الإفتاء الرّوسيّ والإفتاء الأوكرانيّ واستخدامُ الإسلام في الحربمفتي روسيا
محمد خير موسى
حربٌ لا ناقةَ لنا فيها ولا جمَل. هكذا عبّرَ الكثيرُ من المسلمين والعدّيد من علماء الشّريعة في أنحاء مختلفة من العالم، غيرَ أنّ المرجعيّات الإفتائيّة للمسلمين في كلّ من روسيا وأوكرانيا كان لها رأيٌ مختلف، فلم يقف الأمر عند وجود النّاقة والجمل، بل وصل إلى نزع العمامة والجبّة وارتداء الكاكي وتقدُّم صفوف المقاتلين.
فتاوى تجعلُ الإسلامَ يحاربُ نفسَه
تظهر في الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة بشكلٍ فجّ معضلة استخدام الدّين من السّياسيّ والعسكريّ، فما إن اندلعت الحرب حتّى انطلقت الفتاوى الشّرعيّة التي توجب القتال باسم الشّريعة مع هذا الطرف أو ذاك.
مجلسُ الإفتاء الرّوسيّ أعلن في بيان له أنّ “العمليّة الروسيّة الخاصّة التي ينفذها الجيش تستند إلى أحكام القرآن الكريم”.
وأكثر من ذلك، بلغ إلى حدّ تسويغ استخدام الأسلحة النوويّة والبيولوجيّة في هذه الفتوى؛ إذ جاء في البيان: “إنّ ظروف استخدام أسلحة الدّمار الشامل، الضّربة الوقائية، هي طريقة قانونيّة ومبرّرة أخلاقيًّا، وأكّد المفتون أنّها سياسة دفاعيّة”.
المفتي الأعلى لروسيا طلعت تاج الدين أعلن فتوى بوجوب “قتال النازيّين الجدد في أوكرانيا” متبنّيًا التّوصيف البوتينيّ للحرب، أمّا المفتي الشّيشاني صلاح مجيدوف فقد أصدر فتوى تؤكّد أنّ “الحرب في أوكرانيا جهادٌ في سبيل الله” وذلك تأييدًا لمنطق رئيس الشّيشان قديروف الذي زجّ بالآلاف من المقاتلين المسلمين في الحرب تحت راية بوتين، وأمّا مفتي إنغوشيا أحمد ساغوف فقد أصدر فتوى توجبُ على “على مواطني روسيا جميعًا الالتفاف حول قيادة بلادهم” وهو هنا يحشد بفتواه المسلمين في بلاده لمناصرة بوتين في الحرب على أوكرانيا.
وفي الضّفّة المقابلة من الحرب فإنّ مفتي أوكرانيا الشّيخ سعيد إسماعيلوف خلع العمامة والجبّة وارتدى اللّباس العسكري وانضمّ إلى الجيش الأوكرانيّ وإلى قوّات “الدّفاع الإقليمي” وأطلق مبادرة “أجنحة النّصر” لجمع المعونات وتوزيعها على مقاتلي الجيش وغيره من الهياكل الأمنية المنخرطة في الحرب، بما يشمل تأمين الطّعام والدّواء والزيّ العسكريّ والخوذ والدّروع.
وأعلن المفتي الأوكرانيّ وجوب القتال مع الجيش الأوكرانيّ، كما أعلن مفاصلةً شرعيّة مع رموز الإفتاء الإسلامي في الضّفة المقابلة من الحرب، وأعلن أنّ الإسلام يمنعه من مدّ يده إلى هؤلاء المفتين الذين يعلنون أيضًا أنّهم يفتُون باسم الإسلام، فقال: “من المستحيل أن نمدّ أيدينا لقادة المسلمين في روسيا، ديني وكرامتي الأوكرانيّة وضميري لا يسمحون بذلك”.
كما قال: “أولئك باركوا حرب الكرملين الظّالمة على شعب أوكرانيا، وعلى مسلميها، فغاصوا في مستنقع النّفاق لبوتين، ومسلمو روسيا منهم براء، لأنّهم واعون لما يحدث، ويرفضون سفك دماء الأبرياء، من مسلمين وغيرهم”.
في هذا العرض يتجلّى بشكلٍ لا لبس فيه أنّ ما يجري هو زجّ بالإسلام في هذه المعركة بحيث يظهر وكأنّه يحارب ذاته، فالإسلام هو الذي يستخدمه المفتون الموالون لبوتين الخاضعون لرغباته ورؤيته في التّسويغ لحربه وحشد المسلمين لإراقة دمائهم تحت توصيفات شرعيّة كالجهاد في سبيل الله تعالى، وفي المقابل فإنّ مفتي أوكرانيا يجابههم بالإسلام ذاته ويحاربهم بالإسلام نفسه ويعلن عداءه لهم منطلقًا من الإسلام أيضًا.
لستُ في وارد ترجيح إحدى الرّوايتين على الأخرى في هذا المقال، ولكنّ ما أودّ لفت النّظر إليه هو أنّ هذه المنهجيّة المتبادلة بين ضفّتي الحرب لا تنطلق من مرجعيّة الإسلام وتحكيمه في شؤون الحياة بقدر ما يتجلّى فيها استخدام الإسلام في الصّراع، وتوظيف الدّين لخدمة القرارات السّياسيّة والعسكريّة التي لا يملك المسلمون صُنعها ولا حتّى أدنى تأثير فيها في هذه الحرب.
الارتزاق باسم الدّين وتحت ستار الفتوى
مجلسُ الإفتاء الرّوسيّ دعا في بيانه “مسلمي روسيا والعالم للتّوحد من أجل الدفاع عن روسيا”، وهذه الدّعوة بهذه الصّيغة وفي هذا التّوقيت تعني تشكيل جبهةٍ جهاديّة عالميّة تقاتلُ تحت إمرة بوتين، وهي فتوى للمقاتلين للقدوم إلى روسيا للمشاركة في الحرب باسم الشريعة الإسلاميّة.
وفي المقابل دعا رئيس مجلس مسلمي أوكرانيا، سيران عريفوف العالم الإسلامي لدعم بلاده ومسلميها بالوسائل المتاحة كافّة، وبناءً على ذلك افتتحت السّفارات الأوكرانيّة أبوابها لاستقبال متطوّعين في الحرب في العديد من الدّول الإسلاميّة.
المفتون في كلّ طرفٍ من هذه الحرب يتعاملون مع المسلمين المتطوّعين للقتال في جانبهم وجبهتهم على أنّهم مجاهدون يستحقّون الإجلال، في حين يصفون المقاتلين المسلمين في الطّرف المقابل بأنهم مرتزقة يستحقّون الموت.
وفي هذا يقول مفتي أوكرانيا الشّيخ سعيد إسماعيلوف: “كلّ من يقف في صف روسيا لا يقف في صفّ الحق، فموسكو هي التي اعتدت وتهدم بيوتنا وتقتل نساءنا وأطفالنا، وأي مقاتل سوري يأتي للقتال في صفوف الجيش الروسي ضدّنا، يحقّ لنا قتله والدّفاع عن أنفسنا”.
إنّ هذه المواقف تمثّلُ أيضًا تجليًا للزجّ بالإسلام في أتون هذه الحرب واستخدام الشّريعة في التّعامل مع قضيّة الارتزاق التي زكمت رائحتها الأنوف، وذلك من خلال إلباسها ثوب الفضيلة من كلّ طرفٍ للمصطفّين معه، وإلباسها ثوب الرّذيلة في الطّرف المقابل، وكلّ هذا يتمّ تحت ستار الفتوى وباسم الإسلام.
إنّ الزّجّ بالإسلام في هذه الحرب وتوظيفه بما يخدم أجندة بوتين أو أجندة زيلينسكي لا يخدم الإسلام في شيء بل على النّقيض من ذلك يضرّ بصورة الإسلام ويُظهره على أنّه محض مطيّة يمتطيها من يريد تحقيق مآربه السياسيّة والعسكريّة، على الرغم من أن الإسلام في أصله مرجعيّة يصدر عنها المسلمون في معرفة الحقّ من الباطل، ومقتضى هذه المرجعيّة أن نرى الموقف عند المفتين في روسيا وأوكرانيا من هذه الحرب واحدًا متجرّدًا عن مواقف قادة الدّولتين وليس تابعًا لأوامرهما أو رغباتهما أو للعصبيّات القوميّة والإقليميّة والقُطريّة الضّيّقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق