"كورونا" ومستقبل الإنسانية
عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
09-Apr-20
منذ ما يربو على سبعين عاما وقف "برتراند رسل" على أطلال الإنسانية، بعد الدمار الذي حلّ بالعالم على أثر الحرب العالمية الثانية؛ وطفق يبثُّ الأمل ويحيي التفاؤل: "إنّ عصرنا مظلمٌ، ولكن لعل نفس المخاوف التي يوحي بها تصبح مصدرا للحكمة، وإذا أردنا أن يحدث ذلك فلا بد للجنس البشريّ أن يتجنب الاستسلام لليأس في السنوات الخطرة القادمة، وأن يعمل على إبقاء جذوة الأمل في مستقبل أفضل بكثير من أي شيء في الماضي، وليس هذا بمستحيل؛ فنحن نستطيع أن نحققه لو أردنا ذلك".
وكأنّ الرجل كان يقول هذه الكلمات لنا نحن، وكأنّنا المقصودون بها أولا، ولا عجب في ذلك؛ فَلَئِنْ كانت البشرية بعد الحربين الكبيرتين قد أحدق بها اليأس جَرَّاءَ مَا حَلَّ بها من خراب وَيَبَاب، فإنّها اليوم غارقة في لُجَج متلاطمة من القنوط والتشاؤم؛ ليس فقط لاستبداد ذلك الفيروس المتناهي في الضآلة والضحالة، وإنّما لاعتبارات كبيرة ذات دلالات خطيرة، اعتبارات ما كانت لتطفو فوق سطح الوعي الإنسانيّ لولا ذلك الغازي المباغت الذي صَبَّح البشرية ومَسَّاها، واعتقلها في المضاجع والمهاجع!
وتبدو البشرية اليوم في ظل هذا الوباء وكأنّها عادت أمّة واحدة كما كانت يوم خُلقت من أب واحد وأمّ واحدة! تستدعي الرحم وتنشد التراحم، وتحاول أن تستنشق من بعيد نسائم التقوى لله رب العالمين، الذي استحثهم بالأرحام وبالأصل الواحد الذي انحدروا منه جميعا: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا" (النساء: 1).
لكنَّ البشرية التي تعيش هذه الحالة تدرك من أعماقها أنّ هذه المشاعر الإنسانية الفطرية الراقية لن تتغلب على الواقع الجاثم المرير، وأنَّ هذه الحميمية العامّة (رغم اشتداد أُوارها) مؤقتةٌ، وعمّا قريب ستنطفئ، كالنار إذا اشتعلت في قَشٍّ يابس؛ ما أشد استعارها وما أسرع انطفاءها! وتدرك بما تراكم في الوعي وبما ترسب في اللاوعي أنّها لن تُترك لهذه الحالة "العابرة!" إلا بقدر ما تَسْتَقي منها ما تَسْتَقْوِي به على رفع العبء عن كاهل "النظام العالميّ!" حتى لا ينهار؛ وهذا الْمُدْرَكُ الظاهر هو الاعتبار الأول الذي يجعل سفينة الإنسانية ضعيفة خفيفة تتمايل وتميد تحت أمواج اليأس والقنوط!
إنّ البشرية اليوم يائسة بائسة بسبب أولئك الذين يتولون إدارة النظام العالميّ؛ لقد باتت تعرف عدوها الحقيقيّ، وأضحت تدرك "ماذا يريد العمّ سام؟" ووعت جيدا أنّ من يتربعون الآن على قمة النظام الدولي سيشنقون كل بادرة أمل لإحياء الإنسانية وبعث معانيها، وأيقنت أنّ أولئك الذين يَهَبُون الخلق أوهاما بملء الأفواه والأبواق، يسلبونهم أعزّ ما يملكون بملء الجرّافات التي ينهبون بها الثروات، ومع الثروات كل ما يُصلح العباد في المعاش والمعاد.
لم تَعُدْ حالة الفصام النَّكِدِ بين ما يُقال وما يُفعل خافية على أحد، ولم تَعُدْ حالة الخداع الأكبر والخَتَل الأفحش والنفاق الأشد دمامة وقماءة بالتي تحتاج إلى التماس دليل أو برهان، هذه الحالة الْمُدْرَكة بكافة آلات الإدراك ليست ناتجة عن هواجس أو وساوس، وإنّما هي متولدة من حقائق صادمة، صدرت بها تقارير علمية معتمدة، من مؤسسات إذا تكلمت فهي الـ"شاهد من أهلها".
فعلى سبيل المثال: منذ عهد قريب "نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن دراسة عن نظام العلاقات الأمريكية الدولية، مؤداها أنّه بينما تقدم الولايات المتحدة خدمة "لسانية" للديمقراطية؛ فإنّ التزامها الحقيقيّ هو لـ"المشروعات الرأسمالية الخاصة" وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد؛ فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولا بأس أن يحل محلها حكام التعذيب والقتل".
أمّا الاعتبار الثاني الباعث لليأس والقاتل للأمل فهو ذلك التخريب الذي يرتكبه الإنسان المعاصر ضد البيئة، وضد كل ما هو نافع للإنسان ولكافة الأحياء على هذا الكوكب؛ "فالجنس البشري جعل موطنه (الأرض) مكانا غير صالح للسكن بخطى سريعة، ويعتقد علماء المناخ أننا وصلنا لمرحلة خربنا معها كوكبنا بشكل لا مفر منه"، وهذه خطيئة كبرى تضاف للكبائر التي اقترفها العالم المعاصر؛ إذ "إنَّ ثلاثة قرون من النمو العلمي والتكنولوجي قد تركت حضارتنا في وضع يتعذر الدفاع عنه، وجعلتنا في نزاع مع البيئة الطبيعية"، وهذا يجعل الشعور باليأس من صلاح العالم وخلاصه من الأوبئة والكوارث يتعاظم؛ وكأنّنا أمام المصير المحتوم: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم: 41).
وليت التخريب الذي وقع وقف عند حد البيئة وما يحيط بها؛ إذاً لهان الخطب رغم ضراوته، ولكنّه امتدّ ليطمس الفطرة الإنسانية ويصنع من الإنسان كائنا اقتصاديا ماديا، لا علاقة له بما ينبغي أن يكونه الإنسان الذي فطره الله مفضَّلا على سائر الخلائق.
إنّ القائمين على إدارة النظام العالميّ الآن من خلال العولمة وتحرير السوق يهدمون الأخلاق ويدمرون الإنسانية، إنّهم "يقولون لنا يجب أن نتعلم أخلاقا جديدة، هي أخلاق العقل المتجرد، لا بد أن نتعلم كيف ندع الناس يموتون بزعم البقاء النهائي للجنس البشريّ"، وإنّهم من أجل ملء خزائنهم يصنعون للناس آلهة جديدة يعبدونها ويتحنثون في محرابها ليل نهار، كـ"تأليه الإنتاج"، أو بحسب تعبير "جان بودريار": "صنمية السلعة".
هذان اعتباران هامّان بارزان، ووراءهما اعتبارات أخرى بارزة، لكنها رغم بروزها صماء لا تفصح عن نفسها بسهولة، هذه الاعتبارات تجعل الاستجابة لدعوات التفاؤل وإحياء الأمل ضعيفة وبطيئة، فأين السبيل؟ وكيف الاهتداء إليه؟
إنّ القرآن الكريم الذي نزل لإسعاد الإنسان في حياته الدنيا وفي الآخرة قد أشار إلى موضع الداء إشارة سريعة ولكنها مُحَفِّزَةٌ؛ وذلك في قول الله عزّ وجلّ: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا" (الإسراء: 16)
فالمترفون القابعون فوق قمة الهرم المسمى بالنظام العالميّ فسقوا في الأرض وأشاعوا في أنحائها وأطرافها الفسوق، واستثمروا أموالهم في كل ما يحط من قدر الإنسان ويهبط به ويبعده عن ربه وخالقه، واستعبدوا العباد وركبوا ظهور الخلق من أجل ملء خزائنهم، ولا غضاضة عندهم بعد ذلك إذا فسد هذا العالم أو حل به الدمار والبوار.
وطريق البشرية للخروج من هذه الحالة البائسة هو العودة إلى الله، والثورة على تلك الهياكل القميئة التي لا تخدم إلا مصالح المرابين الذين يستحوذون على مقررات الأرض ومقدرات الخلق بما يملكون من شركات عابرة للقارات، تلك الهياكل (العالمية والدولية والأممية!) وما يدور في فلكها من أنظمة لم تعد سوى آلات كتلك التي تدير بها شركات المرابين رحى الإنتاج، هذا هو الطريق لا غير وإن سخر منه الساخرون أو تجاهله عن عمد أولئك الذين لا يريدون للناس خلاصا من هذا البؤس ولا فكاكا.
لا سبيل للخلاص إلا بالعودة إلى الله؛ فما أرحمه بالعباد! وما أسرع ما يقبل عليهم إذا أقبلوا عليه! وما أروع ما يجيبهم إذا دعوه مخلصين له الدين! "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ" (النمل: 62).
وما أنفع وأيسر ما يأمرهم به إن فاءوا إلى ظلال رحمته ورحاب شريعته! "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النمل: 90).
هذا هو سبيل الخلاص، وهذا هو مناط الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ولا نملك أن ندعي أن زوال الوباء لن يكون إلا بهذا؛ فإنّ هذا الادعاء افتئات على الله ومزايدة على الحق، فإنّ لله تعالى سننا تمضي في الخلائق، من هذه السنن أنّ الله وضع لكل داء دواء؛ ومن ثم فإنّ الرجاء في نجاة البشرية من هذا الوباء ومن غيره قائم، ولكنّ الخلاص غير دائم؛ لأنّ من سنن الله أيضا: "فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)" (الأنعام: 43-44).
نعوذ بالله ونعيذ الإنسانية بخالقها وباريها من أن يحل بالعباد كارثة كونية لا يتوقعون من أي جهة تأتيهم: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ" (الأنعام: 65).
ونسأله سبحانه وتعالى أن يرفع هذا البلاء ويزيل هذا الوباء، ويرحم الإنسانية كلها من هذه الجائحة، ويهدي من ضل من عباده إلى صراطه المستقيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق