قاطرة التشيع الإيرانية
أمير سعيدقبل تسعة أعوام، كتبتُ في مجلة «البيان» الغراء، مستنكراً تعامي واشنطن عن إرهاب الحوثيين، وصمتهم على اعتداءاتهم على الجيران مستدلاً بشواهد كثيرة، وختمته بالقول إن «الأخطر: هو مسار مصالحة بين (دولة) و(إرهاب)..
في المنطقة، أين تجد واشنطن نفسها أقرب؟ يجيب روبرت بير خبير الـ«سي آي إيه» بإيجاز، فيقول صراحة: «سنعطي إيران النفوذ في أفغانستان وباكستان، وسندعمها اقتصادياً. إن أمريكا ستتحالف مع طهران، وستتحول عن تحالفاتها السابقة في الخليج وسيتحول الهلال الشيعي إلى دائرة شيعية في الشرق الأوسط. وهي بالطبع دائرة شيعية تمتد في إيران والعراق وسوريا ولبنان وغزة والضفة واليمن ودول الخليج وفي كل مكان. لن يوقف أحد التقدم الإيراني لمد نفوذه؛ وهل يستطيع أحد إيقاف المطر من السماء؟ إنه قَدَر. إن باراك أوباما اسمه الوسط حسين؛ إنه يتماهى مع الشيعة؛ إنه ليس ابن تيمية»[1].
لم يجافِ هذا الاقتباس الذي يمتد زمنه لنحو عقد من الزمان الحقيقة إلى اليوم قيد أنملة، فقط يمكننا أن نستبدل، ترمب بأوباما، وإذا كان ترمب لا يتوسط اسمه حسين؛ فإنه هو الآخر ليس ابن تيمية! وهو أيضاً يتماهى مع الشيعة، ولم يجن المتأملون منه في الملف الإيراني، والشيعي سوى الكلام!
قبل تسعة أعوام، كتبتُ في مجلة «البيان» الغراء، مستنكراً تعامي واشنطن عن إرهاب الحوثيين، وصمتهم على اعتداءاتهم على الجيران مستدلاً بشواهد كثيرة، وختمته بالقول إن «الأخطر: هو مسار مصالحة بين (دولة) و(إرهاب).. وربما مبعوث سلام! إنها الحقيقة التي لا بد أن يدركها العرب قبل بكاء غرناطة»[2].
مبعوث السلام هذا، بين «دولة» و«إرهاب»، قد مرت السنون وجاء وباشر عمله وخلفه غيره، ولم يكتف حتى بدور الوسيط بين «الشرعية» و«الانقلاب» في واحدة من تعديات الأمم المتحدة على ميثاقها و«شرعتها»، بل في الأخير، صارت مساندة المبعوث للانقلابيين الحوثيين فاقعة، وأكثر من مجرد «فضيحة عابرة» لاسيما حين غضت الأمم المتحدة عن مسرحية تسليم الحوثيين ميناء الحديدة اليمني لخفر السواحل اليمنيين، الذين هم بالأساس جزء من مليشيات الحوثي، قد بدلوا ملابسهم بالكاد قبل وصول المبعوث الأممي ليرتدوا ملابس خفر السواحل، ليسلم الحوثي للحوثي مهام حماية الحديدة تحت عين الأمم المتحدة وبصرها، في واحدة من أكبر الفضائح الأممية على الإطلاق في اليمن!
لم تبدأ هذه الكوميديا السوداء في علاقة الغرب بإيران من هذا المشهد في الحديدة اليمنية، فتاريخ الغرب مع إيران مفعم بهذه المشاهد والمفارقات منذ أن بدأ الغرب عداءه الشكلي للثورة الإيرانية في نشأتها ولم تنته اليوم؛ فعلى مدى أربعة عقود مكنت الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود العالم الغربي إيران من كل مصادر القوة في المنطقة، وسمحت لها بأن تصبح قوة بازغة جداً في سماء «الشرق الأوسط الجديد»، بل ساعدتها بقوة في أن تكون كذلك.
وطئت قدم الخميني مرشد الثورة الإيرانية طهران في الأول من فبراير عام 1979م وانهار عرش الطاووس الشاه، ليبدأ معه عداء قشري بين واشنطن وطهران، وسمح من خلاله بتمدد هائل لطهران لم تحظه إبان حكم الشاه، وفرضت فيه عقوبات هزيلة لم تؤثر أبداً على انطلاق الثورة الإيرانية ومطامعها في المحيط الإقليمي، والدولي أيضاً. قامت علاقة تبادلية استفادت فيها واشنطن على أكثر من صعيد؛ فقد استخدمت فيها إيران كفزاعة حقل نفطي هائل يمتد من العراق حتى دول الخليج، وبيعت آلاف الأطنان من الأسلحة الأمريكية منذ الحرب العراقية الإيرانية وحتى الآن، مروراً بحربي الخليج، وضخت تريليونات الدولارات في الخزينة الأمريكية.
وعلى صعيد أكثر أهمية بكثير، سعت الولايات المتحدة لوضع إيران كقاطرة للعالم الإسلامي بدلاً عن القوى الإسلامية السنية التقليدية، وفي سبيل ذلك، مهدت لها الطريق لاحتلال دول، ومد نفوذ، ونشر تشيع.
ألجمت في المقابل كل القوى الناعمة السنية عن أن تركض في ميادينها المعروفة؛ فأوقفت تدريجياً جميع الجمعيات الخيرية الإسلامية السنية، وقطعت شرايين الدعوة الإسلامية في أوربا والعالم، وأفسحت المجال في المقابل للقوى الشيعية في العالم التي تأتمر بأوامر دهاقنة طهران.
بدأ المخطط تدريجياً، لكنه أخذ منعطفاً خطيراً في النهاية، تتويجاً لترويض المنطقة تماماً بعد سلسلة من المحطة التي أُمِرّت بها قسراً؛ فكانت محطة احتلال الكويت، ثم أحداث 11 سبتمبر التي اتخذت ذريعة لغزو العراق ووقف العمل الخيري السني تماماً، وانتهت بما سُمي بالربيع العربي، الذي نجم عنه مآسي سوريا واليمن وليبيا ومجازرها.
صار العقد الأخير، هو عقد حبل الولايات المتحدة الذي مُد لإيران بوضوح؛ فأتيح لها أن تتمدد عسكرياً وأيدلوجياً. منذ ذلك الحين، تشكلت عشرات من المليشيات الشيعية في المنطقة من أفغانستان وحتى سوريا، وسُمح لـ«حزب الله» بأن يقوم بتدريب العديد من الفروع له برغم وضعه على قوائم الإرهاب لعدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها!
مبكراً، لم توفر إيران وقتاً بعد إنجاح ثورتها؛ فشرعت في إنشاء «حزب الله» أوائل الثمانينات بعد محاولات تمهيدية بذريعة مقاومة الكيان الصهيوني، بموافقة واحتضان من النظام السوري حينها، ومارس الحزب من حينها عملية دقيقة لحصر حق المقاومة في لبنان عليه ومنع أي مقاومة فلسطينية من القيام بأي هجوم على الكيان الصهيوني، وعندما أحكم قبضته على لبنان بدأت عملياته ضد الكيان الصهيوني تخف تدريجياً، حتى خمدت تماماً في أعقاب حرب 2006م، والتي أسفرت على تبريد الجبهة الشمالية لفلسطين تماماً، ومنذ أكثر من عقد لم يطلق رصاصة على الكيان الصهيوني، وتكفل بحمايته.
وبرغم وضع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية والعربية الحزب على قوائم الإرهاب، إلا أنه سُمح له بالتمدد في كثير من بلدان المنطقة؛ فقد ساهم مع الحرس الثوري الإيراني في إنشاء الفرع الأبرز في العراق، كتائب «حزب الله العراقي»، والذي تشكل في العام 2006م بتمهيد مسبق مع بدء الاحتلال الأمريكي للعراق من خلال تشكيل بعض الكتائب ثم توحدها في الحزب، وقد كانت ذريعة إنشاء الحزب هي مقاومة الاحتلال الأمريكي، لكن بالطبع هذا ما لم يحدث أبداً، وقد غض الأمريكيون الطرف عن نشاط الحزب وتمدده في العراق، وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق شارك الحزب في عملية تحويل العراق إلى النمط العسكري الإيراني (جيش وحرس ثوري)، فقد أنيطت بمليشيات شيعة أحزاب إيران العراقية - ومن بينها الحزب - إقامة الحرس الثوري العراقي (الذي عرف بالحشد الشعبي)، وساهمت مسرحية إنشاء دولة داعش وتضخمها وانكماشها السريع في تهيئة المناخ لشرعنة عمل «حزب الله العراقي» أحد فصائل الحرس الثوري العراقي.
وبطريقة مختلفة فقط في التفاصيل، اختارت إيران تشكيل «حزب الله اليمني»، الذي اختير له اسم مرادف نوعاً ما، وهو «أنصار الله»، وأوكل للحزب اللبناني تدريب كوادر نظيره اليمني، العسكرية والسياسية والإعلامية، «وأصابع الحزب التي تمارس التخريب في اليمن لا تخفى على عين المراقب الحصيف، فالضاحية الجنوبية تحتضن منذ سنوات، القيادات السياسية والإعلامية للجماعة المتمردة، وتحولت إلى منصة لانطلاق تحركات قيادات الجماعة في الخارج، وبالطبع في قلبها إيران، التي أوكلت إلى «حزب الله» مهمة الإشراف المباشر على اليمن»[3].
واللافت في السياق ذاته، أنه منذ إنشاء «حزب الله» الكويتي أوائل الثمانينات، والذي اتهم بالمسؤولية عن محاولة اغتيال أمير الكويت في العام 1985م، وتفجيرات الحرم في العام 1989م، وإنشاء «حزب الله» البحريني، علاوة على اللبناني والعراقي واليمني، ثم إنشاء المليشيات الجديدة، لم تفعل الولايات المتحدة وأوربا شيئاً يذكر من أجل وقف أنشطتها الإرهابية، وزيد على ذلك أن الحزبين اللبنانيين والعراقي قد حظيا بمساندة أمريكية مباشرة في مسرحيتي داعش في العراق ولبنان، في الأولى في معارك جرف النصر وآمرلي وتكريت وبيجي وسامراء والكرمة والصقلاوية والفلوجة والموصل، وفي الثانية في معارك عرسال اللبنانية، وكلاهما تم بمساندة أمريكية جوية.
غير أن الوضع في سوريا كان فاضحاً جداً، لجهة المساندة الأمريكية لـ«حزب الله» اللبناني وغيره من المليشيات الموازية التي ارتكبت مجازر لا حصر لها في سائر المدن السورية، وعمدت إلى إنشاء جبهة شيعية تحيط بالعاصمة السورية دمشق، بغوطتيها، على غرار الضاحية الجنوبية في لبنان، تهدف إلى ضمان أمن الكيان الصهيوني عبر التغيير الديمغرافي في هذه المنطقة الإستراتيجية التي تبعد أقل من مئة كيلو متر عن الحدود الشرقية الشمالية لفلسطين المحتلة، على غرار ما تم في الجنوب اللبناني منذ ثمانينات القرن الماضي.
وعلى تعاقب الرؤساء الأمريكيين؛ فإن مصالح الحزب، وإيران من خلفه، لم تمس بالمرة، وسمح لها بالانسياح عسكرياً، وأحيطت عملية التشييع التي جرت في العراق وسوريا بعناية أمريكية، وفي خارج المنطقة، لم تمس أيضاً عمليات التشييع التي يقوم بها الحزب وإيران في إفريقيا وآسيا، لاسيما غرب إفريقيا وإندونيسيا.
فعلى صعيد الدعوة أو «التبشير»، قيدت حركة جميع الفعاليات السنية حول العالم، وأتيح لجحافل التشييع في العالم التحرك، وبجردة حساب بسيطة يمكن مقارنة حال الجمعيات الخيرية الإسلامية السنية، ونظيرتها الشيعية (إن جاز التعبير)، فالأولى دمغت جميعها بالإرهاب، سواء المتورطة فيه - وهي نادرة - أم البريئة، وتم منع هذه الجمعيات من تلقي تبرعات الأفراد وغيرهم، وأجبر ما تبقى منها على التخلي عن دمج الدعوة مع الإغاثة، وأوقفت جميع الفعاليات والزيارات الدعوية السنية في العالم.
وعلى هامش ما تقدم؛ فإن الاستناد إلى ذريعة استفادة الإرهابيين من تنظيم القاعدة من علاقته بإحدى تلك الجمعيات، قد سحب شره على جميع الجمعيات الخيرية الإسلامية السنية؛ فأغلقت أو حيدت، وهذا يحيل إلى دور هذا التنظيم في وقف العمل الخيري والدعوي في العالم، ودوره في إجهاض المقاومة العراقية، ودوره وشقيقه داعش في التمهيد للنفوذ الإيراني الواسع في سوريا واليمن والعراق، ما يضيف أدلة أخرى على ارتباطهما بإيران وعملهما جنباً إلى جنب مع «حزب الله» وأشقائه في توسيع دائرة النفوذ الإيراني ولجم الدعوة الإسلامية الصحيحة، وإفساح المجال لاحتكار المنظمات الشيعية في العالم للدعوة لأفكارها من دون نظيرتها السنية.
الواقع أنه بعد أربعة عقود من إنجاح الثورة الإيرانية؛ فإن ما يمكن استنتاجه مؤخراً أنه برغم سفك دماء مئات الآلاف من المسلمين السنة في العراق وسوريا واليمن على أيدي مليشيات شيعية عديدة تتجاوز أعدادها مئة مليشيا، وبرغم ممارسة «حزب الله» وتفرعاته وأفراخه في المنطقة للإرهاب، وبرغم ترابط الحزب مع الجمعيات الدعوية و«الخيرية» الشيعية في العالم، إلا إن العالم قد غض الطرف عن تلك العلاقة وفتح المجال رحيباً لعملها في مقابل تضييق كامل على الجمعيات الإسلامية السنية، الدعوية والإغاثية، والتي لم تمارس أي لون من ألوان الإرهاب، كما أن حركة الدعاة الشيعة لم تزل مطلقة وناشطة جداً في أوساط الأقليات المسلمة في العالم، بخلاف حركة الدعاة السنة التي كادت أن تتوقف تماماً مع وقف الغرب أبوابها أمامهم، ونظر العالم بريبة مصطنعة لأنشطة الدعوة الإسلامية.
ما يستخلص أيضاً، أن الطريق صارت ممهدة تماماً أمام الإيرانيين، ومليشياتهم في مساحة واسعة في العالم الإسلامي، بحبل وثيق من الغرب الذي يعادي إيران قشرياً ويخفي لباً من التعاون الكبير لتسييد التشيع، وتسويد إيران في مقدمة العالم الإسلامي، أو هكذا يراد.
[1] مجلة الوطن العربي، 4/11/2009م.
[2] «أين الولايات المتحدة من الحوثيين؟!» مجلة البيان عدد صفر 1431هـ.
[3] افتتاحية الخليج الإماراتية، 21/8/2018م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق