السلطة والشعب نجاح تاريخي في التفكير، لكن قضية قياس هذا النجاح، وفقاً لموازين أخرى، ربما غابت عن روسّو، أو لم تكن ضمن قناعاته أصلاً، وهي دور المحور الأخلاقي في حياة الفرد، والمجتمع لتعزيز دولة العدالة المنشودة.
ويسعى روسّو إلى ضمان حماية الشعب في عدم وجود سلطة عليا، ومنهج تغوّل مستمرّ من الحكّام، يهوي بحقوق الشعب، كلما عنّ لهم العدول عن التزاماتهم، فمن باب أوْلى أن يمتلك الشعب قوة تشريع تسمح له بالعدول عن تسمية هذا الحاكم أو تلك السلطة المتطرّفة في ظلمها زعامة مطلقة عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق